شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ينزل الوحيُ كدويّ النحل... طرق نقل العلم الإلهي للبشر في الأديان الإبراهيمية

ينزل الوحيُ كدويّ النحل... طرق نقل العلم الإلهي للبشر في الأديان الإبراهيمية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 23 سبتمبر 202105:23 م

عرفت الثقافات الإنسانية طرقاً متعددة لتحقيق الاتصال بين السماء والأرض، إذ ساد الاعتقاد منذ القدم، بأن الإله المعبود قد اتصل بخلقه من خلال مجموعة من الرسل والأنبياء المختارين، الذين تركزت مهمتهم في التبشير بعبادة الرب وتبليغ شريعته لبني الإنسان.

في البحث عن تاريخ الأديان الإبراهيمية الثلاث الكبرى -اليهودية والمسيحية والإسلام- سنلمس أشكالاً مختلفة لذلك النوع من الاتصال المقدس، والذي ستتنوع طرقه بحسب ظروف الثقافة السائدة في كل حالة.

في اليهودية: ألواح موسى ورؤيا عزرا

عرفت الثقافة اليهودية أشكالاً مختلفة للاتصال بين يهوه -إله بني إسرائيل- من جهة، والأنبياء من جهة أخرى، وبحسب ما ورد في العهد القديم، فقدتجلى يهوه للنبي موسى للمرة الأولى فوق جبل حوريب في شكل عُليقة -شجرة صغيرة- ملتهبة، وهناك تلقى موسى الأمر بالذهاب لفرعون ليطلب منه تحرير بني إسرائيل والخروج بهم إلى أرض الميعاد.

بعد الخروج، تلقى موسى التشريعات والوصايا بشكل مكتوب، فبحسب ما ورد في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج:  "... ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء لوحي الشهادة: لوحي حجر مكتوبين بإصبع الله".

ما ورد في تلك الألواح تم نسخه فيما بعد، كما حفظه العديد من اللاويين، اللذين اختصوا بالأمور الدينية، ولكن مع مرور السنوات وتدمير المملكة الإسرائيلية ووقوع السبي البابلي في 587ق.م، كاد هذا النص أن يُنسى ويضيع، لولا المجهودات الكبيرة التي بذلها عزرا الكاتب عندما قام بتدوين الشريعة الموسوية، بعدما رجع إلى أورشليم في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد.

بحسب الكتابات الأبوكريفية -غير القانونية- فإن كتابة عزرا لأسفار الشريعة قد تمت بواسطة معجزة إلهية، إذ ورد في السفر المسمى بـ"سفر عزرا الرابع" أن عزرا –الذي اشتُهر بلقب الكاتب نظراً لكتابته لأسفار الشريعة- قد ناشد الرب: "... أرسل في روحك القدوس، فأكتب كل ما صُنع في العالم من البداية، كل ما كُتب في شريعتك، ليستطيع الناس أن يجدوا دربك، وينال الحياة من يرغبونها في نهاية الأزمنة". فرد عليه الربُّ وأمره أن يبتعد عن الشعب اليهودي لمدة أربعين يوماً، كما أمره أن يصطحب معه خمسة رجال: "وفي اليوم التالي، دعاني الصوت وقال لي: يا عزرا، افتح فمك واشربْ ما أنا أسقيك. ففتحت فمي، فقُدمت لي كأس ملآنة. امتلأت بشيء كالماء، وكان لونها شبيهاً بالنار، فأخذت الكأس وشربت. وحين شربتُ، فجر قلبي للفهم، وانتفخ صدري بالحكمة، واحتفظ فكري بالذاكرة، فانفتح فمي وما عاد ينغلق، فأعطى العلي أيضاً الفهم للرجال الخمسة، فكتبوا ما كنت أقوله لهم بتنظيم بواسطة علامات ما كانوا يعرفونها...".

بحسب الكتابات الأبوكريفية -غير القانونية- فإن كتابة عزرا لأسفار الشريعة قد تمت بواسطة معجزة إلهية

مسألة نقل العلم الإلهي للبشر في اليهودية، ترتبط أيضاً بالتفرقة بين نوعين من أنواع الرسل، وهما الرائي والنبي، واللذان نَسبت إليهما النصوص اليهودية القدرةَ على التعرف على مراد يهوه من بني إسرائيل.

بحسب ما يذكر الباحث المصري الدكتور حسن ظاظا في كتابه "أبحاث في الفكر اليهودي"، فقد عرفت الثقافة اليهودية مصطلح الرائي منذ فترة مبكرة، إذ تم استخدامه في مرحلة تاريخية سابقة عن مثيلتها التي استُخدم فيها مصطلح النبي، ولما كان الرائي يقوم برؤية المستقبل والتنبؤ بالغيب، فقد كان يشبه الحكماء والسحرة والشامان المعروفين في الأديان البدائية إلى حد بعيد. أما النبي فقد ظهر في النصوص اليهودية كفمٍ ليهوه، فهو الذي يبلغ أوامر الله لشعبه، وهو الذي ينقل طلبات الشعب إلى الله، ومن هنا يمكن أن نعتبره بمثابة الوسيط بين الطرفين.

في المسيحية: الإلهام وموهبة التكلم بألسنة

عرفت المسيحية الروح القدس، على كونه الأقنوم الثالث من أقانيم الإله الواحد، وآمنت بكونه المسؤول عن نقل العلم من اللاهوت إلى الناسوت.

على العكس مما هو شائع في الثقافتين اليهودية والإسلامية، فإن المسيحية تؤمن بأن الوحي الإلهي أثناء تدوين الكتب المسيحية المقدسة –العهد الجديد- قد اعتمد على الإلهام وليس الكتابة الحرفية، بما يعني أن الروح القدس قد تلبس بكتبة الأناجيل والأسفار فمنحهم العصمة، وأرشدهم للطريقة المُثلى لتبليغ رسالة المسيح، ولكن دون أن يملي عليهم الكلمات التي دونوها في كتبهم؛ الأمر الذي يُفهم منه أن كلمة الله المبثوثة في تلك الكتب قد تلونت واصطبغت بثقافة وأفكار كل كاتب من الكتبة.

إحدى اللحظات المهمة التي أثرت فيها الروح القدس في نقل العلم الإلهي للبشر، تمثلت في الحادثة المشهورة التي وقعت في اليوم الخمسين بعد قيامة المسيح، وذلك عندما حلت الروح القدس على تلاميذ المسيح، لتمنحهم موهبة التكلم بألسنة، والتي تعني قدرة هؤلاء التلاميذ على التحدث بلغات أجنبية لم يعرفوها من قبل، وكان الهدف من ذلك هو تسهيل مهمة التبشير بالمسيحية بين الأمم الوثنية.

هذه الموهبة تحدث عنها الإصحاح الثاني من سفر أعمال الرسل: "وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا".

في الإسلام: الرؤيا، والعلم اللدني، وعلم الأئمة

عرف الإسلام الوحي كحلقة وصل بين السماء والأرض، كما ساد الاعتقاد بأن الملاك جبريل، كان هو المسؤول عن تبليغ رسالة الله عز وجل إلى النبي على مدار فترة البعثة النبوية، والتي ناهزت الثلاثة وعشرين عاماً.

على العكس مما هو شائع في الثقافتين اليهودية والإسلامية، فإن المسيحية تؤمن بأن الوحي الإلهي أثناء تدوين الكتب المسيحية المقدسة قد اعتمد على الإلهام وليس الكتابة الحرفية

الكثير من الأحاديث والروايات تحدثت عن كيفية تلقي الرسول للوحي، ومن ذلك ما ورد في كل من "صحيح" البخاري و"صحيح" مسلم، بأنه لما سُئل النبي عن كيفية تلقيه الوحي، فقد أجاب: "أحْياناً يَأْتِيني مِثْلَ صَلْصَلَة الجَرَس، وهو أَشدُّه عليَّ، فيَفْصِمُ عنِّي وقد وَعَيْتُ عنه ما قال، وأحياناً يتمثَّلُ لي المَلَكُ رَجُلاً فيُكَلِّمُني فأَعِي ما يقول".

أيضاً ورد في "مسند" أحمد بن حنبل ما يشير إلى وجود بعض الآثار المادية التي عرفها الصحابة عند تلقي الرسول للوحي، إذ ينقل عن عمر بن الخطاب أن النبي كان "إذا أُنزل عليه الوحي سُمع عند وجهه دوي كدوي النحل".

على عكس المشهور، فإن الثقافة الإسلامية السنية التقليدية، قد عرفت طرقاً أخرى للربط بين السماء والأرض، ومنها الرؤيا التي لطالما اعتُبرت جزءاً من أجزاء النبوة، ويشهد على ذلك ما أورده البخاري في صحيحه من قول الرسول: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات"، فلما سُئل عن المقصود بالمبشرات، قال: "الرؤيا الصالحة"، وما ورد في موضع آخر من صحيح البخاري، من قول الرسول: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة".

ابن بطال البكري المتوفى 449هـ عمل في شرحه لصحيح البخاري، على تفسير العلاقة بين الرؤيا والنبوة، فقال: "إن لفظ النبوة مأخوذ من النبأ، والإنباء، وهو الإعلام في اللغة، والمعنى أن الرؤيا إنباء صادق من الله، لا كذب فيه، كما أن معنى النبوة الإنباءُ الصادق من الله، الذي لا يجوز عليه الكذب، فشابهت الرؤيا النبوة في صدق الخبر عن الغيب".

النوع الثاني الذي عرفته الثقافة السنية من أنواع الاتصال بين الإله والبشر بعد وفاة الرسول، يتمثل في ما عُرف باسم الإلهام أو التحديث، وهو النوع الذي ظهر في الحديث الوارد في صحيح البخاري: "لقد كان فيما كان قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر –يقصد عمر بن الخطاب".

ابن حجر العسقلاني المتوفى 852ه ناقش تلك المسألة بشيء من التفصيل في كتابه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، فقال: "... المحدث بالفتح، هو الرجل الصادق الظن، وهو من ألقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدثه غيره به... وقيل من يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل مكلَّم أي تكلِّمه الملائكة بغير نبوة....".

أما إذا انتقلنا للثقافة الصوفية، فسنجد أن هناك طريقاً آخر مشهوراً للتعرف على العلم الإلهي، ألا وهو العلم اللدني، الذي عُرف بعلم الحقيقة أو العلم الوهبي أو العلم الباطني. يستشهد الصوفيون على إثبات وجود هذا النوع من العلم بما ورد في سورة الكهف، في سياق الحديث عن قصة اللقاء بين النبي موسى والعبد الصالح، إذ وصف الأخير في الآية الخامسة والستين من تلك السورة: "فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً".

لما سُئل النبي عن كيفية تلقيه الوحي، فقد أجاب: "أحْياناً يَأْتِيني مِثْلَ صَلْصَلَة الجَرَس، وهو أَشدُّه عليَّ، فيَفْصِمُ عنِّي وقد وَعَيْتُ عنه ما قال، وأحياناً يتمثَّلُ لي المَلَكُ رَجُلاً فيُكَلِّمُني فأَعِي ما يقول"

كبار الصوفية اختلفوا مع بعضهم بعضاً حول وضع تعريف محدد للعلم اللدني، وإن اتفقوا على كونه نوعاً من أنواع العلوم القلبية، التي لا يمكن اكتسابها؛ على سبيل المثال، عرف حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (المتوفى 505هـ) في كتابه "إحياء علوم الدين"، العلم اللدني بكونه "العلم الذي ينفتح في سرّ القلب من غير سبب مألوف من خارج"، في الوقت الذي وصفه فيه الشيخ لأكبر، محي الدين بن عربي (المتوفى 638هـ) في كتابه "الفتوحات المكية"، بأنه العلم "الذي يفيض على القلب من غير اكتساب أو تعلم".

