يُقال إن مغنية الأوبرا اليونانية-الأمريكية Maria Callas ماريا كالاس (1923-1977) بدأت، حين تقدم بها العمر، تُجرّح حلقها كلّما غنَّت، الأمر الذي دفع من حولها إلى القلق، فكل "أريا" كانت تحمل بين طبقاتها فقداناً ما، تاركةً جرحاً في الحنجرة يهدّد ما بعده من أغنيات، ومع تدهور صحّتها وإلغائها عدداً من العروض الأوبرالية، اعتزلت السوبرانو نهايةً الخشبة والحياة.
وقضت ما تبقى لها من أنفاس، في شقتها في باريس، وحيدةً يتسلل إلى مسامعها ضجيج شارع جورج مانديل، وفي الـ16 من أيلول، صَمتت، لتموت في سريرها بشكل غامض، البعض يقول إنها ذبحة قلبية، والبعض ما زال محتاراً في موتها، خصوصاً أن رفاتها سُرق من مقبرة بير لاشيز في باريس، ثم استعيد، ثم نُثر في بحر إيجة كما كتبت في وصيتها، ويمكن القول إننا جميعاً نتنفس ما حملته الريح من رفاتها.
مؤخراً استضاف قصر غارنية، أو الأوبرا الوطنية في باريس، فنانة الأداء الصربية مارينا أبراموفيتش (1946)، بالطبع لا يمكن إنكار أن فرصة حضورها بشكل حي لا تفوت، خصوصاً أن هناك مجموعة من التوقعات التي تملأ المخيلة حين قراءة اسمها، هل ستسمح لنا بطعنها؟ هل ستصعق نفسها بمليون واط كهربائي كما قيل عام 2018؟ لكن هذه أوبرا غارنية، أشد الأماكن ارستقراطيةً وحريقاً وانتحاراً، لكن يبقى السؤال معلقاً: هل سنشهد رحيل أبراموفيتش تحت قبة من تصميم شاغال؟ خصوصاً أن الأوبرا التي أخرجتها أبراموفيتش تحمل اسم "سبع ميتات لماريا كالاس".
ندخل الأوبرا متأنقين بذكاء وخفّة، مُستعدين لمواجهة غير محسوبة، اسم أبراموفيتش يعني أننا قد نكون جزءاً من حدث استثنائي، نجلس، نتأمل سقف شاغال، وتبدأ الأوركسترا بالعزف. أبراموفيتش على سرير يمين الخشبة، مستلقية، نائمة، وتبقى كذلك إلى ما قبل نهاية العرض، هي الأشد راحة بين الجميع، فلا خطر، ولا مغامرة، نوم فقط.
تظهر الميتات السبع على شاشة إسقاط أمامنا، لنشاهد أبراموفيتش والممثل الأمريكي وليام ديفو، يعيدون تأدية ميتات كالاس السبع والأدوار التي لعبتها بشكل مختلف تماماً، روح كالاس تتقمص أبراموفيتش التي تصبح ديزدمونة وكارمن ولاتوسكا، وغيرها من بطلات الأوبرا، سبعة أدوار، وسبع مغنيات سوبرانو، وسبعة تسجيلات تلتقط لحظات ما قبل الموت، و أبراموفيتش نائمة أمامنا.
تكسر فنانة الأداء الصربية مارينا أبراموفيتش كل توقعاتنا عنها، لا خطر، ولا شيء استثنائي، مجرد فنانة تحاول أن تخبرنا بأن الموت قريب
لكنها تموت مراراً على الشاشة، تقع من أعلى بناء، تلتهمها الأفاعي، تختنق في اللامكان، ميتات تحاكي ما قامت به أبراموفيتش نفسها من عروض وما لعبته كالاس من أدوار، وكأننا أمام أسلوب متأخر يستعيد عبره الفنان حلماً كل اللحظات التي مات فيها، لكننا هنا أمام سبع مغنيات سوبرانو بأزياء خادمات، يختزلن موت سبع نساء تجسدن في أبراموفيتش، ضمن ديكور شديد البساطة، سرير، وشاشة إسقاط، وشبح مغنية أوبرا يحلق فوقنا.
تكسر أبراموفيتش كل توقعاتنا عنها، لا خطر، ولا شيء استثنائي، مجرد فنانة تحاول أن تخبرنا بأن الموت قريب، حتى الفيديوهات المسجلة تحوي الكثير من الخدع السينمائية، بحيث لم تتعرض أبراموفيتش للخطر، فلا موت على هذه الخشبة، مجرد تدليل لِطَيْفه أمام رجل يتغير دوره دوماً، لكنه رجل في النهاية، يتأمل سقوط فنانة/ محبوبة نحو الهاوية أثناء سعيها إليه.
نحن أمام سبعة جروح/ ميتات في حنجرة كالاس، التي ما إن تختم ميتاتها حتى تستيقظ أبراموفيتش، تمشي في الغرفة الباريسية التي أضحتها الخشبة، تفتح الشباك، تستمع لضجيج الشارع، ثم "تغادر"، بعدها تدخل الخادمات لترتيب الغرفة التي أصبحت خالية من كل "روح".
غنائية الموت مراراً
تموت كالاس في النهاية دوماً، حبّاً، شجاعةً، أو حتى شبقاً، يتلبس طيفها جسد أبراموفيتش، الجسد الذي يموت وحيداً في الغرفة بعد أن يحيي الجمهور، وهنا يظهر القرين، كل أداء قامت به أبراموفيتش ترك أثراً مادياً عليها، كأي مؤد يوظف لحمه لاكتشف الظاهرة الجمالية، ذات الأمر مع كالاس وجروح حنجرتها.
هناك دوماً ما يُكلم حين الوقوف على الخشبة، أثر لا يمحى داخل أو خارج جسد المؤدي حين تحدق به الأعين، ففي كل مرة هناك "موت" يتفاوت حجمه، وهنا يمكن أن نفهم الأسلوب المتأخر في فن الأداء، فأبراموفيتش التي تستلقي على السرير طوال العرض، تحطم هالتها نفسها كفنانة، كل أشكال استعراض الجسد والمخاطرة به لا نراها، لتطرح علينا سؤالاً: كم مرة على الفنانة/ المرأة أن تموت حباً؟
كل التمرينات على الموت لا تنفع حين يحضر، وحدنا من نموت فقط، وتؤرقنا لحظة مغادرة الروح، التي لا يراها حتى من هم أقرب الناس لنا
يحضر الموت في العرض بوصفه لحظةً مفعمةً بالعاطفة، إذ نشاهد هنيهات مسجّلةً تتباطأ حد السكون أحياناً، بينما أبراموفيتش، مستلقية على الخشبة أمامنا دون حركة، ولغة كل ما استلقى جثة حتى يقوم، وهنا تتجلى أطياف كالاس التي تحتل عالم أبراموفيتش بأكمله، تهمس لها، تأمرها، تغنيها، ثم تودعها، وهنا تظهر لعنة تتجلى بالشكل التالي:
في الحلم تتجه أبراموفيتش/ كالاس نحو موتها مع "حبيبها"، لكن على الخشبة تودع الحياة وحيدةً، خادماتها من حولها فقط، ما يعني أن كل التمرينات على الموت لا تنفع حين يحضر، وحدنا من نموت فقط، وتؤرقنا لحظة مغادرة الروح، التي لا يراها حتى من هم أقرب الناس لنا.
أنُدلّل الموت في سبيل الحب، أم نروض الحب فناءً في الآخر؟ خصوصاً أن هذا السائل الميلانخولي يملأ الجسد تدريجياً، إلى حد أن لا يرى الفنان سوى موته متكرراً أمامه، خانقاً إياه تارةً، وملقياً إياه تارة ليطفو ساقطاً من أعلى بناء
اختارت أبراموفيتش شكل الأوبرا لتقدم أسلوبها المتأخر، وكأنها تقف أمام عدد لا متناه من المؤديات والمغنيات لتلعب دورها الأخير، وكأن الوقوف على خشبة الأوبرا إعلان من أبراموفيتش أن كل أشكال الأداء لم تكن كافية كي ترحل، لابد أن تكون مع أولئك النجمات، من تيقن من أنهن أكبر من أجسادهن، وهنا نتلمس في العرض انتقالاً جمالياً ومفاهيماً من "فن الأداء" إلى " الأوبرا"، من الفن المائع، الجسدي، السياسي، إلى الأوبرا، الفن المغرق في ميلودراميته، والأهم، ذو النتائج المتوقعة، لا مفاجآت في الأوبرا، الحكايات معروفة مسبقاً.
وهنا المرعب، كل الشخصيات التي نقرأها على البروشور تموت نهاية، وأبراموفيتش تدلل الموت وتداعبه، لكن عوضاً عن توظيف كل ما نعرفه عنها، أبراموفيتش الفنانة التي وقفت مراراً عاريةً، مطعونةً، مشتومةً، تختار النوم ثم الوقوف على الخشبة نهايةً لتودع الجمهور، وكأنها تقول إنّ أقسى الميتات هي الموت حباً، لأن، وبعكس الموت البيولوجي، ،المُحب يموت مراراً، ولا يستمر في الموت منذ أول مرة.
يبكي الجمهور عدة مرات أثناء هذا العرض...
تموت في النهاية دوماً، حبّاً، شجاعةً، أو حتى شبقاً، ويبكي الجمهور عدة مرات أثناء هذا العرض...
يبكي الجمهور عدة مرات أثناء العرض، لا نعلم بدقة من نودّع، كالاس أم أبراموفيتش، أم الأدوار التي أدتها "السوبرانوز" السبعة. لا نعلم من يلوّح نهايةً على الخشبة بالثوب اللّماع، كالاس أم أبراموفيتش. نحن أمام قداس جنائزي، غير فجائعي، تمهّد فيه أبراموفيتش لرحيلها. نبكي ربما شفقةً على أنفسنا، قلائل من يتاح لهم استكشاف موتهم أمامنا، ودراسة احتمالاته واستعراضها بعكس الكثيرين ممن يموتون سراً، ومرة واحدة فقط، دون تجربة مسبقة.
يظهر الموت لدى أبراموفيتش كغرض رغبة ميلانخولي، مساحة في "الداخل" تتفشى في الجسد، الذي يقاوم هذا الموت/ الغرض ويعيده إلى فراغه، إلى فتحة لا يسدها الدم أو الدمع أو الصمت أو العويل، نقص دائم في "الداخل" نختبر محاولات ملئه سبعاً ونحنّ إليه عمراً، وفي حال امتلأ هذا الفراغ حُباً، حصل الموت ذاته، هنا نحن في تناقض.
أنُدلّل الموت في سبيل الحب، أم نروض الحب فناءً في الآخر؟ خصوصاً أن هذا السائل الميلانخولي يملأ الجسد تدريجياً، إلى حد أن لا يرى الفنان سوى موته متكرراً أمامه، خانقاً إياه تارةً، وملقياً إياه تارة ليطفو ساقطاً من أعلى بناء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعتين??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 22 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون