شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
مماليك فرنسا... قوة عربية قاتلت فداءً لنابوليون

مماليك فرنسا... قوة عربية قاتلت فداءً لنابوليون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 13 أكتوبر 202111:06 ص

في العام 1798م، اندلعت معركة الأهرامات التي غيّرت مصير الشرق الإسلامي. جيش المماليك المُسلّح بالدروع والسيوف (100 ألف مقاتل تقريبًا) يُقابل الجيش الفرنسي قليل العدد (20 ألف جندي)، حسن التنظيم، المُسلّح بالبارود، والذي يقوده واحد من أعظم العسكريين في التاريخ؛ نابوليون بونابرت.

امتلك المماليك الشجاعة والحماسة، وظنوا أن كثرة عددهم ستقودهم إلى نصرٍ تاريخي جديد يضيفونه إلى سجلهم المُشرّف المُزيّن بنصرين خالدين على المغول والصليبيين. مثّل هذا اللقاء الصفعة التي احتاجها أهل الشرق ليفيقوا من سباتهم الذي طال، وليعرفوا كم تفوّق عليهم الغرب حضاريًا وعلميًا في كل شيء.

لم تصمد دروع المماليك وأحصنتهم النبيلة وسيوفهم البتّارة أمام قصف المدافع وأمام زخّات الرصاصات الفرنسية. وكانت النتيجة انتصار ساحق للفرنسيين في وقتٍ وجيزة؛ مات 20 ألف مملوك مقابل 289 فرنسيًا! وانفتحت أمامه أبواب القاهرة على مصراعيها أمام نابوليون والذين معه.

انتصرنا، ولكن

في هذا الوقت، عاش في مصر قرابة 60-80ألف مملوكي، من ضمنهم 15-17 ألف فارس، شكّلوا واحدًا من أهم الجيوش التي عرفها الشرق. يقول إيان كولير أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا لـرصيف22: كان كافة المماليك من أماكن غير مسلمة في القوقاز والسودان.

بالرغم مما عُرف عنهم من براعة في القتال، إلا أنهم لم يكونوا ليُشكلوا أي خطرٍ على الجيش الفرنسي المنضبط تكتيكيًا والمُسلح بالبنادق والمدافع.

حقّق نابوليون الانتصار تلو الآخر عليهم إلا أنه أُعجب بشجاعتهم وتفانيهم في القتال، وتدريبهم المُتقن في القتال الحُر بالأيدي، حتى أنه حدّث نفسه قائلاً "بإمكاني أن أحقق إنجازات فوق الخيال باستخدام بعض هؤلاء المحاربين.

بعدما دانت الأمور لنابوليون على مصر كان يعلم أن المماليك يتحكمون في مفاصل الدولة العميقة، تحكّم لن يفك تعقيداته بجيوشه مهما انتصر من معارك.

وفي هذا الأمر كان يتعلّم من الخطأ الذي وقع في العثمانيون، الذين نجحوا في الاستحواذ على سُلطة حُكم مصر من المماليك بالفعل، إلا أنهم لم يستطيعوا التخلص من وجودهم أبدًا، ومن سيطرتهم على الأقاليم البعيدة عن القاهرة، لذا خطّط نابوليون لـ"فرنسة المماليك".

حقّق نابوليون الانتصار تلو الآخر على المماليك إلا أنه أُعجب بشجاعتهم وتفانيهم في القتال، وتدريبهم المُتقن في القتال الحُر بالأيدي، حتى أنه حدّث نفسه قائلاً "بإمكاني أن أحقق إنجازات فوق الخيال باستخدام بعض هؤلاء المحاربين"

يقول حسين كفافي في كتابه "محمد علي: رؤية لحادثة القلعة"، رتّب نابليون مع نائبه كليبر أن يُرسلا عددٍ من المماليك إلى فرنسا، تراوحت أعدادهم من 500 إلى 600 مملوك، لمدة عامين أو ثلاثة يُشاهدون فيها عظمة فرنسا ويعتادون تقاليد الفرنسيين واللغة الفرنسية، فيعودوا إلى مصر ليكونوا بمثابة نواة لقوة جديدة تعمل لحساب فرنسا في مصر.

لم يُكتب لهذه الخطة النجاح، فمقام الفرنسيين في مصر لم يطل بما يكفي لتنفيذ مثل هذه الآمال طويلة الأجل، إلا أن هذا لم يمنع نابوليون من الاستفادة من المماليك بشكلٍ أو بآخر، هذه المرة لصالح فرنسا وليس مصر، عبر استغلالهم في سلسلة حروبه الطويلة في أوروبا.

الإنكشارية السورية في خدمة فرنسا

يقول مظفر حسين في كتابه "تاريخ موجز للإسلام"، إنه في العام 1799م، أُلحق نابوليون إلى قوة الخيالة التابعة لكليبر نصف سرب من رجال الإنكشارية السورية، الذين كانوا ضمن حامية عكا، وانضمّوا إليه رغم فشل قواته في اقتحام عكا بعد شهرين من الحصار.

يقول البروفيسور فيليب دواير أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة نيوكاسل لـرصيف22: قاد نابوليون هذه القوة المملوكية شخصيًا، واستعان بهم لتنفيذ بعض المهام في مصر وسوريا، لكن الجنرال كليبر لعب دورًا كبيرًا في تأهيل هذه القوة وإبقائها متماسكة حتى آخر يوم لفرنسا في مصر.

تجاوز مجموعهم الـ300 رجلٍ وكانوا نواة لتلك القوة العربية التي ستخدم الجيش النابوليوني في معاركه الحربية على الأراضي الأوروبية، التي حملت اسم  مماليك الجمهورية.

يعترض كولير على هذه التسمية رغم شيوعها في كتب التاريخ الفرنسي والعربي، موضحًا: في هذا التوقيت لم تكن توجد جمهورية فرنسية لينتسب إليها هؤلاء المماليك، انتهت الجمهورية فعليًا عام 1799، واستبدلت بالإمبراطورية، ولن تعرف فرنسا قيام أي جمهورية أخرى حتى عام 1848م، وبدلاً من ذلك فإنه يقول إن هذه القوة المشرقية التابعة لنابوليون عُرفت بِاسم "مماليك الحرس الإمبراطوري Mamelouks de la Garde Impériale".

جمهورية فرنسية لينتسب إليها هؤلاء المماليك، انتهت الجمهورية فعليًا عام 1799، واستبدلت بالإمبراطورية، ولن تعرف فرنسا قيام أي جمهورية أخرى حتى عام 1848م، وبدلاً من ذلك فإنه يقول إن هذه القوة المشرقية التابعة لنابوليون عُرفت بِاسم "مماليك الحرس الإمبراطوري Mamelouks de la Garde Impériale".

على النهج العربي المعتاد في تشكيل أي قوة مملوكية، اشترى نابوليون ألفي رجلٍ مشرقي، قوي البنية، صالِح للقتال من تاجر سوري، شكّل بهم أول وحدة مملوكية تابعة للعرش الفرنسي.

يقول كولير: استمرّ نهج الفرنسيين في تجنيد المماليك حتى بعد رحيل نابوليون بونابرت عن مصر، وعُقدت اتفاقيات التعاون مع قادة المماليك، مثل مراد بك، ضد التحالف العثماني- البريطاني.

شجّع هذا الوضع الجديد على ظهور قوى شعبية حلمت بإنشاء دول مستقلة، وشمل ذلك أقباط مصر، والمسيحيين السوريين، الذين كانوا يأملون أيضًا في إنشاء "مصر مستقلة" عبر التعاون مع الفرنسيين.

حين قرّر الفرنسيون الجلاء عن مصر 1801م، اختار كل هؤلاء الأشخاص -عدد قليل من المماليك، وبعض الأقباط، والعديد من السوريين (وخاصة المسيحيين الفلسطينيين)-  مرافقة الفرنسيين إلى بلادهم، وكانوا يخططون للعمل داخل فرنسا من أجل الاستقلال، لكن توفي مراد بك، كما توفي القائد القبطي، الجنرال يعقوب حنا، أثناء الرحلة إلى مرسيليا.

عندما وصل المنفيون إلى مرسيليا (عدة مئات من الرجال والنساء والأطفال)، لم تكن أفكارهم حول الاستقلال موضع ترحيب في فرنسا، ومع ذلك، كان نابليون بونابرت مهتمًا بهم شخصيًا، وأَدرَج الرجال الذين كانوا في سن التجنيد في الجيش الفرنسي، وأصرّ على تسمية الكتيبة بـ"المماليك"، بالرغم من عدم وجود مماليك كثيرين فيها (كان معظمهم من السوريين واليونانيين والأقباط).

لم تُعامل هذه القوة كأسرى حرب، ولكن عمليات التشهير التي جرت بهم في أيامهم الأولى بفرنسا، لم تختلف كثيرًا عمّا كان يحدث مع الأسرى الذين كان الملك المنتصر يقودهم خلف موكبه عقب انتصاره على جيوشهم في المعركة.

أثار وجود المشرقيون بصحبة نابوليون ضجة ظافرة في فرنسا، فالإمبراطور لم يكتفِ بِانتصارٍ عابر على العرب وإنما جنّد أهلهم في خدمته.

سريعًا، ظهرت صعوبات التأقلم، بعدما أطلق مملوك النار على رجلٍ فرنسي سخر من ثيابه العربية، وخلال محاكمته قال إنه اعتاد فِعل ذلك في مصر!

رغم كل ذلك، استمرّت عمليات عسكرة المماليك وفقًا للقواعد الحربية البونابرتية على قدمٍ وساق؛ تشكّلت الكتيبة المشرقية من 150 رجلاً، تمركزوا في مرسيليا تحت قيادة الجنرال جان راب، وشكّلوا جزءًا رئيسيًا من قوات الحرس الجمهوري.

بموجب مرسوم إمبراطوري صدر في 25 ديسمبر 1803م كان جميع ضباط هذه السرية فرنسيين، أما الجنود فكانوا يونانيين ومصريين وأتراك وجورجيين.

حرصت هذه القوة على ارتداء زيٍّ عربيٍّ، عبْر التمسّك بِارتداء عمامة حمراء أو خضراء تحمل شارات الهلال الإسلامي، مع ارتداء سراويل قرمزية واسعة. أما عن تسليحهم، فامتلك كل مملوك مسدسين، وسيفًا ذا نصلٍ مقوّس، وخنجر، وفأس قتال.

حملت القوة المشرقية على أكتافها حُلم نابوليون المجنون في توحيد أوروبا تحت رايته، فخاضت معه عشرات المعارك الأوروبية، في موسكو وإيطاليا والبندقية وإسبانيا، كما قاتلوا في معركة أوسترليتز (1805م)، خلال الحملة على روسيا، وأبلوا بلاءً حسنًا فمحنوا النياشيين، وجرى ترفيع العرب لأول مرة إلى منصب الضابط، كما تقرّر زيادة عدد القوة.

استمرّ نهج الفرنسيين في تجنيد المماليك حتى بعد رحيل نابوليون بونابرت عن مصر، وعُقدت اتفاقيات التعاون مع قادة المماليك، مثل مراد بك، ضد التحالف العثماني- البريطاني

كذلك أدّت "مماليك الجمهورية" دورًا كبيرًا في قمع التمرد الذي دبّره الإسبان في مدريد ضد الاحتلال الفرنسي لبلادهم عام 1808م، بعدما ارتكبوا المذبحة تلو الأخرى بحقِّ الثائرين.

تم تسجيل هذه المشاركة في لوحة شهيرة رسمها الفنّان الإسباني فرانسيسكو غويا، وهو ما زاد من نقمة الإسبان على بونابرت لأنه استعان بجنود مسلمين في قمع ثورتهم.

نهاية نابوليون ومماليكه

شكّل تنازل نابوليون عن العرش ضربة قاصمة لتلك القوة التي تشكّلت على شرفه، 7 منهم اختاروا الرحيل معه إلى المنفى، تاركين العرش الباريسي لآل بوربون مُجددًا.

 بينما اختار الباقون البقاء في مارسيليا ضمن قوة الحرس الجمهوري الفرنسي، على أمل العودة إلى مصر مُجددًا، وهو مالم يتحقق.

فعقب رحيل نابوليون اندلعت أعمال انتقامية ضد إرث حُكمه في شتّى أنحاء فرنسا، أبرز هذا الإرث ما تبقّى من القوة المملوكية، وتحديدًا 18 رجلاً قبضوا عليهم وذبحوهم في شوارع مارسيليا.

أشهر المماليك النابوليونية

بحسب كولير، تم تعيين عددٍ من المماليك كمرافقين شخصيين لزوجته "جوزفين" وأعضاء آخرين من رموز نظام حكم (سلطة) نابليون.

في إطار محاولتنا تحقيق أسماءٍ لشخصيات شرقية بعينها شاركت في هذه القوة، حدّثتنا مرويات تاريخية فرنسية عن بعض شخصيات لم تمنحنا المصادر العربية أي معلومات عنها، مثل: الملازم عبدالله دسبون، المولود عام 1776م في بيت لحم، وجنّده نابوليون للعمل معه كمترجم، وعاد معه إلى مصر، وحصل على وسام بعد أدائه الباسل في معركة أوسترليتز، كما نال ترقية إلى رتبة ملازم أول.

حملت القوة المشرقية على أكتافها حُلم نابوليون المجنون في توحيد أوروبا تحت رايته، فخاضت معه عشرات المعارك الأوروبية، في موسكو وإيطاليا والبندقية وإسبانيا

ومثل المملوك القوقازي شاهيم الذي أبلى بلاءً حسنًا في أوسترليتز حتى أصيب برصاصات في صدره، لكنه نجَى وعُولج، وشارك بعدها في معارك قمع المتمردين في مدريد، وترقى حتى أصبح نقيبًا عام 1813م، وشارك أيضًا في معركة واترلو.

أما أشهر عناصر تلك القوة المملوكية النابوليونية –وفقًا لما اجتمع عليه التاريخ العربي والأوروبي-  كان المصري رستم رضا، الذي وثق فيه نابوليون لدرجة أنه عيّنه حارسًا شخصيًا.

رستم رضا، هو مملوك جورجي الأصل اشتراه أحد حكام مصر المماليك، وألحقه بحاشيته، وعقب وفاته دخل رستم في الشيخ خليل البكري، والذي جمعته علاقة جيدة بالجنرال بونابرت، حتى أنه عيّنه نقيبًا للأشراف بدلاً من عُمر مكرم.

قبل رحيل نابوليون من فرنسا، طلب منه رستم الالتحاق بخدمته، وافق نابوليون. وهو الجميل الذي لم ينسَه له رستم أبدًا، فأخلص له طيلة 15 عامًا، حتى أصبح حارسه الشخصي، المسؤول الأول عن إعداد ثيابه وغذائه، وكان ينام في الغرفة المجاورة له، ويصاحب نابوليون في مواكبه الرسمية، وفي حفل تتويجه إمبراطورًا على فرنسا. 

وكان يُعتبر حضوره حفلات نابوليون، وتفانيه في خدمته، دليلاً على نجاح الحملة العسكرية التي قادها بونابرت على الشرق وخضوع أهله له.

عقب خلع نابوليون، فضّل رستم عدم الرحيل معه وعاش حياته ما بين فرنسا وإنجلترا، وألّف كتابًا عن حياته كخادم لنابوليون، وتُوفي عام 1845م في مدينة دوردان الفرنسية، ولا يزال قبره معروفًا حتى اليوم.

الثاني، هو موسى الكوسا، جندي قبطي من أصل سوري، قتلت الحامية الفرنسية والده خلال حصار عكا، وضمته إلى صفوفها وهو بعد في الـ8 من عُمره.

رحل إلى فرنسا ضمن قوة المماليك النابوليونية، وشارك معها في سلسلة معارك نابوليون في أوروبا من موسكو إلى ألمانيا، انتهاءً بمعركة واترلو التي هُزم فيها الجيش الفرنسي.

فُصِل من الخدمة العسكرية ضمن موجة التنكيل بالإرث البونابرتي في أنحاء فرنسا، والتي عُرفت بـ"الإرهاب الأبيض". عمّر طويلاً حتى مات في 1873م فعُرف بلقب "آخر المماليك".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image