ابن عربي تحديداً، عول كثيراً على العلم اللدني في مقاربته للتصوف، ففصّل الحديث عنه وربط بينه وبين المكاشفات والمنح الربانية، كما بيّن طرق الوصول إليه، فقال: "فإذا كمل تطهير القلب، وانجذب إلى حضرة الربّ، فاضت عليه العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول، بل تُسلم لأربابها، من غير أن يقتدى بهم في أمرها، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب؛ كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى".

اعتماداً على طريق العلم اللدني، نستطيع أن نفهم شهرة بعض المقولات ذائعة الصيت داخل المجال الصوفي، ومنها على سبيل المثال ما نُقل عن أبي يزيد البسطامي (المتوفى 261هـ) من قوله في مناقشته للفقهاء التقليديين: "أخذتم علومكم من ميتٍ عن ميتٍ، وأخذنا علومنا من الحي الذي لا يموت"، وما نُقل عن ابن عربي من قوله: "حدثني قلبي عن ربي".

في التصوف هناك طريق آخر مشهور للتعرف على العلم الإلهي، وهو العلم اللدني

وفي الثقافة الشيعية الإمامية الاثني عشرية، يظهر طريق جديد لتلقي العلوم الإلهية، وهو ذلك الطريق الذي اُختص به الأئمة من آل البيت دوناً عن عامة الناس.

بحسب ما هو معروف في الثقافة الشيعية، فإن منصب الإمامة قد تعاقب عليه اثنا عشر رجلاً، بدايةً من ابن عم الرسول، علي بن أبي طالب، ونهايةً بمحمد بن الحسن العسكري، المهدي المنتظر الغائب، الذي توارى عن الأنظار منذ عام 329هـ، ويؤمن الشيعة الإمامية أن هؤلاء الأئمة الذين أوكلت إليهم مهمة الربط بين السماء والأرض، قد منحوا قدرة خاصة فيما يخص تلقي العلم الإلهي؛ الأمر الذي شرحه المرجع الشيعي المعاصر ناصر مكارم الشيرازي في كتابه "نفحات القرآن" بقوله: "من مصادر علم الأئمّة، اتصالهم بالملائكة، لا بمعنى‏ أنّهم كانوا من الأنبياء والرسل، فإنّنا نعلم أنّ نبي الإسلام صلى الله عليه وآله كان خاتم الأنبياء والرسل، وبوفاته انقطع الوحي، بل إنّهم كانوا كالخضر وذي القرنين ومريم، حيث كانوا على‏ اتصال بالملائكة بناءً على‏ ظاهر آيات القرآن، وكانت الحقائق تُلقى في قلوبهم من خلال عالم الغيب".

في الحقيقة، تذخر المصادر الشيعية بالعديد من المرويات التي تتفق مع ذلك الاعتقاد، ومن ذلك ما نقله محمد بن يعقوب الكليني (المتوفى 329هـ) في كتابه الكافي، نقلاً عن الإمام السادس جعفر الصادق: "إذا كان ليلة الجمعة وافى‏ رسول الله العرش ووافى‏ الأئمّة معه، فلا تُرَدُّ أرواحنا إلى‏ أبداننا إلّا بعلم مستفاد، ولولا ذلك لأنفدنا"، وما نقله الكليني أيضاً في موضع آخر من كتابه عن الإمام السابع موسى الكاظم: "مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث، فاما الماضي فمفسر، وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب، ونقر في الأسماع، وهو أفضل علمنا ولا نبي بعد نبيّنا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image