على ضفاف الوديان في الجزائر، عائلات يتقلب قدرها بين الموت والحياة كلما دق فصل الشتاء أبوابه.
فبينما يفرح البعض بتساقط أمطار إذ يرونها تحيي الأرض وتنبت الأمل، يضع الآلاف من ساكني ضفاف الأودية أيديهم على قلوبهم، يعدّون الدقائق والساعات، ويضاعفون الصلوات، حتى يُكتب لهم عمر جديد.
بيوت متاخمة لوديان، يخيل لأصحابها أنها أصبحت من الماضي، بتراجع منسوبها أو انحسارها، لما أصاب البلد من جفاف في السنوات الأخيرة، متناسين أن الوديان تعرف طريقها ولو بعد مئة عام.
فبينما يفرح البعض بتساقط أمطار إذ يرونها تحيي الأرض وتنبت الأمل، يضع الآلاف من ساكني ضفاف الأودية أيديهم على قلوبهم، يعدّون الدقائق والساعات، ويضاعفون الصلوات، حتى يُكتب لهم عمر جديد
على جرف الموت
في الجزائر، وعلى مدار السنوات الماضية، تسببت الفيضانات في خسائر مادية كبيرة، وخلفت جروحاً غائرة بفقدان العديد من الأرواح، خاصة لساكني الوديان.
وهي مآسٍ ألبست البلاد والعباد ثوب الحِداد، وما حادثة نهاية الشهر الماضي، التي أرّقت الجزائريين ببعيدة، حين امتد بحث فرق الحماية المدنية خمسة أيام لإيجاد جثة المحامي المفقود مهدي زيتوني، ليضاف إلى الشقيقين، اللذين جرفتهما مياه وادي السحاولة غرب الجزائر العاصمة.
"داهمتني مياه الوادي القوية، لتدمر بيتي وبستاني، لقد رأيت الموت، وطلبت من أبنائي الأربعة وزوجتي، أن ينطقوا بالشهادتين. لولا مساعدة الجيران لكنا في عداد الأموات"، هكذا يستهل حديثه أحمد صاحب ( 63 عاما) الذي يقطن على بعد أمتار قليلة من المكان الذي وجدت فيه جثة المحامي المفقود بسبب السيول. ويضيف شارحاً لرصيف22 أسباب بنائه بيتاً على ضفاف واد يعلم خطورته، ويقول: "لا أملك بديلاً آخر لأسكنه في ضفاف الوديان، الأسعار في المدينة تتجاوز حدود دخلي، وكل ما كنت أتمناه هو أن أوفر سقفاً لعائلتي، كنت أظنه آمناً".
"سمير" الشاب الثلاثيني القاطن في حي وادي أوشايح بالعاصمة الجزائر يحكي لرصيف22 عن وجه آخر لمعاناة سكان الوديان، ويقول: "صِغار الحي يدفعون ثمن الأمطار، التي تمنعهم من مغادرة منازلهم، فتتعطل دراستهم، في مأساة تتكرر كل شتاء".
الملازم الأول خالد بن خلف الله، وهو مسؤول الإعلام بمديرية الحماية المدنية في العاصمة الجزائر، يقول: "خطر حقيقي يُداهم سُكان ضفاف الوديان، عند وقوع الفيضانات، لكن الصعوبة الأكبر التي تواجه أطقم الإنقاذ، هي التضاريس هناك، خاصة لدى وجود ضحايا.
"صِغار الحي يدفعون ثمن الأمطار، التي تمنعهم من مغادرة منازلهم، فتتعطل دراستهم، في مأساة تتكرر كل شتاء"
الفيضانات لا ترحم
برغم ما خلفته الفيضانات من كوارث ومآسٍ طيلة سنوات، تواصلت عمليات بِناء المنازل على ضفاف الوديان بوتيرة مُتسارعة جداً من دون أي توقف أو خوف من عواقب الإقدام على ذلك. ويرجع السبب في ذلك بدرجة أولى إلى التوسع العمراني خاصة في المُدن الكبرى، وهو أجبر الكثيرين على البناء على ضفاف الوديان رغم خطورتها.
كذلك أعلنت وحدات الحماية المدنية لولاية الجزائر العاصمة، انتشال جثث ثلاث ضحايا على إثر انجراف تربة أدى الى انهيار بناية فوضوية، بالمكان المسمى حي العصافير في بلدية رايس حميدو.
وتسجل الحماية المدنية كل سنة مئات التدخلات بسبب الأمطار الغزيرة في عدة ولايات، وغالباً ما تتسبب في انهيار المباني الهشّة، خاصة في الأحياء القديمة، كحي القصبة العتيق في العاصمة، والذي يعود تاريخ بنائه إلى العهد العثماني، بالإضافة إلى أحياء أخرى تم تشييدها في فترة الاستعماري الفرنسي للجزائر، لا يزال يقطنها السكان في المدن الكبرى حيث شهدت الجزائر في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 حادثاً مأسوياً بوفاة ثلاثة أشخاص وإصابة اثنين بعد سقوط منزل بحي بولوغين الشعبي.
عشرون عاماً على السبت الأسود
لا يمكن للجزائر نسيان الكابوس المروع الذي أحاط بسكان مدينة باب الوادي في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2001، حين تحولت الأمطار الغزيرة المتواصلة إلى سيول عارمة أتت على الأخضر واليابس، وجرفت بيوتاً بأثاثها وسكانها نحو البحر، منهم من تم انتشال جثته، ومنهم من بقي مفقوداً إلى اليوم.
وقد نجم عن فيضانات باب الوادي وفاة 733 شخصاً ونحو مئة مفقود، فضلاً عن تدمير المباني السكنية ومختلف المنشآت. وهو ما دفع الدولة آنذاك لتخصيص 50 مليار دينار جزائري لإعادة بناء ما هدمته السيول وتعويض عائلات المتضررين.
فيضانات باب الوادي رعب بقي راسخاً في ذاكرة الجزائريين، ولا سيما منهم من عايشوا الكارثة، وهو ما جعل السلطات تسابق الزمن لمنع حدوثها مستقبلاً عبر القوانين والتنظيمات المختلفة، التي تهدف إلى معالجة هذه المخاطر عبر الجانب التنظيمي والوقائي والتسييري.
ومن أبرز هذه القوانين، القانون رقم 04-20 الصادر في 25 كانون الثاني/ديسمبر 2004، الذي ينص على وجوب حماية الإقليم والسكان، وقد أدمج خطر الفيضانات في مخططات التهيئة والعمران، مع إجبارية التأمين ضد الأخطار الطبيعية وتعويض الضحايا، وأيضاً الوقاية ضد الأخطار الكبرى لتحقيق التنمية المُستدامة.
ولتجسيد هذه النصوص على أرض الواقع، تقوم السلطات المعنية، وفي مقدمتها البلدية، بجولات تفقدية مفاجئة، لهدم المباني المشيدة على ضفاف الوديان أو تلك المعرقلة لمسارها، تفادياً لوقوع الكوارث.
رئيس بلدية الشراقة علي ميلودي يكشف بعض التفاصيل لرصيف22: "تنفيذ عمليات تهديم للمباني الواقعة على ضفاف الوديان، حتى وإن كان أصحابها يملكون عقد للملكية أو رخص بناء، لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يعيق مسار الوادي، فمهمتنا حماية المصلحة العامة والحفاظ على سلامة المواطنين وأرواحهم."
حبر على ورق
على الرغم من حملات توعية المواطنين بشأن خطورة البناء قرب مجرى الوديان النائمة، وما صاحبها من قوانين صارمة تمنع هذا النمط من العيش، ظلت غالبية المشاريع والقوانين والتنظيمات حبراً على ورق.
في سياق متصل عزا كمال علوش، الخبير في الهندسة العُمرانية، مسؤولية تأزم الأوضاع بسبب الفيضانات في هذه المناطق إلى غياب الدور الرقابي للسلطات المعنية قائلاً لرصيف22: "رغم وجود قوانين تمنع عمليات البناء على ضفاف الوديان، يحصل البعض على التراخيص عن طريق "الرشوة" أو "المحسوبية"، وهو ما يضع الدولة أمام وضع لا تحسد عليه، إذ يمنعها القانون من هدم هذه المباني لحيازة أصحابها على الوثائق اللازمة، إلا من خلال دفع تعويضات باهظة قد تصل إلى أضعاف قيمتها الحقيقية، وهو ما يكلف الخزينة العمومية أموالاً طائلة".
يُذكر أن التوسع العشوائي في البنايات الناجم عن العوز والفقر أحياناً، والفساد أحياناً أخرى، خطر دائم يهدد سكان الوديان، الذين يجدون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر. لكنهم في الأخير يدفعون ثمن المخاطرة باهظاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين