"أخذني عكفة (حَرَس) الإمام ذوو الملابس الزرقاء عنوة من بين أحضان والدتي ومن بين سواعد أفراد أسرتي المتبقّين. لم يكتفوا بذلك بل أخذوا حصان والدي تنفيذاً لرغبة الإمام".
يفتتح الروائي اليمني زيد دماج روايته الشهيرة "الرهينة" بالمقطع السابق، الرواية التي أرّخ فيها أدبياً لواحدٍ من أغرب أنظمة القمع التي اتّبعها حاكم في المنطقة العربية لضمان تأييد شعبه له، وهو نظام الرهائن. بمقتضى هذا النظام أجبر إمام اليمن كافة القبائل الخاضعة لحُكمه على تزويده بأبناء شيوخهم لسجنهم في قلاعٍ قريبة منه يُسيطر عليها حُرّاسه، ليضمن ألا تتمرّد عليه تلك القبائل أبداً مهما فعل بهم؛ حفاظاً على أرواح أبنائهم، والمأسوي، هو أن جميع هؤلاء الرهائن كانوا من صغار السن، تتراوح أعمارهم بين 13 و18 عاماً.
يكشف نزيه العظم في كتابه رحلة في بلاد العربية السعيدة من مصر إلى صنعاء(2014) عن تفاصيل زيارته لليمن عام 1927م، قائلاً : "رأيتُ من نافذة غرفتي صبية يلعبون في صحن دارٍ متسعة ظننتها لأول وهلة مدرسة، ولكن سرعان ما تبدّل هذا الظن عندما سألت البعض فقيل لي هؤلاء رهائن".
بالمثل، حكى الجنرال والدبلوماسي السوفيتي استاخوف في كتابه مذكرات دبلوماسي في اليمن(1993)، أنه خلال زيارته لليمن عام 1928م، رأى "صبية مراهقين" هم رهائن قبيلة الزرانيق، يسيرون تحت حراسات مسلحة من العسكر في أحد الشوارع، وعندما سأل عنهم أخبروه أنهم أُخذوا من أهلهم كضمانة عند الحكومة لعدم التمرد على الإمام، وإلا فسيكون الثمن هو "أن تطير رؤوس هؤلاء الرهائن".
هنا لابد من التفرقة بين معنيين توحي بهما كلمة الرهائن؛ الأول هو الغنيمة من البشر التي تستولي عليها الجيوش المتحاربة بعد انتهاء المعارك من بقايا القوات المنهزمة، أما الثاني، والذي نحن بصدده اليوم، فلا يتعلّق بأعمال قتال واسعة واصطياد فلول الجيوش في السجون، وإنما بتقديم قبائل اليمن قسطٍ من أبنائها طوعاً للحاكم بغرض التأديب والترهيب وكفِّ الأذى، كأحد الأشكال غير المباشرة لإظهار المبايعة والدعم.
يقول الرحالة هانز هولفريتز في كتابه اليمن من الباب الخلفي(1985): "توجّب على كل شيخ قبيلة صغيراً كان أو كبيراً أن يُسلم أحد أولاده أو إخوانه إلى الملك كرهينة على ولائه وحُسن سلوكه، كانت طريقة بربرية لغرس الطمأنينة والثقة عند الحاكم".
أرّخ الروائي اليمني زيد دماج في روايته "الرهينة" لواحد من أغرب أنظمة القمع التي اتّبعها حاكم في المنطقة العربية لضمان تأييد شعبه له، وهو نظام الرهائن. الذي أجبر إمام اليمن بواسطته كافة القبائل على تزويده بأبناء شيوخهم لسجنهم في قلاعٍ يُسيطر عليها حُرّاسه، ليضمن ألا تتمرّد عليه تلك القبائل
تاريخ نظام الرهائن
لم تنبت هذه العادة العجيبة في أرض اليمن على أيدي الإمام يحيى حميد الدين، المؤسِّس الأول للمملكة المتوكلية في اليمن، ولكنها موغلة في القِدم داخل التاريخ اليمني بشكلٍ يفوق على الحصر.
وفقاً لدراسة "نظام الرهان في اليمن في عهد المملكة المتوكلية اليمانية"، التي كتبها الباحث أمين الجبر، فإن الطبيعة الجغرافية الوعرة لليمن والحياة القبلية المعقدة جعلت من الصعب أن تفرض أي حكومة مركزية كامل سُلطتها على أنحاء الدولة مهما انتصرت من معارك، وهو ما منح القبائل إمكانية إطلاق ثورات تمتلك فرصاً لا بأس بها من النجاح، بفضل ما توفّره له الحاضنة المجتمعية والجغرافية في كل إقليم، لذا تحتّم على كل حاكم لليمن أن يلجأ إلى طريقة غير تقليدية لإجبار القبائل على عدم التفكير في الثورة من الأصل، لأن إخمادها سيكون صعباً ولن يكون نهائياً أبداً.
يقول عبدالوهاب الروحاني في كتابه اليمن خصوصية الحكم والوحدة(2019)، إنه خلال الحقبة السبئية في اليمن، اعتاد الملك السبئي، كرب أيل وتر، الاحتفاظ بأطفال الأمراء والذوات كرهائن لضمان خضوع الممالك المحيطة به. أيضاً، بحسب عبدالقادر بافقيه في كتابه تاريخ اليمن القديم(1985)، فإن الأحباش خلال حُكمهم لليمن، اعتادوا أخذ رهائن من كل قبيلة والاحتفاظ بها من أجل إخضاعها وضمان عدم خروجها عليهم.
أبرز من قام بذلك هو الملك الحبشي أبرهة -المشهور جداً في التاريخ الإسلامي بحملته العسكرية لغزو الكعبة- الذي كان يتلقّى رهائن من قبائل كندة ومعد تعبيراً عن الولاء التام وخضوعهم لحُكمه.، ولم ينقطع هذا النهج حتى في ظل الحُكم الإسلامي لليمن، فوفقاً لكتاب اليمن قبل الإسلام(1986) للدكتور ميخائيل بتروفسكي المختصّ بتاريخ الإسلام، فإن زياد بن لبيد، عامل الرسول على اليمن ومن بعده عامل أبي بكر، أخذ رهائن من قبيلة كندة اليمنية لضمان تأديتها لفريضة الزكاة.
عرفت اليمن "نظام الرهائن" منذ الحقبة السبئيّة، كما طبقه الأحباش خلال حكمهم لليمن، واستمر الأمر في ظل الحكم الإسلامي، إذ ارتهن زياد بن لبيد أفراداً من قبيلة كندة لضمان تأديتهم لفريضة الزكاة
ليس هذا وحسب، بل إننا نصادف بعض الحوادث المبثوثة في كتب التاريخ الإسلامي تؤكد لنا أن "نظام الرهائن" كان معروفاً -وليس شائع الاستخدام- في عديد الأقطار الإسلامية واستعمله عدد من القادة المسلمين في معاركهم، منها ما جرى في العهد الأموي على يدي سعيد بن عثمان بن عفان، الذي غزا بلاد خراسان وصالح أهل سمرقند على أن يأخذ منهم رهائن ليضمن عدم غدرهم بهم.
تعهّد ابن عثمان بن عفان بردِّ الرهائن لاحقاً، لكنه لم يفعل؛ فغدر بهم وصحبهم معهم إلى المدينة المنورة، وأمرهم بالعمل في النخيل والطين، وهو ما لم يرق لهم باعتبارهم من أبناء الحكام وأصحاب "أيدٍ ناعمة" لم تألف هذه الأشغال الشاقة.
وبحسب ما يروي مطهر بن طاهر في كتابه البدء والتاريخ(2007): "كره هؤلاء الرهائن عيشهم، فوثبوا عليه بقرب حائط وقتلوه ثم قتلوا أنفسهم بالحبل خنقاً خوفاً من التنكيل بهم لاحقاً، وهو الحادث الذي عُبِّر عنه بشكلٍ مختصر باتر وفجّ في بعض كتب التاريخ الإسلامي الأخرى التي تناولت سيرة سعيد بن عثمان وأنهتها بجملة: قتله أعلاج كان قد أتى بهم من سمرقند".
على كلٍّ، بقي "نظام الرهائن" راسخاً على أوضح ما يكون في اليمن، واستمرّ في عهد سيطرة الفاطميين على اليمن، وتحديداً في نهايتها عام 299هـ، بعدما نشب خلاف بين أقوى رجلين في اليمن حينها؛ علي بن الفضل مع منصور بن حوشب، سعى الأولى للانفصال عن الدولة الفاطمية في مصر وهو ما رفضه الأخير فوقعت الحرب بينهما. انتصر منصور في القتال، ولم يوافق على الصلح مع عدوِّه إلا بعد أن رهن ابن علي بن الفضل ليبقى حوزته؛ ضماناً لعدم رفع الأب راية العصيان مجدداً.
شهد عهد الصليحيين الذين أعقبوا الفاطميين على حُكم اليمن، تفشّى نظام الرهائن على نطاقٍ واسع، ولم يكتفِ مؤسِّس الدولة الصليحية، علي بن محمد الصليحي، بأسر أبناء رؤساء القبائل، بل أمر بسجن زعماء القبائل أنفسهم داخل قصور قريبة منه تقع داخل العاصمة. أخضعهم لرقابته الدائمة وكان يصطحبهم معه في رحلاته خارج البلاد، كما فعل خلال سفره إلى المكة للحج سنة 473هـ/1080م.
سخّر العثمانيون "الرهائن" لخدمتهم، لكن عام 1600م، انتفض الرهائن في "بندر عدن"، وقتلوا حراسهم واستولوا على أسلحتهم، ما اضطر الحاكم التركي لإطلاق سراحهم
استمرّ العمل بنظام الرهائن في العهدين الأيوبي (استمرَّ 58 عاماً فقط) والرسولي (استمرت قرابة 230 عاماً) والطاهري (استمرّ 65 عاماً)، وفي عهد الدولة الأخيرة توسّع نظام الرهائن أكثر وتضمّن أخذ النساء لأول مرة بعدما اقتصر على الرجال منذ لحظات تطبيقه الأولى، وهو ما يُعدُّ اختراقاً خطيراً للعادات العربية العريقة التي لطالما كرهت المساس بالنساء مهما بلغت درجة الخصومة بين الأطياف المتحاربة.
على نفس التوسع الرسولي في استعمال نظام الرهائن، فعل العثمانيون خلال سيطرتهم على البلاد التي امتدّت من 1538م وحتى 1635م، واعتادوا معاقبة أي قبيلة متمردة بالاستيلاء على "رهينة مثلثة" من زعيمها تشمل زوجة وبنتاً وذكراً من أبنائه.
يحكي الموزعي في كتابه الإحسان في دخول مملكة اليمن تحت ظل عدالة آل عثمان(1986)، أنه لمّا رفض أحد مشايخ محافظة تعز الموافقة على رهن ولديه عند الأتراك قتلوه! وبحسب الموزعي، فإن الرهائن -رغم تمتعهم بمكانة اجتماعية كبيرة في قبائلهم- كان الأتراك يجبرونهم على أداء أعمالٍ وضيعة، مثل بناء المزارع والبساتين وحفر القنوات بدلاً من عمّال البناء، كما أنهم أوقات أخرى كانوا يحتفظون بالرهائن خارج اليمن بأسره، وتحديداً في منطقتي "طرابلس الغرب" (ليبيا حالياً) وجزيرة رودس، وكلتاهما كانتا خاضعتين للسيطرة العثمانية حينها، ما دفع الرهائن إلى تدبير عدد من التمردات احتجاجاً على سوء أوضاعهم، مثلما جرى في "بندر عدن" سنة 1600م، حين قتل الرهائن حراسَ سجنهم واستولوا على أسلحتهم، فاضطر الحاكم التركي إلى إطلاق سراحهم.
الإمام حاكماً
مع نهاية عهد سيطرة العثمانيين على اليمن سنة 1918م، لم تكن هناك قوة تستطيع بسط سيطرتها على التراب اليمني أكثر من الإمام يحيى، الذي سبق وأن اقتنص قدراً من الأرض والنفوذ في العهد العثماني إثر صُلح "دعان" سنة 1911م، والتي هدّأتْ نار الحرب المستعرة بين الإمام يحيى والأتراك. بل إن اتفاقية "دعان" نفسها لم تخلُ من شروط تتعلّق بالرهائن، منها إطلاق الإمام يحيى كبار القبائل الذين سجنهم عنوة خلال محاولته فرض سيطرتهم على المناطق التي يعيشون فيها. وبعد خروج الأتراك، باتت اليمن أرضاً سهلة القنص للإمام وجماعته، وهو ما جرى سريعاً.
رغم ذلك، شعر دوماً الإمام يحيى أن اليمنيين لن يعطوه الولاء الكامل، لا هو ولا المذهب الزيدي الذي فرضه عنوة على اليمن، ولا آل البيت الذين اعتبر أن الولاء لهم فرضاً قوميّاً على جميع اليمنيين اتّباعه ولو خالفوه في المذهب.
لم يتغير نظام الرهائن في اليمن خلال حقبة الحُكم الإمامي، بل أقر الإمام قاعدة أكثر تجذراً، إذ سجن مؤبداً نجلاً واحداً لكل زعيم قبيلة، لضمان عدم تمرد أي قبيلة
ليضمن الإمام علي لنفسه تلك المكانة السياسية والروحية الفريدة لم يجد سياسة أنجح وأكثر غرابة من رهن اليمنيين أجمعين في قصره، ولمّا كان هذا الأمر متعذّر الحدوث، اكتفى بإقرار "نظام الرهائن" الذي فرض رهن نجل زعيم كل قبيلة، يقضي طيلة حياته في سجون الإمام، ليضمن ألا يتمرّد أهله أبداً.
يحكي القاضي علي عبدالله الإرياني في كتابه الدر المنثور في سيرة الإمام المنصور، أن الإمام محمد المنصور بعث بخطاب إلى الحاكم التركي في اليمن يدافع فيه عن تمسّكه بنظام الرهائن، مؤكداً أنه وسيلة مُثلى لحفظ الأمن، فالعنف وحده لا يكفي للاستقرار، فالقبائل لا تستكين ولا تخضع لسُلطة الدولة المركزية حتى إن قُتل الكثير من رجالها وإن هُزمت في المعارك.
أتت هذه الخطوة بالرغم من أن الزيديين عانوا من مضار هذا النظام حينما كانوا يتصارعون على حُكم اليمن مع الرسوليين قديماً، فبعدما رُهن الأمير محمد الزيدي في كنف السلطان المظفر الرسولي داخل حصن الدملوة التاريخي، ناشده الأمير الزيدي صارم الدين داؤد بن عبدالله إطلاق سراحه قائلاً:
أعاتبه في الهجر أم لا أعاتبه/ واصبر حتى يرعوي أم أُجانبه
فمن مبلغ عني إلى الملك يوسف/ أبي عمر معطي الجزيل وواهبه
فشفع أبانا في بنيه فإنه/ شفيعك في الذنب الذي أنت كاسبه
رغم ذلك، عندما وقع خلاف بين الإمام أحمد بن الحسين والسلطان الرسولي يوسف بن عمر، انتهى بانتصار الإمام أحمد وتوقيع معاهدة سلام بين الطرفين، كان من ضمن شروطها رهن السلطان الرسولي ابناً وزوجة عند الإماميين لضمان الالتزام بالمعاهدة.
في عهد الأئمة: الرهائن واجبة شرعاً
لم تختلف أساليب السيطرة على القبائل كثيراً عن السابق حين دخلت اليمن في حقبة الحُكم الإمامي، وإنما أقرّ الإمام قاعدة أكثر تجذراً لـ"نظام الرهائن" بعدما أضاف له بُعداً جديداً وهو البُعد الديني. حمل الإمام لواء الرغبة في تطبيق الشريعة الإسلامية ومحاربة الطاغوت (الأعراف القَبَلية السائدة حينها)، واعتبر حركة جيوشه للسيطرة على تلك القبائل "غزوات جهادية".
يقول أمين الجبر: "نُظر للقبائل المهزومة بأنها لابد وأن تُسلّم أبناءها رهائن عند الدولة برهاناً للامتثال لأحكام الإمام وبالتالي أحكام الشريعة، وإذا رفضت أي قبيلة ذلك تكون من وجهة نظر الإماميين خارجة عن الطاعة ومحتكمة للطاغوت الذي يتنافى مع الشريعة الإسلامية".
أفرد الإمام يحيى نظاماً إدارياً كاملاً لـ"شؤون الرهائن"، تضمّن كشوفات وتقارير رسمية حملت كافة أسماء القبائل وعدد الرهائن المطلوبة منهم وأماكن احتجازهم والمسؤولين عن حمايتهم والتأكد من عدم فرارهم، وغيرها من التفاصيل.
لم يكتف الأئمة بالبعد السياسي لنظام الرهان بل استخدموه كوسيلة غير مباشرة لغرس مذهبهم الديني الزيدي بين القبائل، عبر بثّه في عقول أطفال المشايخ المتجمعين تحت إمرة فقيه زيدي واحد
توضّح هذه الوثيقة "كشف رهائن" القبائل في تهامة، وكيف جرى التعامل مع تلك القضية باعتيادية تامة وكأنه جرد بضائع تالفة في مخزن شركة! وفي بعض الأحيان كانت درجة قرابة الرهينة من شيخ القبيلة لا تثير اهتمام الإمام الذي لم يكن ليأمن مكر أي زعيم إلا إذا استودعه ولداً من عنده، لذا كثرت ملاحظات الأئمة إلى عمّالهم بضرورة استلام "رهينة معتبرة" عن كل قبيلة.
كما تكشف هذه الوثيقة اتفاقاً متكامل الأركان بين الإمام وبعض شيوخ القبائل على تسليم الرهائن والالتزام بالسمع والطاعة للحاكم و"محاربة الطاغوت" في جميع الأنحاء.
عملية التسلم الرهائن كان تجري من قِبَل الجيش الذي كان يتمركز بالقرب من القرى خلال حملاته لجباية لزكاة عن كل قرية، وهو ما كان يتزامن أيضاً مع "جباية الأبناء". وفي حال تقاعس القبيلة أو حتى تلكؤها في تقديم الرهينة لجيش الإمام كانت تُعاقب بعملية عسكرية تخرِّب وتقتل وتحرق وتفرض المزيد من الرهائن على القبيلة لاحقاً.
وعلى خطى الإمام يحي استمرت الدولة الإمامية في هذا النهج، لدرجة فاق معها عدد الرهائن، في بعض الأحيان، أعداد المساجين الذين يُعاقبون بسبب جرائم جنائية. وبحسب الريحاني في كتابه ملوك العرب(1924) فإن عدد الرهائن الذين جمعهم الأئمة في كان 4 آلاف غلام في المتوسط كل عام، وبفضل سياسة "استبدال الرهائن" بقيت هذه الأرقام ثابتة طوال العهد الإمام تقريباً.
لذا لم يكن من الغريب أن تنتشر في أنحاء اليمن أماكن حكومية عُرفت بدورها المعلن في احتجاز أبناء القبائل حملت اسم "بيت الرهائن" أو "معاقل الرهائن" أو "سجن الصنائع".
لم تتلقى الأعداد الكبيرة من الرهائن العناية الغذائية والطبية اللازمة، ولقد حفظت لنا كتب التاريخ وثائق عبارة عن مراسلات جرت بين قادة السجون والإمام يحيى، تخطره بمعاناة الرهائن صحياً ونفسياً حتى ماتوا داخل السجون، عندها كان يطلب الإمام من القبيلة تعويضه ببديل عن ابنهم المتوفَّى في سجونه!
ضاق أركان النظام الإمامي أنفسهم بهذه الأوضاع، فأرسل إسماعيل، أمير صنعاء ونجل الإمام يحيى، رسالة إلى أخيه القاسم وزير الصحة، قال فيها: "الرهائن يبقى الواحد منهم في الحبس لا يعرف الصابون، إذا تمزقت رقع ثيابه تتكون منها جراثيم فتّاكة تفتكُ به فتكاً ذريعاً ويكون لبسها ووجودها شرّاً مستطيراً، كما أنه حال غسيل الثياب فإن الرهائن سيبقون عراة مدة التغسيل لأن كل رهينة لا يملك غير الثوب الذي يغطي جسمه".
خطوة إلى ما هو أبعد
لم ينظر الأئمة إلى نظام الرهائن باعتباره وسيلة لضبط البلاد مجتمعياً وحسب، وإنما سعوا أيضاً ليكون وسيلة غير مباشرة لغرس مذهبهم الديني الزيدي في كافة القبائل، عبر بثّه في عقول أطفال المشايخ المتجمعين تحت إمرة فقيه زيدي واحد، إذ فرضت الحكومة الإمامية على كافة الرهائن القاطنين بحوزتها دراسة عقيدتهم الدينية الزيدية/ الشيعية، والتي كانت فُرصة لغرس الولاء والطاعة في نفوسهم تجاه الإمام باعتبار أن طاعته جزء لا يتجزأ من الشريعة، فطاعة الإمام اليمني من طاعة الله.
القبائل تثور: لن نُسلم أبناءنا لأحد
لم يؤمّن نظام الرهائن الأمن والاستقرار للمملكة المتوكلية كما حسب أصحابها، ففي نهاية الأمر لم يكن مقدرّاً لنظامٍ كهذا أن يضمن العرش لصاحبه مهما طال الزمن.
يحكي أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب كواليس لقاء جَمَعه بعلي بن مانع سلطان الحواشب (تقع جنوب اليمن)، أعرب فيه عن تفضيله احتلال بلاده من الإنجليز عوضاً عن الاستسلام لنظام الرهائن، قال الشيخ علي: "ابني الوحيد يا أمين، لكنّي أذبحه والله ولا أسلمه رهينة لأحد".
وهو ذات ما تكرّر مع محمد ناصر الأخرم شيخ الضالع، الذي فضّل التحالف مع الإنجليز بسبب تعنُّت الإمام في طلب الرهائن. بل إن الشيخ الأخرم نفسه اعتُقل كرهينة في أحد السجون لمدة 7 أشهر، رُبط خلالها بالحبال وكُبِّل بالحديد كالمجرمين، ولم يخرج إلا بعدما افتدى نفسه بخيرة رجال قبيلته وبقدرٍ وافر من المال.
تمرّدت منطقة الضالع بأكملها ضد الحُكم الإمام بدعمٍ من الإنجليز، انتهى بهزيمة القوات الإمامية، وتوقيع اتفاقية عام 1904م مع الإنجليز خرجت فيها منطقة الضالع بالكامل عن حُكم الإمام. نفس السيناريو جرى مع مناطق نجران وعسير حتى أصبح مُلك الإمام في موضع شك كبير.
عام 1948م، انقلب عبدالله الوزير قائد الجيش على الإمام يحيى لفترة وجيزة سيطر فيها على مقاليد الحكم في البلاد، شملت قراراته الأولى إطلاق سراح كافة رهائن القبائل والإعلان عن إلغاء نظام الرهائن. انتهى الانقلاب بالفشل وأعدم كافة قادته، إلا أن عواقبه كانت وخيمة على النظام الملكي اليمني، فخلال أحداثه قُتل الإمام يحيى الذي تأسست على أكتافه الدولة وتلقّت الشرعية المزعومة للإمام اليمني -المستقاة من الله- لطمة لا تُنسى.
تكرّرت مساعي الجيش للإطاحة بحُكم الإمام أحمد الذي حلَّ قائداً لليمن بدلاً من والده، لكنهم فشلوا مجدداً، وعقب وفاته في سبتمبر 1962م تولّى ابنه محمد البدر الحُكم بدلاً منه، الذي كان مُدركاً لحجم الضعف الذي بات عليه النظام الإمامي، فحاول أن يبدأ فترة حُكمه بقرارات يتقرّب بها إلى الشعب فأصدر عدة مراسيم قانونية في اليوم التالي لتعيينه مباشرة أهمها إلغاء نظام الرهائن.
لم تضمن هذه الإجراءات المتأخرة للبدر الحفاظ على عرشه الذي سلّمه له أبوه متهاوياً، فاندلعت ثورة سبتمبر على يد عبدالله السلال قائد الحرس الوطني، ضده.
برَّر المشير عبدالله السلال قائد الثورة على الملكية المتوكلية في كتابه ثورة اليمن الدستورية(1985) ما حصل بقوله أن الحُكم الإمامي بات منفراً للناس لدرجة فضّلوا معها اللجوء إلى الإنجليز بدلاً من الاستمرار تحت حُكمه، ويضيف: "اعتبر الإمام أن مناطق اليمن ملكاً خاصّاً به وبأبنائه، وبالتالي لاحقّ لأمرائها في حُكمها إلا بصفتهم موظفين عنده يقدّمون رهائن دليلاً على ولائهم له ولحكمه".
أسقطت تلك الثورة اليمن في أتون الحرب الأهلية 8 سنوات كاملة، انتهت بسيطرة الفصائل الجمهورية على الحُكم، وقيام الجمهورية العربية اليمنية عام 1970م، والتي شهد قيامها انتهاء الحكم الملكي بشكلٍ بات والإفراج عن آلاف الرهائن من أبناء المشايخ الذين حُرموا من التنشئة في كنف آبائهم لسنواتٍ طويلة، ومعه نظام الرهائن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...