يوم دخول الأمير فيصل بن الحسين إلى مدينة دمشق في 3 تشرين الأول 1918، أمسك بيد مفتي الشّام، الشيخ أبو الخير عابدين، وتوجه معه إلى ساحة المرجة لتلاوة الفاتحة على أرواح الشهداء الذي أعدموا فيها قبل سنتين، على يد جمال باشا سنة 1916.
كانت بيعة المفتي ضرورية جداً بالنسبة له، لأن دمشق وعبر تاريخها الطويل كانت تُحكم دوماً من أسواقها العتيقة ومن على منابر جوامعها العريقة، وهو ما أدركه فيصل من لحظة دخوله المدينة، معلناً تحريرها من الحكم العثماني.
في كتابه القيّم "شام شريف"، يقول الباحث الدمشقي الدكتور محمد شريف الصوّاف: "كان الافتاء بدمشق قبل العثمانيين غير محصور بأحد العلماء، ولم يكن تنصيب المفتيين متعلقاً بالسلطان أو غيره من رجال الدولة". ويُضيف الصوّاف أن السلطان سليم هو أول من عيّن مفتياً لكل مذهب سنة 1516، وكان مفتي الحنفية يسمّى يومئذ بمفتي دمشق.
وكان أول من تولّى هذا المنصب الشيخ محمد بن رمضان، وقد تعاقب عليه عدد كبير من العلماء، كان آخرهم في العهد العثماني هو الشيخ أبو الخير عابدين (1852-1925)، الذي عُيّن مفتياً في عهد السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1903، وظلّ في منصبه حتى سقوط الحكم العثماني في سورية وتولّي الأمير فيصل زمام الأمور سنة 1918.
دخل الأمير فيصل دمشق، أمسك بيد مفتي الشّام، الشيخ أبو الخير عابدين، وتوجه معه إلى ساحة المرجة لتلاوة الفاتحة على أرواح الشهداء الذي أعدموا فيها قبل سنتين، لأن دمشق وعبر تاريخها الطويل كانت تُحكم دوماً من أسواقها العتيقة ومن على منابر جوامعها العريقة
كان المفتي عابدين في السادسة والستين من عمره سنة 1918، وقد خدم في الماضي في قضاء دوما وبعلبك، وكان من أعلام عصره. ولكن اتهامات شتى قد وُجّهت له من القوميين العرب، لرفضه دعم الثورة العربية الكبرى وعدم اعتراضه على إعدامات جمال باشا. وفي حفل استقبال الأمير فيصل في مبنى البلدية بساحة المرجة، وقف المفتي عابدين وقال: "إن لكل أمير بطانتين، بطانة تزيّن له الحق وتحضّه عليه وبطانة تزيّن له الباطل وتحضّه عليه، فعليك ببطانة الخير".
لم تُعجب هذه الكلمات أمير البلاد ولا رجالاته الذين حرّضوا ضد الشيخ عابدين وأقنعوا فيصل بإقصائه في 11 أيار 1919. عاد أبو الخير عابدين إلى الخطابة في جامع الورد بحيّ سوق ساروجا، وتسلّم منصب الإفتاء من بعده الشيخ عطا الله الكسم (1844-1938)، ليكون أول مفتٍ عام للجمهورية السورية عند إنشائها في زمن الانتداب الفرنسي عام 1932.
المفتي الأول: الشيخ محمد عطا الله الكسم (1918-1938)
كان الشيخ الكسم من أعيان دمشق، ومن أشهر علمائها، وقد بدأ حياته مدرّساً في مدرسة مكتب عنبر، وكان يُلقي الدروس الدينية في الجامع الأموي. وقد ذاع صيته سنة 1916 عندما اعترض على قرارات الإعدام الصادرة عن جمال باشا، معتبراً أن جميع الشخصيات المدانة بالخيانة العظمى ضد الدولة العثمانية كانوا ضحايا مؤامرة كبرى من بريطانيا وفرنسا، محذراً من خطورة إعدامهم، نظراً لمكانتهم الرفيعة في المجتمع السوري.
أشرف المفتي الكسم على مراسيم تتويج الأمير فيصل ملكاً على البلاد في 8 آذار 1920، ثم دعا إلى الجهاد ضد الفرنسيين بعد اعتراضهم على ملك سورية الجديد وإرسالهم جيشاً جراراً للقضاء على حكمه في دمشق. وقد لعب المفتي الكسم دوراً كبيراً في جمع التبرعات للجيش السوري وجال على المدن السورية لحثّ الشباب على التطوع للخدمة العسكرية، وعلى يده تم تجنيد العشرات من أئمة المساجد والخطباء للذهاب إلى معركة ميسلون مع وزير الحربية يوسف العظمة يوم 24 تموز 1920.
ظلّ المفتي في منصبه بعد خلع الملك فيصل عن عرش سورية وفرض الانتداب الفرنسي، وفي سنة 1924 كان له نشاط كبير في محاولة إنقاذ الخلافة الإسلامية بعد أن قرر الرئيس كمال أتاتورك إلغاءها في تركيا. كما شارك في تأسيس جمعية الهداية الإسلامية في منتصف العشرينيات، وعمل ضمن صفوفها حتى وفاته عن عمر ناهز 94 عاماً يوم 7 آب 1938.
وبذلك، تعاقب على فترة الكسم مراحل مختلفة من تاريخ سورية، فكان مفتياً على المملكة السورية ثم على دولة دمشق، ثم على دولة الاتحاد السوري وبعدها على الدولة السورية، وصولاً إلى الجمهورية السورية التي ولدت مع انتخاب محمد علي العابد رئيساً في حزيران 1932.
المفتي الثاني: الشيخ محمد شكري الأسطواني (1938-1955)
ظلّ منصب الإفتاء شاغراً بعد وفاة عطا الله الكسم، بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية التي اندلعت سنة 1939، ولم يُعيّن مفتياً بديلاً عنه حتى سنة 1941 في عهد رئيس الجمهورية تاج الدين الحسني. وكان المفتي الجديد الشيخ محمد شكري الأسطواني (1873-1955) من أعيان كبرى العائلات الدمشقية ومن فقهاء المذهب الحنفي. في عهده، كانت المواجهة الكبرى مع الفرنسيين التي أدت إلى قصف العاصمة دمشق في 29 أيار 1945.
أعلن الجهاد ضد دولة الانتداب وشارك في احتفالات الجلاء الأولى في 17 نيسان 1946. كما أفتى الأسطواني بالجهاد المقدس في فلسطين سنة 1948، وعارض مفاوضات الهدنة مع إسرائيل التي جرت في عهد حسني الزعيم. وقد ظلّ في منصبه على الرغم من الانقلابات العسكرية التي عصفت بالبلاد والعباد منذ سنة 1949، وتوفي في دمشق سنة 1954.
في حفل استقبال الأمير فيصل في مبنى البلدية بساحة المرجة، وقف المفتي أبو الخير عابدين وقال: "إن لكل أمير بطانتين، بطانة تزيّن له الحق وتحضّه عليه وبطانة تزيّن له الباطل وتحضّه عليه، فعليك ببطانة الخير"
المفتي الثالث: الشيخ أبو اليسر عابدين (1955-1963)
من أشهر مفتي سورية والعالم العربي، كان الدكتور أبو اليسر عابدين (1889-1981) عالماً فقيهاً وطبيباً ماهراً، مارس مهنة الطب إضافة لعمله الشرعي، وهو نجل المفتي الأسبق الشيخ أبو الخير عابدين. عرفته دمشق مدرساً في جامعتها في كليتي الطب والشريعة وخطيباً في جامع الورد، وكان قد تولّى القضاء الشرعي في بعلبك كما شارك في الثورة السورية الكبرى سنة 1925.
وقد حافظ الدكتور عابدين على مقعده التدريسي في جامعة دمشق، أستاذاً لمادة الأحكام الشرعية، وفي قسم الأمراض الداخلية حتى منتصف العام 1949، عندما تم عزله من قبل حسني الزعيم بسبب موقفه المؤيد للرئيس شكري القوتلي، ورفضه تأييد الانقلاب العسكري الذي أطاح به وبحكمه.
انتُخب الدكتور أبو يسر عابدين مفتياً على سورية، خلفاً للشّيخ الأسطواني، في يوم 12 حزيران 1954. وفي سنة 1956 لعب دوراً هاماً في إطلاق أسبوع التسلّح الذي دعا إليه الرئيس القوتلي بعد عودته إلى الحكم. شُكّلت لجنة للإشراف على المشروع وكان المفتي عابدين من ضمنها، واستطاعت جمع 25 مليون ليرة سورية لصالح الجيش السوري.
أيّد المفتي عابدين الوحدة السورية المصرية عند قيامها سنة 1958 ولكنه اصطدم مع الرئيس جمال عبد الناصر عند صدور قرارات التأميم في تموز 1961، فتم تسريحه في 16 آب 1961. ولكنه أعيد إلى منصبه بعد انهيار الجمهورية العربية المتحدة في 28 أيلول 1961، وظلّ مفتياً لغاية 8 آذار 1963، عندما سرح مجدداً في عهد الفريق لؤي الأتاسي، رئيس مجلس قيادة الثورة. وقد عاد بعدها إلى التدريس والخطابة في جامع الورد، إضافة للعمل في عيادته الطبية حتى وفاته في 2 أيار 1981.
المفتي الرابع (بالوكالة): الشيخ عبد الرزاق الحمصي (1963-1964)
تسلم الإفتاء من بعده الشيخ عبد الرزاق الحمصي (1900-1969)، وهو عالم وفقيه، سبق له أن كان خطيباً في جامع الروضة ومديراً للثانوية الشرعية في التكية السليمانية. وقد بدأ حياته مدرساً في قضاء وادي العجم (قطنا والكسوة وما حولهما) ثم مدرساً دينياً في دار الفتوى وخطيباً في جامع عيسى باشا بشارع النصر. وقد ظلّ في منصبه حتى 4 تشرين الثاني 1964، عند استبداله بالشيخ أحمد كفتارو.
المفتي الخامس: الشيخ أحمد كفتارو (1964-2004)
من أشهر رجالات عصره، كان الشيخ أحمد كفتارو (1915-2004) مجدداً في الدين وعالماً متصوفاً، شارك في تأسيس رابطة العلماء وانتُخب مفتياً على مدينة دمشق سنة 1951. وقد خلف الشيخ الحمصي في منصبه وكان أطول المفتين عمراً واستحقاقاً وأكثرهم إنجازاً. عرف عنه سعيه لتقارب الأديان وحوار الحضارات، تحديداً بعد أحداث 11 أيلول، وفي عهده كانت زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى سورية وزيارته الشهيرة إلى الجامع الأموي.
وفي سنة 1971 أسس مجمع سيدي أبو النور بدمشق، الذي تحوّل اسمه إلى مجمع الشيخ أحمد كفتارو، وهو يضم مسجداً ومعهداً شرعياً وجامعة إسلامية وعدداً من الجمعيات الخيرية، وقد ذاع صيته كصرح علمي إسلامي في كافة أرجاء العالم، من أقصى شرق آسيا إلى الأمريكيتين. وقد توفي الشيخ أحمد كفتارو في 1 أيلول 2005، بعد أربعين سنة على توليه منصب الإفتاء، وخلفه الشيخ أحمد بدر الدين حسون، الذي ظلّ في منصبه حتى إلغاء المنصب كلياً قبل أيام ونقل جميع صلاحياته ومهامه إلى المجلس العلمي الفقهي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...