هل يَصحّ أن نقرأ كتاباً صفحاته فارغة؟ عادة ما تكون "المغامرات" من هذا النوع مرتبطة بخدعة من نوع ما، أو عمل فنيّ، أو شكل من أشكال المانيفستو الأدبي، لكن الأمر مختلف حين تقع أيدينا على "المخطوطة"، الكلمة التي تشير عادة إلى كتاب لم يُنشر بعد، أو واحدة من مسوداته، لكن هذه المرة الشأن مختلف، إذ قامت "دار جسد" بإصدار كتاب فارغ، يحمل عنوان "المخطوطة".
النسخة التي حصلت عليها من إحدى مكتبات أربيل في العراق تحمل رقم 489، وحسب مقدمة الدار، "المخطوطة" محاولة لفتح الباب أمام أي أحد لـ"يبدأ رحلة الكتابة"، وهنا سأستخدم أحياناً صيغة "الأنا"، لأننا أمام كتاب فارغ، والمفترض "أني" سأقوم بإنجازه، فبعد أن أخطّه باليد، علي أن أرسله إلى دار النشر، كمئات المخطوطات الأخرى التي ستستقبلها الدار.
ما يلفت الانتباه في شكل "المخطوطة" أن الكتاب ذو رقم إيداع ISBN يعود للعام الماضي، وتتكرر على الصفحة الأولى الداخلية الصيغة التقليديّة التي تحفظ حقوق النشر، إلى جانب التنويه الذي يشير إلى أن الآراء الواردة في الكتاب... الخ، كما تحوي المخطوطة لاحقاً مقدمة الدار، ومعلومات الكاتب "الاسم الثلاثي، اسم المخطوطة، العنوان، رقم الهاتف"، كذلك عنوان برأس الصفحة "مقدمة الكاتب"، وأخرى للـ"إهداء".
نذكر المعلومات السابقة، كونها العلامات التي يمتلكها الكتاب المطبوع، والتي تشكل جزءاً من هالة الورق، لكن يسبق الصفحات الفارغة عبارة مفادها: "مخطوطة الآن بين يديك... فابدأ رحلة الكتابة"، يجد المرء نفسه لثوانٍ تحت تأثير سحر ما، إشارات تملي عليه أن يكتب روايته أو نصّه أو شعره، فالشكل هنا ذو قيمة تواصلية، دعوة لابد من تلبيتها أو الوقوف على عتبتها، وهذا ما فعله صاحب المخطوطة رقم 489 (أنا).
يتجاوز الأمر المزاح و"الخدع الأدبية" حين نتصفّح الأوراق الفارغة، فهناك كتاب ينتظر أن يحمل اسمـ(ي) كمؤلف، ولا نتحدث هنا عن الرعب من الورقة الفارغة، الأسطورة يدللها الكثيرون، نعم الكتابة "مغامرة"، لكنها في ذات الوقت، ليست خوضاً في أرض مجهولة، كل كتاب ينتمي إلى عالم الكتب، والأهم، يقتبس منها ويحاورها، يقلّدها أو يسرق منها.
ويمكن للمؤلف أن يكون "صيّاداً" ماهراً، أو مقتبساً متحذلقاً كي ينجز مخطوطته، لكن كل هذا تنظير لا يوضع عادة في الكتاب، يترك لاحقاً لكتاب المقالات والنقاد وغيرهم من أجل قتل المؤلف وإحياء القارئ، وهنا الحيرة، هل أكتب عن كتاب سيؤلف لاحقاً، أم أقرأ كتاباً فارغاً، أم أكتب عن محاولة ملء الصفحات؟
ما يثير الاهتمام هو رقم المخطوطة، 489، لا لما يحويه من احتمالات سحرية، بل كونه يدل على مكتبة ما، هناك في مكان ما، مئات المخطوطات، بعضها فارغ وبعضها امتلأ، وبما أن عدداً محدداً من الـمخطوطات سينشر فقط، هذا يعني أنه في مكان ما في العراق هناك، كتلة من مخطوطات مليئة بنصوص وروايات لم تنشر، كتلة لا يمتلك أصحابها حتى نسخة منها، أي لا نسخة ثانية من المخطوط في حال اتبعنا بدقة التعليمات الموجودة في الكتاب، التي تتمثل بـ"ملء" المخطوطة ثم أرسالها إلى الدار، الأمر أشبه بمهمة انتحارية، نتائجها غير مضمونة، والأهم، لا يمكن تكرارها.
