من المأثورات أن يترك المبدع مسافة زمنية بينه وبين الأحداث العاصفة: الحرب، الثورة، الغزو، لكي يتمكن من إضافة الرؤيا إلى الرؤية، فلا يكتفي بما ترصده العين، وإنما يصل إلى الجوهر، ويقترب من عوامل تنصهر، ويؤدي غليانها إلى اشتعال القمة البارزة.
يحلو للبعض ترديد هذا الكلام المريح، الداعي إلى الكسل أحياناً، وإلى إبراء الذمة في أحيان أخرى. حتى لو صحت هذه القاعدة، فإن لها استثناءات تؤكدها. لا تصح المصادرة على الشاعر المشارك في معركة أن تلهمه النيران قصيدة أو بيتاً، فنأمره بأن يخرس الآن، وأن ينخرط في واجب قتالي أكثر قداسة من الشعر والشعراء. ويصح هذا الكلام أيضاً على مخرج حملته المصادفة ـ أو غامر بحياته ـ إلى الساحة قبل زوال آثار الحريق، ففتح عينه كاميرا، ولم يسلم صدره من دخان القصف. والفيلم التسجيلي العراقي “من برلين إلى بغداد” استثناء من قاعدة مأثورة بدأتُ بها كلامي.
قُدّر لمخرجة الفيلم ومنتجته، الشاعرة العراقية أمل الجبوري، أن تكون في قلب العاصفة. لعلها عمدت إلى ذلك، فسارعت بالحضور من برلين حيث تعيش، إلى بغداد حيث إقامة القلب، والكاميرا نشطة لتوثيق لحظة لن تتكرر، ولا تنتظر الكسالى، وربما يحاول الغزاة طمسها وإنكارها وغسل أيديهم منها.
وعقب إنتاج الفيلم عام 2003، عرض للمرة الأولى في متحف برجامون ببرلين، وحضره المئات من الألمان وغيرهم. تجربة تقول عنها المخرجة إنها “سابقة في المتحف، إذا تم التحضير للعرض بإزاحة قطع أثرية معروضة في قاعة المتحف بالقرب بوابة عشتار، وهي الجزء الأكثر أهمية في آثار الحضارة البابلية. وضعوا المقاعد، وغلّفوا القبة الزجاجية للقاعة؛ لكي يتمكنوا من عرض الفيلم للجمهور، تكريماً لحضارة العراق، وتضامناً مع شعبه، وتعبيراً عن إدانة العالم لما حلّ بآثار العراق وتاريخه وتراثه من سلب ونهب، بعد الاحتلال وبتسهيل منه”.
وكان هذا الفيلم محظوظاً بأربعة عروض في أربعة مواقع ثقافية مصرية: معهد غوته بالقاهرة، ونقابة الصحفيين بالقاهرة، ومكتبة الإسكندرية، وفي ليلة العراق بدار الأوبرا بالقاهرة. وفي الذكرى العاشرة لهجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، عرض الفيلم السبت الماضي في مقهى المدلل الثقافي التراثي، لتصل رسالته إلى جيل لم يشهد تلك اللحظات العصيبة لهمجية الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.
في هذا الوقت المبكر، عقب الغزو مباشرة، التقطت أمل الجبوري شعاراً دالاً، لم أشاهده في أي فيلم عراقي آخر. كتب أحدهم على أحد الجدران: “يا لثارات الكويت”
الفيلم الذي استغرق تصويره أسبوعاً، شارك في إخراجه الشاعر العراقي جواد الحطاب، ويبلغ خمساً وخمسين دقيقة تكفي دليل إدانة لوحشية الغازي الأمريكي الذي يعرف هدفه جيدا.ً الذين استيقظوا متأخراً، وفاتهم فجر التاريخ وضحاه، رأوا أن ينجزوا أي شيء في الوقت الضيق قبل الغروب. الولايات المتحدة الأمريكية، كما وصفها أوسكار وايلد، هي الدولة الوحيدة التي ستنتقل من البربرية إلى الانحلال، من دون المرور بالحضارة. ومن شأن البربري المتعجل أن يستبيح ما يفتقد إليه. والأمريكان يفتقدون إلى التاريخ ويكرهونه، ولهذا السبب استهدفوا المعالم الحضارية والثقافية في بغداد، بمجرد وقوعها في قبضة الاحتلال، في 9 نيسان/أبريل 2003.
هذا الفيلم شاهد على جرائم ارتكبتها القوات الأمريكية: إحراق المكتبة الوطنية عمداً، ومنع دخول المتحف الوطني ببغداد لمدة أربع ساعات، حتى يخرج اللصوص المحترفون بالمنهوبات. ثم سمحوا للغوغاء بالدخول، للتغطية على جريمتهم.
في هذا الوقت المبكر، عقب الغزو مباشرة، التقطت أمل الجبوري شعاراً دالاً، لم أشاهده في أي فيلم عراقي آخر. كتب أحدهم على أحد الجدران: “يا لثارات الكويت”. وعيدٌ لم يوقّعه كاتبه، ولا تشبهه إلا صيحة الزير سالم، قبل الشروع في الانتقام لمصرع أخيه في حرب استمرت أربعين عاماً: “يا لثارات كليْب”.
هذا الفيلم ابن لحظته. وليد ظرف استثنائي كان فيه الفضاء العراقي رحباً لزوال الديكتاتورية، وضيقاً مقبضاً لعدم وضوح الرؤية. غاب المسؤولون، وحضر شهود العيان، عراقيون أوفياء حاولوا إنقاذ تراث بلادهم، متسلحين بالحس الحضاري والمسؤولية التاريخية. قال مؤيد سعيد عالم الآثار المرموق إن القوات الأمريكية، في الأيام الأولى بعد سقوط بغداد، لم تسمح لأحد بالتنقل داخل المتحف: “وقفت الدبابات على الباب، ودخل اللصوص في أمان”.
والذين سُمح لهم بدخول المتحف كانوا يعرفون ماذا يفعلون، والطرق السهلة للنهب المنظم، وسرقة وثائق المتحف أو تدميرها، ثم الخروج بالمسروقات عبر “اقتحام الأبواب المحصنة”. هكذا تم تدمير كل ما يمكن أن يمثل نواةً لذاكرة عراقية، كالصور الفوتوغرافية، وقسم الوثائق. وفي نهاية الجريمة، كان المتحف على وشك التعرّض لجريمة الإحراق، كما فعل الغزاة الذين أحرقوا مكتبة بغداد ومتحف الفن الحديث وغيرهما.
“من برلين إلى بغداد” فيلم لم تصنعه أمل الجبوري للحنين واستثارة الروح الجنائزية. وسوف يستعاد الفيلم، حين ينهض في العراق مسؤولون يعرفون ماذا تعني بلادهم
مصير بائس وحزين لتاريخ تبدد، والدخان يتصاعد من نوافذ دار الكتب والوثائق، وفيها مركز صدام للمخطوطات الكائن بشارع حيفا، في بناية يرجع تاريخ إنشائها إلى القرن الحادي عشر الميلادي. حرقت آلاف المخطوطات، وفقاً لخبير المخطوطات أسامة النقشبندي. وتمكنت الدكتورة ظمياء عباس من إنقاذ مخطوطات “تمثل ذاكرة الإنسانية”، وقالت إن المقصود بهذه الحملة على الذاكرة “ليس صدام حسين، وإن مملكة أمريكا لا تساوي كنوز العراق”.
أما مكتبة اللغات القديمة، فقد بدت مجرد أرفف تعلوها بقايا رماد الحرائق. وقال جابر خليل رئيس هيئة الآثار والتراث بوزارة الثقافة سابقاً إن هذه المكتبة التي كانت أهم وأشهر مكتبة لدراسات اللغات القديمة في العالم لم تبق بها ورقة واحدة. وأبدى خوفه من وصول هذه الكنوز إلى إسرائيل أو إلى غيرها.
“من برلين إلى بغداد” فيلم لم تصنعه أمل الجبوري للحنين واستثارة الروح الجنائزية. وسوف يستعاد الفيلم، حين ينهض في العراق مسؤولون يعرفون ماذا تعني بلادهم، ويدركون أن الطوفان يأتي فيدمر كل شيء، تماثيل الدكتاتور والعملاء واللصوص. زرت البصرة، ولم أجد فيها صورة أو تمثالاً لمسؤول، ذهب زمن القائد الضرورة. التاريخ اصطفى بالتكريم الأكثر جدارة، ابن البصرة ورمزها بدر شاكر السياب، يستقبل الزوار في شاشة المطار، بجوار “قاعة السياب”. ثم يُرى تمثاله الذي صمد طوال الحرب العراقية الإيرانية، وبقي شامخاً بهياً بعد إزالة تماثيل أرهقت أعين العراقيين عدة عقود.
وينتهي فيلم “من برلين إلى بغداد” بأبيات من قصيدة كتبها محمود درويش بعد بدء القصف الأمريكي البريطاني للعراق في آذار/مارس 2003، وقبل سقوط بغداد:
أتذكر السياب يصرخ في الخليج:
عراق عراق، ليس سوى العراق
ولا يردّ سوى الصدى
أتذكر السياب إن الشعر يولد في العراق
فكن عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ 5 أيامSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ 4 اسابيعحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.