على ربوة غير بعيدة عن المدينة العتيقة في طنجة شمال المغرب، وُضع الحجر الأول لـ"مسرح سيرفانتيس الكبير" الذي لا يزال يصنع الدهشة في المدينة، إلى اليوم.
البناية الثقافية التي انطلق العمل فيها قبل أكثر من مئة عام، ثم هُدرت، وتوقفت لعشرات السنين، تخضع اليوم لأعمال التأهيل والترميم بهدف إحيائها، تنفيذاً لاتفاقية وُقِّعت بين المغرب واسبانيا، انتقلت بموجبها ملكية المعلم الإسباني إلى المغرب.
إسبانيا تُسلّم سيرفانتيس للمغاربة
صحيفة "إلموندو" الذائعة الصيت في إسبانيا، كانت سبّاقةً في نشر خبر انتقال ملكية "سيرفانتيس" إلى المغرب، قبل ست سنوات من الآن، عندما آثرت أن تعنون مقالها بكلمات مثيرة حقاً: "إسبانيا تغادر طنجة"!
حينها، كشفت الصحيفة الإسبانية، أن عملية التسليم بين مدريد والرباط، ستكون وفق شروطٍ محددة، من بينها ترميم المسرح، والحفاظ على هويته الثقافية، من خلال إقامة برامج ثقافية في داخله، أو تحويله إلى متحفٍ ثقافي.
وبشكل لا رجعة فيه، صادقت الحكومة الإسبانية في شباط/ فبراير 2020، على الاتفاق الذي تهب بمقتضاه المغربَ المسرح الكبير الذي في مدينة طنجة.
قرار جاء بعد العرض الذي تقدّمت به الحكومة المغربية، بشأن ترميم هذا الصرح الفني "الكولونيالي"، وصيانته، والإشراف على إدارته، مع تملّكه، والالتزام بالمحافظة على الطابع الإسباني في البرنامج الثقافي لهذه المؤسسة.
الآن، وقد أضحى سيرفانتيس مغربياً، تتكلف الحكومة المغربية بمجموع مصاريف الترميم، والتجديد، والتسيير، والصيانة، والحفاظ على اسم "مسرح سيرفانتيس الكبير"، بالنظر إلى أهميته الثقافية، والفنية، ورمزيته التاريخية.
قررت إسبانيا تسليم "مسرح سيرفانتيس" في طنجة للمغرب بعد العرض الذي تقدّمت به الحكومة المغربية، بشأن ترميم هذا الصرح الفني "الكولونيالي"
يؤكد المحافظ الجهوي للتراث في طنجة، العربي المصباحي، أنه بعد "إهمال الصرح الثقافي لمدة طويلة حتى حدود السنة الماضية تقريباً، وبعد أن سلّمت حكومة مدريد هذا المسرح إلى الحكومة المغربية، تبلور حينها مشروع تشاركي لرد الاعتبار إلى هذا الصرح الثقافي والفني والمعماري المتميز في مدينة طنجة، إذ وُقّعت اتفاقية شراكة تجمع بين ولاية طنجة تطوان الحسيمة، ووزارة الثقافة، ووكالة تنمية أقاليم الشمال، من أجل إعادة الاعتبار إلى مسرح سيرفانتيس الكبير، وتطويره، وصيانته".
وأوضح المصباحي، لرصيف22، أنه "منذ السنة الماضية، انطلقت الدراسات الهندسية، والتقنية، والطوبوغرافية، من أجل وضع تشخيص دقيق وكامل لكل ما يهدد هذا المعلم، وإنقاذه من مظاهر التدهور التي أصابته نتيجة بقائه عشرات السنين مهملاً، ومقفلاً أيضاً. وهو الأمر الذي يتولاه فريق عمل يتكون من مهندسين، ومكاتب دراسات، وخبراء".
ويعتقد المحافظ الجهوي للتراث في طنجة، أن "يستغرق الترميم وقتاً لا يقل عن سنتين من الأشغال، نظراً إلى التعقيدات التقنية، وإلى تداخل مجموعة من الاختصاصات والفنّيات".
لكن الأكيد، وفق المتحدث نفسه، أن الأشغال ستكون معقدة جداً، "لأن الترميمات لا تشمل البناء فحسب، ولكن تشمل أيضاً الزخرفة الغنية والمتنوعة، والتي ستحتاج بكل تأكيد إلى مواد وخبرات ذات بعد عالمي، من أجل ترميمها وفق الخصوصية، ووفق الأصالة التي كانت لديها في البداية".
قصة أقدم المسارح وتحولاته
بداية هذا المسرح كمشروع، كانت في الثاني من نيسان/ أبريل 1911، عندما وُضع الحجر الأساس للبناية الفنية والثقافية التي تحولت بعد ذلك إلى واحدة من روائع الفن العالمي، وصارت قِبلةً لكل الفنانين والممثلين من الأجانب، وحتى العرب، في زمن الحماية الدولية في طنجة.
وفي سنة 1913، أضحى "مسرح سيرفانتيس الكبير"، جاهزاً ومهيّأً لاستقبال العروض، ونحو 1400 شخص من محبّي المسرح.
يحكي الكاتب المسرحي، الزبير بن بوشتى، أن "السينيور مانويل بينيا، وزوجته إسبرانسا أوريانا، قرّرا بناء مسرح في المكان الذي يوجد فيه حالياً، لكي يكون للإسبان حضور ثقافي في طنجة"، فيما تكلّف بإنجازه المهندس الإسباني الشهير "دييغو خيمينيث".
وأوضح بن بوشتى، في تصريح لرصيف22، أن "طنجة كانت مدينةً دوليةً، وكان أغلب سكانها من الإسبان، إلا أنه لم يكن لهم حينها حضور ثقافي وازن، مقارنةً مع الحضور الثقافي الإنكليزي، أو الأمريكي، أو الفرنسي".
وكان لهذا المسرح إشعاع ثقافي وفني كبير في شمال إفريقيا وإسبانيا معاً، إذ لم يكن هناك عرض شهير في أوروبا لم يُقدَّم في سيرفانتيس، في قلب طنجة.
السينيور مانويل بينيا، وزوجته إسبرانسا أوريانا، قرّرا بناء مسرح سيرفانتيس، لكي يكون للإسبان حضور ثقافي في طنجة عام 1911. مسرح سيرفانتيس ينبعث من رماده
وقد سطعت فوق خشبة هذا المسرح أسماء كثيرة، منها "أنطونيو كاروسو"، و"الباريتون تيتو روفو"، كما قُدِّمت عليها مجموعة من العروض مثل "عطيل"، و"روميو وجولييت". كما قُدّمت في هذا المسرح أعمال عربية شهيرة، مثل مسرحية "صلاح الدين الأيوبي"، ومسرحية "المنصور الذهبي"، بالإضافة إلى مسرحية "مجنون ليلى" لمؤلفها أمير الشعراء أحمد شوقي.
يقول الكاتب المسرحي، الزبير بن بوشتى: "في فترة الحرب العالمية الأولى، والأزمة المصاحبة لها، سيصاب الزوجان بأزمةٍ كذلك، لذا خسر المسرح، لأن بناءه تطلب ميزانيةً كبيرةً، واستقطب فنانين كباراً في الزمن ذاك".
في حينها، "اقترح الدوق دوطوبال على الزوجين الإسبانيَين، أن يحوّلا مسرحهما إلى كازينو، لكنه اقتراح قوبل بالرفض التام. لذلك، مع ازدياد أزمة هذين المالكَين، تنازلا عن سيرفانتيس الكبير في طنجة، لصالح الدولة الإسبانية التي استعملته كقاعة متعددة الوظائف"، يردف الكاتب المسرحي ابن مدينة طنجة.