هل يَصحّ أن نقرأ كتاباً صفحاته فارغة؟ عادة ما تكون "المغامرات" من هذا النوع مرتبطة بخدعة من نوع ما، أو عمل فنيّ لكن هذه المرة الشأن مختلف، إذ قامت "دار جسد" بإصدار كتاب فارغ، يحمل عنوان "المخطوطة"
ما بعد الكتابة
بعد بحث سريع على فيسبوك يمكن إيجاد صفحة الدار و"المخطوطة"، لنكتشف أن هنا 1000 مخطوطة/ كتاب فارغ، وقد تجاوزت موعد تسليم المخطوط، الذي يشترط أن يكون مرفقاً بـCD، أي لابد من نسختين إذن، واحدة مكتوبة وأخرى على الكمبيوتر. المثير للاهتمام في هذه التجربة أنها تراهن على "اليد" التي يتغنّى بها عبد السلام بنعبد عالي، فاليد التي تكتب "تعطي" أما تلك التي تنقر، فربما هي تُشفّر، لكن هنا أيضاً سؤال، بأيهما نبدأ الكتابة، نخط بيدنا ثم "نضرب" على لوحة المفاتيح ، أم العكس؟
الأقل إرهاقاً والأضمن هو استخدام الحاسوب لتفادي الأخطاء وإصلاحها إن حصلت، ثم "الخطّ" باليد على الصفحات الفارغة، أو ربما الأمر تقني، إذ نشاهد على الصفحة اقتباسات من مشاركين في "المسابقة" دون أن نرى ما خطته اليد.
ربما يحاول صناع المخطوطة الحفاظ على صيغة الكتابة باليد، التي تعتبر ملفتةً في زمننا هذا، كأنها كتابة فطريّة تحمل طيش المرة الأولى أو رصانة المحترفين. أذكر أن ديوان "الجمهرات" لسليم بركات مكتوب بخط اليد، ورسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان تظهر بخط اليد أيضاً، إذ لا ضرب على أحرف نافرة.
المميز في حالة الكتب التي تحوي النصوص مخطوطة باليد هو خصوصيتها، ما يجعل كل مخطوطة متفردة ولو لم تنشر، أما النصوص المنضدة فمتشابهة، شكل الكلمات والأحرف بضبوط بنوع الخط الذي يستخدمه الكاتب أو تتبناه منصة النشر، (أستخدم خط كاليبري للكتابة، الذي اخترع بداية الألفية الثالثة ولا أعلم ما يقابله بالعربيّة).
تشير صفحة المخطوطة إلى أن الجائزة الأولى، ستكون من نصيب ثلاثة أشخاص سيطبع ألف نسخة من مخطوطاتهم، والثانية من نصيب عشرة سيطبع 250 نسخة لكل واحد منهم، والثالثة، لـ25 فائز، تطبع خمس نسخ لكل واحد منهم، أما ما تبقى، فستعرض المخطوطات في الدار من أجل الاطلاع، ولاحقاً ستخزن وتحفظ، وفعلياً حسب ما نرى في صفحة الدار، بدأ "المتسابقون" بتسليم مخطوطاتهم.
بعد بحث سريع على فيسبوك يمكن إيجاد صفحة الدار و"المخطوطة"، لنكتشف أن هنا 1000 مخطوطة/ كتاب فارغ
عملية حسابية بسيطة تدلنا أنه من أصل الألف مخطوطة، هناك 38 فقط ستنشر بشكل كتب منفصلة، أما عدد ما سيُعرض فمجهول، فاحتمالات أن أحدهم لم يكتب أو لم يرسل المخطوطة قائمة، لكن، نعود للفكرة في البداية، هناك كتلة من المخطوطات المكتوبة بخط اليد والتي ستتوافر للعرض، السؤال هنا، من يمتلكها؟
هل ملء المخطوطة يجعل ما بين دفتيها ملكاً للدار أم للكاتب؟ هو سؤال ساذج لكنه يفتح العديد من التساؤلات، نحن أمام علاقة إشكالية بين "الناشر" و"الكاتب"، خصوصاً أنه بعد ملء الصفحات يخطر بالبال العبارة في الصفحات الأولى "جميع الحقوق محفوظة... الخ"، الأهم، هل تعتبر هذه المخطوطات الممتلئة، منشورةً أم لا؟ خصوصاً أن هناك رقم إيداع واحد لكل "المخطوطات"، بالتالي، "المخطوطة" قد يكون عنواناً لألف كتاب مختلف، كل نسخة يختلف مضمونها كلياً عن الأخرى.
مخاوف شخصيّة
بالرغم من أن المخطوطة تحمل كل الخصائص الشكلية للكتاب، لكنها تهمل عمداً علامة التجنيس. هي تدعو للكتابة، لكن كتابة ماذا؟ رواية، شعر، نثر؟ غياب علامة التجنيس هذا يخلق الرعب حين محاولة الاقتراب من الصفحات الفارغة، والاطلاع على الاقتباسات من مخطوطات الكتاب المنشورة على صفحة الدار لا يوحي بشيء. هناك خواطر، نصوص نثرية، بداية نصوص بصيغة الأنا، تأملات فلسفية، لكن ولا أي واحد منها يخلق توقعاً لما يمكن أن تكون علامة التجنيس.
ربما هذا الرعب شخصي، فالدعوى إلى "الكتابة" دون تحديد "النوع" و"الجنس" تثير الحيرة، الأمر يشابه الدعوة الشهيرة "أقرأ" وجوابها "ما أنا بقارئ" الذي يحوي في أحد معانيه، ما الذي أقرأه، أو ماذا سأقرأ؟ نعود للعبارة في البداية "ابدأ رحلة الكتابة"، كتابة ماذا؟ ما الذي يجب أو يُفترض أو يُتوقع أن يُكتب؟
اللاتعيين السابق ربما يفسر مفهوم المغامرة، الخوض في شأن لا نعلمه، أو حسب أحد المعاني المعجمية، الغوص في أعماق البحر، أي دخول عمق لا نعرف ما فيه، كما أن غياب علامة التجنيس هذا يضع من يفتح المخطوطة لاحقاً في حيرة: ما النوع الذي يقرأه بالضبط؟ لكن لنعد إلى مفهوم المخطوطة وشكلها، مقتبسين من حكاية، لا لأجل المقارنة بل لكشف اللبس.
فالمعروف أن رواية المحاكمة لفرانز كافكا مكتوبة بكلمات كبيرة متصلة دون تقسيم إلى فقرات، أي نص غير منضد ومتصل، وهذا ما أصرّ عليه كافكا، خصوصاً أنه أراد لها أن تكون نكتةً، لا رواية عن النظام القضائي والسيادة السياسية ومفاهيم الافتراء، فغياب علامة التجنيس في المخطوطة، أو ترك افتراض ماهيتها للناشر/القارئ، لا يهدد فقط القراءة، بل يترك المسؤولية كاملة على عاتق الكاتب، خصوصاً أنه لا توجد صفحة أولى في "المخطوطة" يمكن وضع العنوان بخط عريض وتحته علامة التجنيس، أي لا نعلم أن ما سنقرأه بخط اليد يفترض الجدّ أو الهزل.
ماذا لو أن احدهم اعترف بين دفتي المخطوطة بجريمة قتل، هل نصدقه؟ هل نتعامل مع المكتوب بوصفه اعترافات، شهادة أم رواية متخيّلة؟
ماذا لو أن احدهم اعترف بين دفتي المخطوطة بجريمة قتل، هل نصدقه؟ هل نتعامل مع المكتوب بوصفه اعترافات، شهادة أم رواية متخيّلة؟ الدليل على هذا اللبس وإشكاليته هو أن "المحاكمة" بقيت لفترة طويلة تُنشر بغير ما أراده لها كافكا ، سوء تقدير الناشر صديقه، نزع عنها الصيغة التي أرادها أن تكون بها، ونضرب مثال كافكا هنا لأننا حرفياً لا نمتلك أي توقع عن المشاركين ولا مهاراتهم.
في حالة المخطوطة التي ستعرض في الدار ولن تنشر بالاعتماد على النسخة الموجودة في الـCD، كيف سيتلقى من يقرأ؟ هل على كل "كاتب" أن يضع علامة التجنيس؟ ماذا لو سها أو فاته الأمر؟ ما هي أجناس كومة المخطوطات التي ستعرض، والأهم، كيف سنقرأها؟ نتساءل هنا كوننا أمام تجربة فريدة تفتح الباب على كل هذه التساؤلات، تجربة أساسها كتاب فارغ لا حرف فيه.
هناك شأن آخر يلفت الانتباه، لا نعلم إن كان خطأ مطبعياً كعلامات الترقيم القليلة في المخطوطة، لكن، ينتهي ترقيم الصفحات الفارغة عند 16، وبعدها، صفحات كليّة البياض، نعلم بداية أن شكل الكتاب يتيح تدفق الصفحات والجمل بشكل أفقي من اليسار نحو اليمين، لكن غياب الترقيم هذا أيضاً إشكالي أو على الأقل يثير الحيرة، كون "المخطوطة" تلتزم بشكل الكتاب ومكوناته، وتوقف الترقيم هنا يشبه تلك اللعنة التي يمر بها الكتاب، الذين يتوقف بعضهم عن الكتابة عند صفحة ما، ويعجزون عن تجاوزها.
صحيح أنه لا يوجد رقم محدد للصفحة التي يظن الكاتب أن حبره جف عندها أو أصابه "writer’s block"، لكن رقم 16 مفارق، فإن افترضنا أن المخطوطة بعدٍّ سريع للأوراق تحوي 200 صفحة، الرقم 16 يعني أننا ما زلنا في البداية، ووصف ما يحدث، زرع بذور السرد إن صح التعبير.
هنا، نقع في المفارقة، فافتراض أننا أمام مخطوطة لـ"رواية" ، يكسب الرقم 16 قيمته وما أ(نـ)ستعد لتدوينه، لكن، ماذا لو كنا أمام شعر، أو مجموعة قصص قصيرة أو شذرات، الرقم بلا أي معنى في هذه الحالة، لكنه يحافظ على إشكاليته، هو لحظة ينفلت فيها عدد الصفحات، لنتحول من كتاب إلى ورق بدرجة الصفر، لا يحمل إي دلالة سوى وجوده بين دفتي كتاب، يترك لنا كامل الحريّة (والإحساس بالرعب) لملئه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...