شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
سمّاني مريم دون أن أراه... قصة صورة

سمّاني مريم دون أن أراه... قصة صورة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 2 أكتوبر 202103:58 م

كانت الحرب قد ولدت قبلي، ومثل طاعون وعدوى كانت تلحق عائلتي كما العوائل الأخرى التي كانت تسكن في المدن الواقعة بالقرب من الحدود الإيرانية العراقية. وعائلتي تهرب منها من مدينة إلى أخرى، وبين هذه المدن المؤقتة ولدت أنا، وكان قد مرّ على الحرب أربع سنوات. 1984.

في العام ذاته كان أخي الأكبر يذهب للقتال دون علم العائلة قائلاً لهم إنه يذهب إلى مدينة أخرى من أجل الدراسة. كان عمره 16 عاماً ولم أتعرف إليه. بين حين وآخر كان يمرّ بالبيت لزيارة الأهل، خلال هذه الزيارات كانت ولادتي، فقيل لي إنه سمّاني "مريم" في إحدى زياراته، وغادر ثانية.

في العام ذاته أيضاً ذهب ولم يعد، ثم عرف الأهل أنه كان يذهب إلى جبهات القتال محارباً. في البحث عنه لم يصلوا إلى خبر سوى أن قريباً منا كان قد رآه في الخطوط الأمامية من القتال، ثم لا خبر أو عنوان منه إلى زمن طويل. انتهت الحرب عام 1988، وكان أخي مازال "مفقود الأثر"، لا تعرف عائلتي إن كان قد استشهد أم مازال حياً وقد أسر. في عام 1990 بدأت عملية تبادل الأسرى بين البلدين.

كان يعود من العراق إلى إيران العشرات من المحاربين السابقين وقد تم الإفراج عنهم. بابتسامات كبيرة ملؤها الشوق والفرح، يلوّحون لأهلهم من بين شبابيك الحافلات.

كانت الحرب قد ولدت قبلي، ومثل طاعون وعدوى كانت تلحق عائلتي كما العوائل الأخرى التي كانت تسكن المدن الواقعة بالقرب من الحدود الإيرانية العراقية. وعائلتي تهرب منها من مدينة إلى أخرى، وبين هذه المدن المؤقتة ولدتُ أنا

وقبل دخول كل قافلة منهم، كانت تُكتب أسماؤهم آنذاك في جريدة ما. تنشر الجريدة وتوزع في أنحاء البلاد ليعرف أهالي الأسرى ويأتوا لاستقبالهم. وأمي التي من عادتها أن تذهب إلى السوق صباح كل يوم، كانت تخرج وتعود إلى البيت مالئة سلَّتها بالخضار والفواكه وألعاب لنا، وواضعة فوق كل ذلك "جريدة". ثم تبدأ وتستمر طوال النهار عملية البحث عن اسم أخي بين القوائم الطويلة لأسماء الأسرى المفرج عنهم أو كما كان يطلق عليهم بالفارسية "آزادِگان"، أي "الأحرار".

كل مرة لم تنجح العملية، ولم يتم العثور على اسم أخي بينهم. أمي كانت تنتظر، وكنت أنتظر معها دون أن يكون لي شعور كبير نحو أخي. كنت أتمنى أن يعود من أجل أمّي فقط؛ من أجل أن تفرح وتستطيع أن ترتدي ثياباً ملونة، هي التي لم تلبس منذ غياب أخي سوى الأسود.

كانت أمي تحتفظ بصورة لأخي في الخزانة واضعة إياها بين قماش أخضر ناصع، وفي كثير من الأحيان حين تجد البيت فارغاً من أفراد العائلة، تجلس على الأرض مقابل الخزانة المفتوحة كما المحراب، تخرج الصورة، تزيل عنها الحجاب الأخضر الجميل، وتأخذ بالبكاء.

كانت أمي تحتفظ بصورة لأخي في الخزانة واضعة إياها بين قماش أخضر ناصع، وفي كثير من الأحيان حين تجد البيت فارغا من أفراد العائلة، تجلس على الأرض مقابل الخزانة المفتوحة كما المحراب، تخرج الصورة، تزيل عنها الحجاب الأخضر الجميل، وتأخذ بالبكاء

كنت أتبع أمّي حينها، أجلس إلى جنبها. أشهد على تلك اللحظة الخرافية لإزالة الأخضر وإشراق وجه أخي من خلفها، مراقبةً وجهها، وما أن تبدأ هي بالبكاء، حتى تسقط دموعي وأبكي معها بصوت عال. باكيةً كانت تتحدث معه، ترجوه، تعاتبه، تدعو له وأنا أسند رأسي إلى صدرِها، أبكي من أجل بكائها، وأتمنى من كلّ قلبي أن ينتهي حزن أمّي وكآبتها.

بعد ما يقارب ساعة من البكاء تقبّلني أمي، تعيد الصورة إلى بيتها، وأعود ثانية إلى طفولتي المفعمة باللّعب والدّلال. ألعب طوال النّهار في البيت والشوارع، إلى حين الموعد المقبل مع أمّي والصورة.

هكذا مرّت السنوات، ولا خبر من أخي، لا في الجرائد ولا عن أفواه الآخرين من أصدقائه الذين عثرت عليهم عائلتي خلال بحوثها في ما بعد.

ثم ذات يوم كنت عائدة لتوّي من المدرسة، فوجدت في بيتنا ضيوفاً لا أعرفهم، جالسين في غرفة الضيافة التي كانت تطلّ على باحة البيت. كنت ما زلت في الباحة حين أطلّت أمّي من الغرفة، ووقفت على عتبتها باكيةً بصوت عال وصارخة: "يمّا". كان عام 1995.

في ذلك العام، ذلك اليوم الدافئ، وفي تلك اللحظة، شعرت أن شيئاً ما قد انهار. انهار دون أن يسقط على الأرض؛ حجمه الثقيل وقع على بيتنا، على أيامنا التي تلتْ تلك اللحظة، وعلى أرواحنا جميعاً.

قال الضيوف لأهلي إنه أثناء البحث عن جثامين الشهداء في المناطق الحربية، وجدوا عظاماً تدل السلسلةُ التي كانت بالقرب منها أن تلك العظام متعلقة بأخي. خِفتُ من حديث العظام وكنتُ أخاف حينها حتى عند النظر إلى الهيكل العظمي في المدرسة. خفتُ أن أسأل أيّ شيء

كان الضيوف قد قالوا لأمي وأبي إنه أثناء البحث عن جثامين الشهداء في المناطق الحربية، وجدوا عظاماً تدل السلسلةُ التي كانت بالقرب منها أن تلك العظام متعلقة بأخي. خِفتُ من حديث العظام وكنتُ أخاف حينها حتى عند النظر إلى الهيكل العظمي في المدرسة. خفتُ أن أسأل أيّ شيء، وفي الأيام اللاحقة كنت أرى أمي تشيب بسرعة غريبة، يغيب البريق من عينيها، ووجهها الأبيض والورديّ يشحب سريعاً يوماً بعد يوم.

تلك الصورة وُضعت بعد سنوات على جدار غرفة الضيافة، وانتقلت طقوس أمي من محراب الخزانة إلى محراب آخر: القبر. على الرغم من أن أمّي كانت تحلم أحياناً بهاتف ما، يقول لها في الحلم إنه ليس أخي! وتحير لفترة بين أن تنتظر ثانية خبراً عنه أم أنها هي بالفعل عظام أخي التي دفنت تحت التراب؟ مصدقة الحلم وغير مصدقة، تعود أمي إلى زيارة قبره، وفي بعض الأحيان كنت أذهب معها إلى المقبرة، مصرّةً ورغم امتناعها.

أحزن معها وأبكي، ثم لدقائق أتناول طفولتي التي كانت تحبّ الحركة كثيراً، وأذهب بها إلى فوق تلّ على جانب المقبرة، أظن أنني تسلقت جبلاً. أشعر بسعادة صغيرة إلى أن تناديني أمّي، ونعود إلى البيت.

تاريخ محافظتي ومدينتي وتاريخ ولادتي قد اندمج بطريقة ما بتاريخ تلك الحرب الطويلة، من الغارات الليلية والنهارية والصواريخ والخراب والدموع والانتظار الذي تقاسمته العديد من العائلات لسنوات عديدة بعد ذلك. ومع ذلك، عندما جاءت الخاتمة، لم تأت أبداً لأمي. لأنه في بعض الأحيان لا توجد نهاية أبداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image