عمران فريد
في وصفه لأهمية المسرح على المستوى الجمالي والفني، ذكر الكاتب عبد القادر السميحي، في كتابه "نشأة المسرح والرياضة في المغرب"، أن الصرح الثقافي يتميز بخصوصية معمارية فريدة، إذ تم استيراد مواد البناء، والزخرفة، والمناظر، من إسبانيا، "بما في ذلك التماثيل التي تطالعك في الواجهة الخارجية للمسرح، وكانت زخرفة قبة الصالة من عمل الفنان الإسباني فديريكو ربيرا الذي ضحّى بمواصلة دراسته الفنية في باريس، وجاء ليقوم بهذا العمل الرائع".
هذا الأمر أكده العربي المصباحي، عندما أشار لرصيف22، إلى أن "مسرح سيرفانتيس الكبير" في مدينة البوغاز، "تميّزه خصائص معمارية وفنّية عدة، فبالإضافة إلى شكله الداخلي الذي يتماشى مع المسارح التقليدية لأوروبا، فإنه مزخرف بزخارف جصّية، سواء في الأسقف أو في القبّة التي تعلو المنصّة، وفي مختلف مرافقه".
كما أن المسرح، يُعدّ أيضاً "من أقدم المسارح التي بُنيت في فترة الحماية الإسبانية في شمال المغرب، وهو من أكبر المسارح وأهمها كونه ينتمي إلى نماذج المسارح الكبرى، والمسارح ذات الطابع الإيطالي"، يردف المحافظ الجهوي للتراث في طنجة.
أصوات من الضفّتَين لإنقاذ المشهد
بعد كل الجمال والإشعاع والألق الذي ميّز مسرح سيرفانتيس في طنجة، تحوّل إلى وضع مُزرٍ لسنوات طوال، ما دفع بأصواتٍ في الوسطَين الثقافي والتراثي يعيش أصحابها بين الضفتَين، إلى الدعوة لإحياء المسرح.
من الضفة الشمالية للمغرب، أطلقت الرسامة والكاتبة الإسبانية "كونسويلو هيرنانديز"، من خلال كتاب عنونته بـ"مشهد في حالة خراب"، نداء فنياً وأدبياً لإعادة الحياة إلى "مسرح سيرفانتيس الكبير" في طنجة، وإشعار المقاولين والفاعلين السياسيين في إسبانيا والمغرب، بأهمية الحفاظ على هذا المعلم التاريخي، وضرورته.
يسجل رئيس مرصد حماية البيئة والآثار في طنجة، عبد العزيز جناتي، أنه " بالنظر إلى قيمة هذا المعلم، ورمزيته، سواء الجمالية، أو التاريخية، أو ما يمكن أن يلعبه من أدوار، فإنه كان دائما محطّ مطالب الحركة الثقافية، وناشطي المدينة المهتمين بكنوزها الثقافية والمعمارية".
لذلك تُعدّ خطوة ترميم سيرفانتيس، " بمثابة الحلقة الأساسية لإعادة الاعتبار، وبعث الحياة في مجموعة من المعالم والفضاءات التاريخية لطنجة، التي تعرف في الفترة الأخيرة ورشات استثنائية في برنامج تأهيل المدينة العتيقة الممتد من 2020 إلى 2024"، يقول جناتي، في حديثه لرصيف22.
كما يقترح جناتي "جعل المسرح رافداً من روافد الثقافة بمفهومها الواسع، وكذلك أن تكون له وظائف متكاملة في حياة المدينة، ودورة إنتاجها، وهو الأمر الذي يتطلب ضرورة الانفتاح على المهتمين، والاستماع إلى أفكارهم وتصوراتهم في هذا الإطار".
لهذا، "لا يمكن إطلاقاً تصوّر المسرح بالطريقة نفسها التي اشتغل بها في القرن المنصرم، نظراً لما عرفته الحياة من تطورات"، يوضح رئيس مرصد حماية البيئة والآثار في طنجة.
وأشار المتحدث ذاته، إلى أن "بعث الحياة في هذا المعلم، مرتبط جدلاً بتيسير الولوج إليها، واتخاذ قرارات حاسمة بخصوص البناءات العشوائية المحيطة به، وتخويل المسرح وظائف حيوية تضمن الإقبال عليه، وهي كلها أمور متيسّرة متى توفرت الإرادة والعزيمة اللّازمتان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 8 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت