شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
في ذكرى ميلاده، لماذا لا يطربني صوت محمد فوزي؟

في ذكرى ميلاده، لماذا لا يطربني صوت محمد فوزي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 17 أغسطس 202112:08 م
مُنح وجهاً ريفياً ينتمي إلى ملامح دلتا النيل المصري. ليس وسيما كالهوليووديين، لكنه سيمتلك قبولاً، وحضوراً دائميْن، إذا ما تعرض لبعض التعديلات على شكله وفطرته، وهذا بالضبط ما جرى للمطرب والملحن المصري محمد فوزي. مصادفةً، وبناء على شرط المخرج محمد كريم، الذي التقطه كوجه جديد، ليقوم بدور البطولة في فيلم "أصحاب السعادة"، طُلب من فوزي أن يُجري جراحة تجميلية لشفته العليا المُفلطحة قليلاً. فخضع للطلب الغريب، وبدلاً من وجه ذي شفتين مُدلدلتين، اكتسب فوزي وجهاً جديداً يمكن أن نصفه بـ"ريفي أصاب المدنية في مقتل".

نحن أمام شخص مصنوع صناعة مبتكرة شكلاً، ومصنوع صناعة هادئة كمضمون موسيقي، وطربي. حلم أن يمثل فيه مرحلة من مراحل التجديد، على الرغم من أنه كان، حسب منتجه الفني، شديد التأرجح بين ماضي المَوالد التي ربّته، وبين فن السينما الحداثي الذي أنضجه، وحافظ على تراثه. بمعنى أن فوزي، الذي تمر ذكرى ميلاده الثالث بعد المئة، قرر أن يكون "أندرغراوند الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين"، ولكن بطريقة سينمائية رائجة.

هل تميل فطرة محمد فوزي إلى التجديد؟

حين قدّم بليغ حمدي لحن "على حسب وداد قلبي"، وهو يلعب في موسيقى الفولكلور، بإعادة تلحينه مرة أخرى، ليغنيه المطرب العاطفي الأول في النصف الثاني من القرن العشرين، عبد الحليم حافظ، استهجن فوزي، وهو على فراش مرضه الأخير، ما فعله تلميذه بليغ في اللحن، فأسماه "تشويهاً للتراث"، مُفنّداً رأيه بأنه "لا يجب اللعب في الموتيفة الأصلية للحن، بل عليك كملحن أن تقدم تجديداً في إطار الخلفيات الموسيقية التي ستضعها لتغلفه بها تغليفاً مبتكراً"، وذلك لإعادة إنتاجه، وبيعه.

لا يمكنني إلا أن أرى فيه مطرب مواويل متكرر القفلات، محدود المساحة، فقير الطيف الصوتي. كان هذا كذلك رأي مسؤول لجنة الاستماع في الإذاعة المصرية، إذ أصدر قراراً بفشل فوزي مطرباً، ونجاحه ملحناً

أظنها نظرة مُسوّق لا نظرة موسيقي. فهو يملك "براند" قديماً، عفا عليه الزمن. لكنه لا يزال صالحاً للاستغلال بتجديد غلافه، إذ يمكن طرحه مرة أخرى لتربح منه أكثر بأقل تعب ممكن. وليس هذا معناه أن فوزي سمسار موسيقى، إنما هو بارع في استغلالها كملحن ذكي، أكثر من كونه مطرباً. ربما لا يمكنني إلا أن أرى فيه مطرب مواويل متكرر القفلات، محدود المساحة، فقير الطيف الصوتي. كان هذا كذلك رأي مسؤول لجنة الاستماع في الإذاعة المصرية، إذ أصدر قراراً بفشل فوزي مطرباً، ونجاحه ملحناً.

نعود إلى سؤال "لماذا لا يطربني فوزي؟". هناك مطرب مصنوع، ومطرب موهوب. وكلاهما بالتأكيد يحتاج إلى تدريب ودعاية. لا نتحدث عن فن التسويق والدعاية طبعاً، بل عن محمد فوزي كمسوق ممتاز لمنتج فني له شقان. شق يعتمد على صوته كمطرب، وآخر يعتمد على صوت آلاته التي يرسم لها ألحاناً، بعضها شديد الكلاسيكية، وبعضها الآخر شديد التقدمية والحداثة. لا يهتم كثيراً بالصوت، إلا من خلال التقطيع والإيقاع؛ تقطيع الجمل التي ستجذب الجمهور. يهتم بالارتجال، وفنونه، في أضيق الحدود. وحبذا لو كان الارتجال معداً سلفاً، وليس مرتجلاً، بالمعنى الفوضوي، كموسيقى الغجر. نحن أمام رجل أجاد اختيار الفن الذي يحميه، ويصونه، ويناسب العصر الذي عاشه، وسيعيش من بعده؛ وهو فن السينما. لولا السينما، وبهرجتها، وأساليبها الدعائية في الإبهار، ما أخذ فوزي نصف ما أخذ.

التسويق الجيد والحظ الحلو

يقول الناقد الموسيقي محمد عطية إن "فوزي ظهر في الحياة الفنية المصرية، في أوائل الأربعينيات من القرن العشرين، في الوقت الذي كانت بعض الأشكال الموسيقية الكلاسيكية تختفي من الغناء العربي، كالموشح، والدور، وذلك بعد آخر أدوار الشيخ زكريا أحمد "عادت ليالي الهنا" لأم كلثوم، عام 1939، وكان قد خرج من قالب الطقطوقة الغناء الحديث كله تقريباً، إذ صار التركيز على لحن المذهب الرئيسي، وتكراره بعد كل غُصن، أو كوبليه، وهو الشكل الذي ساد على الأغاني حتى أيامنا. في هذه الفترة، كان الموسيقار الملهَم محمد القصبجي يختفي من مضمار التلحين، مكتفياً بدوره كعازف خلف أم كلثوم، بعد موجات من تمرد فني. لم تتقبله الجماهير بعد فشل ألحانه في فيلم "عايدة"، ثم رحيل قيثارته الجديدة أسمهان بصورة مفاجئة. ذلك الصوت الذي كان يشبه القصبجي في تمرده وعنفوانه، ويبدو أن القدر كان يمهد عمداً لظهورٍ، ونجاح شبيه بالمتمردين، وهو محمد فوزي. قد يكون "فوزي" أقرب انتماءً إلى القصبجي، من حيث سهولة الدمج بين الغربي والشرقي، مع فارق الوعي والتجريب بينهما طبعاً. زيادة على أنهما لم يكونا من المتمسكين بالأداء الطربي، بل بالبناء الموسيقي المتماسك، والجملة اللحنية الرشيقة. وهنا نتذكر تعليق فوزي على تحفة "القصبجي"، "قلبي دليلي"، المنتجة عام 1947، إذ وصفها بأنها "لحن قادم من سنة 2000".

كان فوزي يفكر دائماً في الإجابة عن سؤال "أين ومتى ستعيش ألحانه؟". لذا، لم يحاول إرضاء زمنه كملحن يهتم به نقاد عصره، بل كان مهتماً بتسويق نفسه لجمهور سيأتي

كان فوزي يفكر دائماً في الإجابة عن سؤال "أين ومتى ستعيش ألحانه؟". لذا، لم يحاول إرضاء زمنه كملحن يهتم به نقاد عصره، بل كان مهتماً بتسويق نفسه لجمهور سيأتي. صحيح أنه لا يملك المدى الزمني الذي سيعيشه "القصبجي" ملحناً. لكنه على الأقل يحمل ملامح من هذه الفكرة السابقة للزمن. لم يورط مطربُنا صوته في فعل غنائي ثقيل، على الرغم من أنه لو كان مستهدِفاً ذلك، لنجح فيه، لكنه آثر الإيقاع، فبدا مطرباً خفيفاً. و"خفيف" هنا، لا تدل على استحسان غنائه، بل على ضعف تأثيره، وانخفاض خصوبته.

لنستمع إلى لحنه "قلبي اللي انت ناسيه"، الذي اكتفى فيه بجملة المفتتح الإيقاعية، والتي أفنى فيها مفاجأة أغنيته، من دون أن يبني عليها "الميلودي"، بل عدّ الجملة الإيقاعية هدفاً في حد ذاتها، وهذا لا علاقة له بفكر مؤلف موسيقي.

أين التجديد الأهم لدى محمد فوزي؟

ثمة هرولة دائمة عند فوزي وراء تقطيع الكلمات، ولو عن طريق ليّ ذراعها، لخلق إيقاع ينشده لأغنياته، والتي أراها لا تغني، ولا تسمن من جوع، كميزة للملحن، إن لم تكن في إطار خلق معنى لحني، وإلا كانت جملة السيمفونية التاسعة الرئيسية لبيتهوفن هي موضوعه في التعبير عن طرقات القدر، لكنها في الحقيقة، أقصد جملة بيتهوفن، كانت مجرد عتبة، أو حجر صغير سيتم البناء الموسيقي عليه. ولنكن منصفين، فإن فوزي يُعد من المجددين، أو على وجه الدقة، من المهتمين بتطوير القوالب المُهمَلة. وسنأخذ هنا قالب غناء الكورال، أو ما يسمى بـ"الأكابيلا"، المعتمد على الأصوات البشرية، لا أصوات الآلات. وبالطبع يمكن استنتاج اللحن المقصود بهذا التجديد، وهو "كلمني طمني". الأكابيلا يختلف عن القوالب العربية الآلية، أو الغنائية، ويستخدم اللفظ في الموسيقى الكنائسية كأسلوب غنائي، وهي الأداء الغنائي البوليفوني، الذي لا يعتمد على مصاحبة آلية أو إيقاعية، بل يعتمد على أصوات البشر فحسب.

أسلوب "فوزي" هنا تميز بالتحاور اللحني بين أصوات الرجال، وأصـوات النساء، في صورة مقدمة للغناء، مع ظهور الالتقاء بين صوتي الجنسين كنهاية للحوار. فيما لم يعتمد في تلحينه للأكابيلا على ضرورة استمرار ظهور التقسيم الطبيعي للأصوات البشرية، وإنما غلب عليه الجانب اللحني. كما تعمّد إظهار حوار واضح بين مطرب الأغنية، وصوت الكورال الرجالي، أكثر من الحوار بين صوت المطرب، وصوت الكورال النسائي، الذي لم يظهر تقريباً إلا في جملة واحدة. وربما يشير هذا إلى أن فوزي كان مدركاً لطبيعة صوته التي لا يمكنها، ولا تريد أن تتلون، لتصبح أقرب إلى الطبقات النسائية، الأعلى من الرجالية بطبيعتها، فهو لا يريد أن يُرهق بطبقات لا يحتاج إليها، حسب ظنه.

عبد الحليم، وعلى الرغم من ضعف صوته، وقلة مساحات التغطية في حنجرته، يبقى صاحب أداء جمالي دافئ، يمتاز بخصوصيته، وعدم تشابهه مع غيره، وهو الشيء الذي بخل فيه فوزي على نفسه، وعلى جمهوره

استخدم أيضاً الحركات العكسية بين أصوات الرجال والنساء، مع ظهور تداخل في الأجناس في أثناء الحركة العكسية، واستخدم الإيقاع المنغم بين أصوات الرجال والنساء، في شكل مناصفة غنائية حوارية على بُعد "أوكتاف".

"كلمني طمني" ليس لها شكل قالب التأليف الغنائي للأكابيلا المتعارف، إذ قدم "فوزي" صورة غير متوقعة للأكابيلا، تميزت بعدم الالتزام بتوزيع الأصوات البشرية الأربعة، لكي يستفيد من الارتجال المخطط للصوت البشري. كذلك بدت صنعته المتقنة في تبادل أصوات الكورس، لخلق جو لحني يُغْني عن استخدام الآلات بالفعل.

نعود إلى صوت فوزي، ونسأل: لماذا لم يستمر توهجه بعد ظهور عبد الحليم حافظ مثلاً؟ حاول فوزي أن يظل محتفظاً بحياده في تفسير حالة الهيام الشعبي بعبد الحليم منذ عام 1954، وقال إن "إحساس عبد الحليم فيه السر كله، والدليل أنه لا يمكن مقارنته كمطرب بعبد الوهاب، وعلى الرغم من ذلك تفوق عليه بالأرقام". لم يمتلك فوزي ما امتلكه عبد الوهاب، لا موسيقياً، ولا طربياً طبعاً. لذا مال إلى الأغنية التي يسمونها "خفيفة"، والتي تقترب مما يقدمه الملحن منير مراد لعبد الحليم. ولهذا كان حليم يكتفي بمذاق واحد، وربما يكون عدم تنوع فوزي اللحني جعله يقتنع بأن الجميع يجب أن يؤدي أداء غنائه هو، وتالياً لم يُقبل حليم، مطرب المرحلة الطامح إلى إثراء تجربته، على ألحان فوزي، المتورط في ذاته.

صوت فوزي لا يعلو كثيراً على قدرات صوت ضعيف، مثل صوت عبد الحليم حافظ، حسب رئيس قسم علوم الموسيقى في المعهد العالي للموسيقى العربية الدكتور سيد شحاتة، مؤكداً لرصيف22 أن عبد الحليم، وعلى الرغم من ضعف صوته، وقلة مساحات التغطية في حنجرته، يبقى صاحب أداء جمالي دافئ، يمتاز بخصوصيته، وعدم تشابهه مع غيره، وهو الشيء الذي بخل فيه فوزي على نفسه، وعلى جمهوره.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard