في تاريخ العائلات المالكة في أوروبا الكثير من القصص عن أميرة هربت مع عشيقها، سواء كان حارساً أم نادلاً أم ضابطاً في الجيش، ولكن لا نسمع بهذه القصص المثيرة في عالمنا العربي، ولو سمعنا بها تكون عادة قصصاً معاصرة حدثت في زمن الانفتاح والتحرر وسهولة السفر، وليس في بغداد الثلاثينيات، كما حدث مع الأميرة عزة بنت الملك فيصل الأول، مؤسس الدولة العراقية الحديثة.
قليل من الناس تطرقوا لقصتها يومئذ، احتراماً لأبيها وجدّها، الشريف حسين بن عبد الله، ملك الحجاز وقائد الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية.
فيما يلي فصل من تاريخ العراق، أراد كثيرون أن يبقى منسياً.
ولدت الأميرة عزة في إسطنبول سنة 1905، وهي أكبر أولاد الملك فيصل الذي كان يومها أميراً يعيش في قصر مطل على البوسفور. دخل فيصل البرلمان العثماني (مجلس المبعوثان) نائباً عن مدينة جدة، قبل أن ينضم إلى صفوف الثورة العربية الكبرى التي قام أبيه بإعلانها سنة 1916، تاركاً عزة في رعاية أمها الشريفة حزيمة بنت ناصر، وجدتها الشركسية بزميجيهان، أم فيصل. وكانت خالتها الأميرة مصباح متزوجة من الأمير عبد الله بن الحسين، شقيق فيصل، مؤسس مملكة الأردن.
قليل من الناس تطرقوا لقصة هروب الأميرة عزة بنت الملك فيصل الأول مع عشيقها، احتراماً لأبيها وجدّها، الشريف حسين بن عبد الله، ملك الحجاز وقائد الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية
بين مكة ودمشق وإسطنبول
كان الشريف فيصل معجباً بالغرب، نظراً لما رأى في مدنه الكبرى من تطور ورقي، وقد حاول تعليم أولاده طرق الحياة الأوروبية منذ صغرهم. فقد طلب من صديقته الكاتبة البريطانية غيرترود بل أن تعلمهم عزف البيانو وأتيكيت العائلات المالكة في لندن، وجاء بمدرّس دمشقي يُدعى صفوت العوا، لتعليمهم الحساب والرياضيات والتاريخ الإسلامي.
غاب فيصل عن أولاده طوال سنوات الثورة العربية الكبرى (1916-1918)، حيث عاشوا في مكة مع نساء العائلة، وفي نهاية العام 1918، جاء بهم إلى دمشق بعد تحريرها من الحكم العثماني ومبايعته حاكماً عربياً على سورية. كانت الأميرة عزة قد بلغت الثالثة عشرة من عمرها عندما وصلت مع نساء الأسرة إلى دمشق، لتغادرها مُجبرة بعد خلع أبيها عن العرش في 24 تموز 1920.
الأميرة عزة تقف إلى جانب مع والدتها الشريفة حزيمة بنت ناصر
في بغداد
نقلت عزة إلى مكة مجدداً، قبل أن تستقر مع أمها في بغداد سنة 1924، بعد ثلاث سنوات من تتويج فيصل ملكاً على العراق، وقد عاشت في كنف أبيها حتى وفاته في إحدى مستشفيات سويسرا سنة 1933. لم تكن البنت المفضلة لدى الملك فيصل، الذي وجه كل عواطفه نحو شقيقتها الصغرى الأميرة رفعية، بسبب سقوطها من يد إحدى الخادمات وهي رضيعة، ما أدى إلى شللها بالكامل، وقد يكون هذا التفضيل أحد أسباب نقمة عزة على أسرتها.
هربت عزة وتركت رسالة مكتوبة باللغة الإنكليزية لشقيقتها، تخبرها فيها أنها قررت الانشقاق عن العائلة المالكة لتتزوج ممن تحب، لأن شقيقها وأمها لن يقبلا ارتباطها بزوج مسيحي يعمل نادلاً في المقاهي
بعد وفاة أبيها تسلّم شقيقها الملك غازي الأول عرش العراق، وكان يأخذها معه في إجازاته الصيفية إلى اليونان، حيث تعرّفت على نادل إيطالي يُدعى أنستاس (وبعض المصادر تقول إنه يوناني). أحبته عزة وبقيت على علاقة غرامية معه، تخاطبه بالسر عبر الرسائل المكتوبة، بعيداً عن أعين الأسرة المالكة في العراق.
هروب الأميرة
وفي سنة 1936، تظاهرت عزة بالمرض، وأخذت تسعل بصورة مستمرة وتبصق على الأرض دماً مزيفاً (تبين فيما بعد أنه عبارة عن جاكليت حمراء). عاينها أطباء القصر وقالوا إنها بحاجة إلى قسط من الراحة، فأمر الملك غازي بسفرها إلى جزيرة رودس مع شقيقتها وثلاث خادمات ليسهروا على خدمتها.
صورة للأميرة عزة مع والدها الملك فيصل وهي تقف على مسافة منه
من رودس، توجهت عزة إلى أثينا، حيث كان العاشق أنستاس في انتظارها، وتم عقد قرانهما في فندق الأتلانتك، بعد أن خرجت عزة عن دين الإسلام واعتنقت المذهب الأورثوذوكسي المسيحي، لتغير اسمها إلى "أنستاسيا" تيمناً بزوجها "أنستاس" والدوقة أنستاسيا، بنت قيصر روسيا نقولا الثاني، التي قيل يومها إنها نجت من مجزرة عائلة رومانوف في موسكو، وكانت تعيش في أوروبا.
عانت عزة بعد زواجها كثيراً من الفقر والحرمان، بعد أن استولى الزوج على أموالها ومجوهراتها، وقام ببيعها بأبخس الأثمان لكي يعيش، وهو رجل بسيط غير متعلّم وغير مؤهل لأي وظيفة تضمن له ولأسرته الصغيرة دخلاً محترماً
تركت عزة رسالة مكتوبة باللغة الإنكليزية لشقيقتها، تخبرها فيها أنها قررت الانشقاق عن العائلة المالكة لتتزوج ممن تحب، لأن شقيقها وأمها لن يقبلا ارتباطها بزوج مسيحي يعمل نادلاً في المقاهي. سارعت شقيقتها إلى فندق الأتلانتك وطلبت مقابلة "الأميرة عزة بنت فيصل"، ولكن عامل الفندق قال إنه لا يوجد أي نزيلة بهذا الاسم. وبعد المراجعة، تبين أنها دخلت الفندق باسمها الجديد "أنستاسيا".
سنوات التشرد والضياع
ثار القصر الملكي في بغداد عند سماع خبر هروب الأميرة، وصدر قرار ملكي بطردها من الأسرة الهاشمية، وسحب كل الألقاب والمخصصات التي كانت تتلقاها من شقيقها الملك غازي. ظلّت عزة، أو "أنستاسيا"، تعيش في اليونان بعد أن حصلت على الجنسية الإيطالية من زوجها، ولكنها عانت كثيراً من الفقر والحرمان، بعد أن استولى الزوج على أموالها ومجوهراتها، وقام ببيعها بأبخس الأثمان لكي يعيش، وهو رجل بسيط غير متعلّم وغير مؤهل لأي وظيفة تضمن له ولأسرته الصغيرة دخلاً محترماً.
سافر مع عزة إلى جزيرة قبرص بحثاً عن عمل، وعندما لم ينجح، حطّ به الرحال في لندن، حيث قرر الانفصال عن عزة سنة 1939، قبل أشهر قليلة من بدء الحرب العالمية الثانية.
عادت عزة بعدها إلى روما، وحيدة وفقيرة، حيث أقامت تحت مراقبة مخابرات بنيتو موسوليني، الذي خصص لها راتباً شهرياً من الحكومة الإيطالية خلال السنوات 1940-1944. ومع تقهقر القوات النازية والفاشية في الحرب، قُطع عنها المعاش، وعاشت عزة متسولة في الشوارع، تستجدي عطف المواطنين العرب المقيمين في روما، الذين تصدقوا عليها شفقة واحتراماً لأبيها وجدها.
أما في العراق فقد مُنعت الصحف من نشر أخبارها، ولم يجرؤ أحد على ذكر اسمها في مجلس غازي (الذي توفي سنة 1939) أو ابنه الملك فيصل الثاني. وفي سنة 1945، علمت أن ابن عمها الأمير عبد الإله، الوصي على عرش العراق وابن الملك علي (أكبر أولاد الشريف حسين)، كان ينوي زيارة لندن لمقابلة رئيس الحكومة ونستون تشرشل. توجهت عزة إلى لندن ومثلت أمامه بثيابها الرثة، باكية شاكية ما حل بها من مصائب. طلبت منه العفو والمغفرة، وحزن عبد الإله وعرض عليها العيش في القدس، وتخصيص مبلغ مالي شهرياً لتعيش منه، شرط ألا تخبر أحداً عن اسمها الحقيقي. طبعاً، لم يكن في وسعها إلا القبول.
في مذكراتها المنشورة في لندن سنة 2002، تقول الأميرة بديعة، بنت الملك علي: "إنني أخجل وأستحي من مجرد ذكر اسم عزة... لأن ما فعلته كان خزياً وعاراً، ليس بحق بيت عمي وحدهم، وإنما بحقنا كأشراف أيضاً"
العفو الملكي
سافرت عزة إلى القدس، حيث عاصرت حرب عام 1948 الذي أدى إلى ضم المدينة إلى المملكة الأردنية بعد احتلال فلسطين. لم تقترب لا من عمّها الملك عبد الله أو من خالتها الملكة مصباح. وفي أحد الأيام اجتمعت صدفة مع ابن عمها الأمير نايف، الذي عرفها على الفور. طلبت منه عزة التوسط لدى الملك عبد الله لاستقبالها في قصره بعمّان، وقالت إنها نادمة على ما فعلت وتريد العودة إلى كنف الأسرة الهاشمية.
قبل الملك عبد الله ذلك، ودعاها للعيش في عمّان، ولكن بعيداً عن الأسرة المالكة. وقد عطف عليها الملك حسين من بعده، الذي تولّى عرش الأردن سنة 1952، وقام بإكرامها واسترداد جميع حقوقها المسلوبة منذ سنة 1936. لا نعرف شيء عن موقفها من مجزرة قصر الرحاب التي أودت بحياة جميع أفراد الأسرة الحاكمة في العراق سنة 1958، وسحل ابن عمها الأمير عبد الإله في شوارع بغداد ومقتل الملك فيصل الثاني.
وعندما أصيبت بمرض السرطان، أرسلها الملك حسين إلى لندن للعلاج، حيث توفيت في إحدى مستشفيات العاصمة البريطانية سنة 1960. نقل جثمانها إلى الأردن لتوارى الثرى في مدافن الأسرة المالكة، ولكن الكثير من أمراء الأسرة لم يغفروا لها فعلتها، وفي مذكراتها المنشورة في لندن سنة 2002، تقول الأميرة بديعة، بنت الملك علي: "إنني أخجل وأستحي من مجرد ذكر اسمها... لأن ما فعلته عزة كان خزياً وعاراً، ليس بحق بيت عمي وحدهم، وإنما بحقنا كأشراف أيضاً".
صور المقال من كتاب وريثة العروش للأميرة بديعة بنت الملك علي London 2002.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 10 ساعاتجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 6 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.