شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عبودية الروائح النتنة... يوميات غاسل صحون في فنادق أربيل

عبودية الروائح النتنة... يوميات غاسل صحون في فنادق أربيل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 15 نوفمبر 202104:54 م

تساءلتُ مراراً كيف يفكر النادل؟ كنت أحدّق في وجهه، أهم بسؤاله، هل تقديم الطعام للزبائن هو ارتطامك الأول بالبؤس أم أن بؤساً أكبر دفعك إلى هذه الجحيم، إلى أن عملتُ مرّة في فندق ضخم يطل على شاطئ البحر في مدينة اللاذقية في سوريا. هناك التقيت غاسل صحون، توقفت عن طرح الأسئلة، فالروائح الكريهة كانت كفيلة بالإجابة عن أسئلتي وطرح المزيد منها أيضاً.

تنقسم الحياة داخل الفنادق قسمين، الأول يُظهر ربطات العنق السوداء الأنيقة، الكؤوس والأطباق اللامعة، المفارش البيضاء الناصعة، الابتسامات للزبائن، الطعام الشهي، أما الثاني فيقبع تحت الأرض، يبدأ من الباب المخصص لدخول العمّال وينتهي في المطبخ.

دفعتني تجربتي للبحث عن كتاب يتحدث عن قوانين الفنادق، من وضعها؟ كيف نشأ هذا الجحيم تحت الأرض؟ لماذا يلقى غاسل الصحون مصيراً كهذا؟ أجاب عن أسئلتي الكاتب الإنجليزي جورج أورويل في روايته المعروفة "مشرداً في باريس ولندن".

بؤس غاسلي الصحون

جسّدت هذه الرواية كل ما اختبرته أثناء عملي. إذاً، غاسلو الصحون هم متشابهون في جميع بلدان العالم. إنهم الأدنى مرتبة والأكثر بؤساً.

يحكي أورويل عن كاتب إنجليزي فقير في باريس، يبحث عن عمل، فيلتقي صديقه الضابط الروسي السابق، وينتهي الأمر بهما إلى غسل الصحون في أحد فنادق باريس.

عندما قرأت وصف أورويل للباب المخصص لدخول العمّال، شعرتُ أنه يصف الفندق الذي عملتُ فيه، يقول: "كان فندق س مبنى واسعاً فخماً، ذا واجهة كلاسيكية، وفي أحد جوانبه مدخل مُظلم صغير مثل جحر فأر، وهو لدخول العمّال".

فيما يلي تجارب ثلاثة شبان من سوريا ومصر والعراق، يعملون غاسلي صحون في مطابخ فنادق مدينة أربيل العراقية، حيث لا يمكنك إلا أن تشم روائح بقايا الطعام، وأكياس القمامة، والطناجر الكبيرة المنقوعة بالمياه، ومقالي البيض النتنة، والأرضية المصبوغة بزيت القلي.

 "في البداية لم نتحملها (الروائح النتنة)، تقيأنا مرات عدة حتى اعتدناها، ثم أضحت كرائحة ثيابنا، ورائحة فقرنا أيضاً"

هشام (22 عاماً)، سوري من ريف اللاذقية، فشل في إكمال دراسته حتى الثامنة عشرة من عمره، هارب من الخدمة الإلزامية، أضحى أمام خيارين إما الالتحاق بالخدمة الإلزامية أو السفر، فقرر الذهاب إلى أربيل، حالماً بالسفر إلى أوروبا عندما تسنح له الفرصة. الآن، يعمل في أحد فنادق أربيل غاسل صحون، وهو نحيل الوجه، وهادئ، وبلا شارب أو لحية.

سألته أين شاربك؟ أجاب: "غاسل الصحون لا ينمو له شارب، أما الطبّاخ فيسمح له بإطلاق شاربه".

كنت أتوقع إجابته هذه، فأنا عملتُ في فندق سابقاً، كان غاسلو الصحون يشتكون دائماً من الحساسية الجلدية التي تظهر فوق أفواههم، نتيجة للحلاقة المستمرة للشارب واللحية، لكن لم أفهم يوماً لماذا غاسل الصحون بلا شارب، أجابني أورويل في روايته: "في ثالث يوم لي في الفندق، استدعاني رئيس المستخدمين، قال بحدّة: "اسمع أنت، احلق تلك الشوارب حالاً، يا إلهي! من سمع بغاسل صحون له شارب".

رأيتُ أنها أصول متبعة، فيما بعد وجدتُ شرحاً، هو أن النُدل في الفنادق الجيدة هم بلا شوارب، ومن أجل أن يظهروا أنهم أعلى منزلة، قرروا أن غاسلي الصحون بلا شوارب أيضاً، أما الطهاة فيحتفظون بشواربهم، إظهاراً لاحتقارهم للنُدل.

إن هذا يقدم فكرة عن النظام الفئوي الواضح في الفندق، فالعمّال يتدرجون حسب مستوى دخلهم، فكيف سيكون الأمر مع غاسل صحون يتقاضى 300 دولار أمريكي في الشهر، والطبّاخ نحو 1200.

أسرار الاستيوارد

يقول هشام: "أعمل في قسم الاستيوارد، أي كل ما يتعلق بالمطبخ، نمتثل لأوامر الطهاة، نعمل أثناء الحفلات بمبلغ إضافي رمزي، في بعض الأحيان، لا نحصل عليه، ولا ننجو من العقاب، فيذهب مالنا بسبب شكوى من الطبّاخ، أو بسبب كسرنا كأساً عن طريق الخطأ، أو بسبب مخالفتناالقوانين، وتناولنا سندويش خارج الكافيتريا المخصصة لنا".

ما هي مهمتكم؟

يجيب: "نحافظ على نظافة الأواني والأطباق وكل ما يتعلق بخدمة الطعام والشراب، مع التعقيم المستمر، وترتيب معدات الخدمة، والمحافظة على نظافة البرادات والأفران والمستودعات الخاصة بأقسام الطعام، وترحيل القمامة، وغسيل وتعقيم منطقة الترحيل جيداً بعد إفراغها".

ويصف هشام لرصيف22 كافيتريا غاسلي الصحون: "غرفة صغيرة تشبه القبو تحت الأرض، لا تدخلها الشمس ولا الهواء، تشوبها رائحة الرطوبة والبرودة حتى في الصيف، فالمقاعد والكراسي حديدية، والأطباق الخاصة بنا تشبه أطباق المساجين، أما الطعام فهو بقايا وجبات الزبائن، وفي بعض الأحيان بطاطا وأرز مسلوق".

يلتقي وصف هشام للكافتيريا بما كتبه أورويل: "هبط بي في سلّم حلزوني إلى ممرّ ضيّق، عميقاً تحت الأرض، وكان الممر ذا سقف خفيض، حتى تعيّن عليّ أحياناً أن أنحني، مُعتماً، لا تضيئه سوى مصابيح صفر متباعدة عن بعضها عدة ياردات".

نظام العبودية الشامل

مالك (23 عاماً) عراقي من مدينة الموصل، أنهى دراسته في معهد تقني متوسط، لكن ظروف الحرب والتهجير منعته من العمل في مجال دراسته. انتقل إلى أربيل منذ عدة أعوام، وعمل غاسل صحون في أحد فنادقها. ينظر إلى وجهي، يبتسم ابتسامة رضا، ويقول: "عمل غاسل الصحون لا يشبه عمل أحد، يغسل تسع ساعات يومياً، يتناول بقايا طعام الآخرين تحت الأرض، ينام في السكن الملاصق للفندق، لا يمكنه استقبال صديق إلا بإذن من الموارد البشرية التابعة للفندق، يعود صباحاً، تنتظره الطناجر والأرضية المتسخة، وفرز القمامة، إنه نظام العبودية الشامل، أو هذا ما أشعر به".

لماذا أنت راضٍ عن ذلك؟ جوابه: "أضحى الغسيل جزءاً من حياتي، أنجزه بسرعة، أرتب الأوراني بدقة، اعتدت رائحة البيض والزبدة المنقوعة، كما اعتدت رائحة لباس العمل، ليس أمراً ممتعاً، لكنه يوفر 300 دولار لشاب في العشرين من عمره، دمّرت الحرب منزله في الموصل، وجاء إلى مدينة أربيل بلا مأوى هنا في العراق".

ممنوع على غاسل الصحون في الفنادق أن يترك شاربه، لا بد أن يحلقها إلى الدرجة التي يعاني منها كثيرون من التهابات جلدية، ويحرص طباخون على تربية شواربهم من ناحية أخرى، فلماذا؟

يصف أورويل عمل غاسل الصحون في روايته كالآتي: "الغسل عمل بغيض، ليس شديداً لكنه مُضجر وغبي، ومن الرهيب التفكير أن أناساً أمضوا عقوداً من حياتهم في مثل هذه الأعمال".

استوقفتني عبارة قالها مالك "فرز القمامة"، فعادت ذاكرتي إلى فندق اللاذقية. كنت كلما وصلت إلى نهاية المطبخ، واجتزت ممرات الأقبية الضيقة، عبرت بالقرب من منطقة فرز القمامة، فأضع أنفي في ياقة سترتي وأمنع عن نفسي الهواء، لكن الرائحة كانت أقوى بكثير، فينتابني الغثيان وأتقيأ.

كيف تفرزون القمامة؟ أسأل هشام، فيردّ: "نجمعها من مختلف الأقسام، ثم ننقلها إلى المكان المخصص لفرزها. نضع القفازات ونبدأ بالفرز".

وماذا عن الرائحة؟ يجيب: "في البداية لم نتحملها، تقيأنا مرات عدة حتى اعتدناها، ثم أضحت كرائحة ثيابنا، ورائحة فقرنا أيضاً".

هل تتقاضون مالاً مقابل ذلك؟

"لا، فرز القمامة ضمن مهام قسم استيوارد المشمولة بالمرتب الشهري".

"ضربته بالمقلاة على رأسه"

تجذب مدينة أربيل العمّال العرب، خاصة الهاربين من الحروب في بلادهم، لسهولة الحصول على تأشيرة الدخول، التي تراوح تكلفتها بين 100 و 200 دولار.

لا تشترط حكومة إقليم كردستان المباشرة بالعمل للحصول على الإقامة السنوية، ما يجعلها أكثر سهولة من دول الخليج، حيث ترتفع تكاليف التأشيرة والسفر والمعيشة، وتشترط العمل لاستخراج الإقامة السنوية، كما أنها ليست وجهة سهلة للعبور إلى أوروبا مقارنة بأربيل.

وممن جذبتهم أربيل المصري عمر (25 عاماً)، لديه زوجة وطفلة، يرسل لهما مرتبه الشهري، خاض تجربة العمل في فندق بأبو ظبي، قبل عدة أعوام، لكنه لم يستمر، انتقل إلى أربيل حالماً بالخروج من المطبخ إلى ظروف عمل أفضل. يعمل في فندق ضخم في مدينة أربيل. يغسل الصحون مبتسماً، وسماعتان في أذنيه، يستمع للأخبار والموسيقى، عندما يحلّ المساء يتسلل إلى غرفة صديقه الهندي طلباً لتعلّم اللغة الانجليزية.

لم يتمالك نفسه فضربه بالمقلاة، وتساقط البيض فوق رأسه.

يتعرض عمر لإهانات كبير الطهاة، لأنه غاسل صحون. ذات مرّة، لم يتمالك نفسه فضربه بالمقلاة، وتساقط البيض فوق رأسه، يقول لرصيف22: "مهنة غاسل الصحون مُتوفرة دائماً، فهي لا تحتاج إلى خبرة، أو تحصيل دراسي، أو حتى لغات. لسهولتها تعرّض صاحبها للمذلة أحياناً، فيظن كل من في المطبخ أن غاسل الصحون عبد له".

ويضيف: "القساوة لا تكمن في طبيعة العمل المُقرفة، بل في التعامل معنا كجرذان، وتفتيشنا عند الدخول والخروج كأننا سارقون، وإهانتنا لأننا لا نقدر على الرد، ومعاقبتنا بالحسم من مرتباتنا المتدنيّة أصلاً، عدا أن حياتنا في الأقبية وبين روائح المايونيز المختلط مع الخردل وبقايا الطماطم والثوم وأعقاب السجائر والمناديل المتسخة".

يدرك عمر أن عمّال الفنادق هم أكثر الفئات تعرّضاً للاستغلال، من حيث ساعات العمل الطويلة، والأجور المتدنية، والتعامل القاسي، يقول: "تتحوّل مع مرور الزمن إلى آلة بشرية مجردة من الإحساس بالأماكن أو الأشياء أو الروائح، وبعيدة عن المستقبل، حدودها المطبخ، آفاقها ذلك الباب المزدوج الذي يفصل بين عالم البؤساء وعالم الأغنياء".

يصف أورويل هذين العالَمين: "كان من الممتع التفرّج على الحُجر القذر، والتفكير أن باباً مزدوجاً فقط هو الفاصل بيننا وبين صالة الطعام، حيث يجلس الزبائن بكل بهائهم، مفارش مائدة ناصعة البياض، مزهريات، مرايا، وأفاريز مذهلة، وصور ملائكة، بينما هنا على مبعدة أقدام فقط، نقبع نحن في الوسخ المُقرف".

يقول عمر: "أدركتُ التغيرات في داخلي، حاربتها بالموسيقى وتعلّم اللغات، صنعت فسحة من الأمل وسط هذا العوز. الآن أتحدث الانجليزية بطلاقة، سأجد عملاً أفضل كي ابتعد عن عالم المطبخ".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image