شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
سنى لوباني التي أعادت والدها إلى المنزل

سنى لوباني التي أعادت والدها إلى المنزل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 11 أغسطس 202112:12 م
بعد أن انتهت الحرب في مخيم نهر البارد، شمال لبنان، عام 2007، عادت الناس إلى منازلها المدمرة. نحن، وعائلة صديقتي سنى لوباني، عدنا إلى منازلنا المدمرة كي نعيد بناءها من جديد. لم أكن أعرف سنى في ذاك الزمن الذي مر سريعاً على كومة من حنين على شاطئ البحر. إنه زمن الحرب.

وفي عام 2012، استشهد والدها فؤاد لوباني برصاصات اخترقت جسده، في معركة أخرى وقعت في المخيم. وكانت سنى في ربيع عمرها السابع، بنتاً تحلم بالقمر، وتمسك الفجر بين يديها، حتى فقدت والدها. وكانت أمها في تلك اللحظة الدامية تمسك بيديها، وتركض في شوارع المخيم باكية من هستيريا القتل الجنوني والدموي، وهي لا تعرف، هل والدها فؤاد حي أم ميت، وسط تشتت العائلة بين شهيد وجريح. لم تكن تعرف البنت جيداً ما أسباب هذا القتل المتكدس على أكتاف العائلة؟ حتى كبرت البنت، كبرت وتعلمت الكتابة والقراءة في مدارس الأونروا، وعبرت من صف إلى صف بتفوق جميل، وفي داخلها فقد كبير، وفراغ فاجع من هول ما حدث. بقيت أسيرة البيت وأمها، تتعلم الكتابة على ضوء شمعة حتى بلغت، فلمست بيديها حلمها الكبير؛ كتابها الأول "مرقده فؤادي". روت فيه ما حدث معها أثناء استشهاد والدها. روت المشاهد كلها التي رأتها، بتفاصيلها النازفة. وهي تعد تحقيق حلمها بإصدار كتابها، إحياءً لوالدها، إبداعياً، وربما نفسياً، لتعويض ما فقدته في داخلها.

استشهد والدها فؤاد لوباني برصاصات اخترقت جسده، في معركة أخرى وقعت في المخيم. وكانت سنى في ربيع عمرها السابع، بنتاً تحلم بالقمر، وتمسك الفجر بين يديها

قبل أن تكتب سنى الكتاب، كنا نخطط سوياً لتنفيذ فكرة الشاعرة الأستاذة ميراي شحادة (وهي ابنة الشاعر عبد الله شحادة/ شاعر الكورة الخضراء في شمال لبنان)، في أن نطلق في عدد من مجلتنا، مجلة رؤية الثقافية، ملفاً خاصاً عن حياة الشاعر، وقمنا بتوزيع كتبه على كتاب المركز في المخيم، كي يقرؤوا عنه، ويتمكنوا من الكتابة عنه في الملف. أخذت سنى الكتب مني كي تقوم هي أيضاً بالكتابة عنه، وقرأتها وعادت. سألتها: هل قرأت كتب الشاعر عبد الله شحادة يا سنى؟ قالت: نعم، قرأت كيف أحيت ميراي شحادة والدها، تأثرت كثيراً وبكيت. قلت: لماذا؟ لأنني أعيش ما تعيشه ميراي، إلا أنني غير قادرة على فعل ما فعلته هذه العظيمة، قلت لها: لا يا سنى تستطيعين أن تفعلي الكثير، قالت: كيف؟ قلت لها: لماذا لا نحيي والدك معاً يا سنى؟ أتعرفين؟ مَن خلفَ هذا السنى لا يموت. صمتت، ولم تتكلم. هيا انطلقي من اليوم. ثم أحيا شيء ما صمتها، وتكلمت، وراحت تبحث، وتكتب، وتكتب، وتبحث حول كيف مات أبوها؟ ولماذا هو لا غيره؟ حتى عثرت سنى على الأجوبة جميعها للأسئلة كافة، ووصلت إلى الفصول كلها، بمساعدة أمها العظيمة، التي كانت تشجعها وتقدم لها التفاصيل حول استشهاد أبيها، والمكان، والوقت، والتاريخ، ومن مات قبله، ومن كان معه، هذه البنت اكتشفت الكثير من المعلومات التي لم تكن تعرفها من قبل، واكتشفت أنه كان لديها والد بكامل الأبوة والحنان، لاسيما حين سألته في كتابها: كيف يَسعك القبر، وأنت بحجم وطن كامل؟ هذه البنت اكتشفت العالم حين عثرت على المعلومات التي تؤدي إلى إصدار كتاب حول ما حدث مع أبيها، وقالت لي: سيحيا أبي عما قريب. قلت لها: كيف؟ على ماذا عثرت مجدداً؟ قالت عثرت على حكايتي وأخيراً، حكايتي التي كانت مدفونة مع أبي، حكايتي يا باسل يجب أن تعود إلي، كي يعود أبي مع حكايتي. افترشت الأوراق، وبدأنا معاً بجمع الفصول، ووضع عناوين لها، ومقولات للشعراء عن الأب والموت، وتصحيح الأخطاء، وتحرير الجمل، وتنسيق الكتاب، كي يكون جاهزاً للإرسال إلى دار النشر.

عانقت سنى كتابها، كأنها تعانق والدها، وتخيلته وقد عاد إلى المنزل. عاد والدها إلى منزلها أخيراً، لأن حكايته عادت من جديد إلى الورق 

وكانت المفاجأة الكبرى: صدر كتاب "مرقده فؤادي"، ولم تعلم سنى بأنه صدر. أخذتُ الغلاف من دار النشر عبر "الواتس أب"، وقمت بتحضير الأمر لكي أرسل لها رسالة بأن الكتاب صدر، والغلاف معي. المفاجأة الكبرى أن سنى ما زالت تنتظر، وهي تستبعد صدوره في هذه الأيام الصعبة التي يمر بها لبنان. اتصلت بها: ألو، سنى. وقبل أي كلام آخر، صاحت: باسل كتابي كتابي! صوتها الأنثوي يكاد يذوب من سماعة الهاتف، كقطعة ثلج على أطراف الجمر. صوتها الناعم يداعب الجرح، جرح الفقد، وجرح البحث عن أي انتصار قادم. خبأت الغلاف يوماً واحداً، ولم أنشره. خبأته كي أصنع انفجار المفاجأة. في اليوم التالي، قمت بنشر رسالة على مجموعة مركز زاوية رؤية الثقافية، معلناً عن صدور الكتاب مع صورة الغلاف. وإذ بسنى تنهار من الفرح الممزوج بالبحة. بحتها غير العادية. بحتها التي تعبر عن فرح خفي. وفي الأيام التي تلت ذلك، أخذتُ نسخ الكتاب كاملة من دار النشر في بيروت، عن طريق الأستاذة ميراي شحادة، ثم، أحضرته إلى المخيم سراً، من دون إخبار أحد، حتى سنى لا تعرف إن كان كتابها قد وصل. اتصلت بصديق لي، وقلت له: انتظرني عند مدخل بيت سنى، وأحضرت كرتونة النسخ كاملة في السيارة، حتى وصلت إلى حارتها، وأنزلنا النسخ أمام دكان عمتها، ولم يعرف أحد من عائلتها ماذا يحدث. أحضرت عمتها كيساً أخضر اللون، وقالت ضع الكتب هنا، وقلنا لها: "يا حاجة خذي طريق، أخبري أم سنى بأن تترك سنى نائمة، وبألا توقظها من نومها". وافقت وذهبت. ثم قمت بنفسي برفع كرتونة النسخ على كتفي، وصعدت حين أعطتني الإشارة بأن الخطة قد نجحت. علمت أم سنى بأننا نحضر للمفاجأة، ولم توقظها، وصعدت السلالم الثلاث حيث الطابق الثالث، حسب ما كنت أتكلم أنا وسنى بأن الدرجات تتطلب ثلاث دقائق لكي أصل إلى منزلها. وصلت البيت، ودخلت، ووضعت كرتونة النسخ إلى جانب كنبة، ونسيت أن أخفيهم داخل الصالون، وجلست. استيقظت سنى، ونظرت شمالاً ويميناً، باسل؟ قلت: نعم. أنت في بيتنا مع أمي؟ قلت: نعم. يا الله نسخ كتابي، هنا كتابي، عانقت سنى كتابها، كأنها تعانق والدها، وتخيلته وقد عاد إلى المنزل. عاد والدها إلى منزلها أخيراً، لأن حكايته عادت من جديد إلى الورق. شكرتني العائلة كثيراً. تجمدت سنى أمامي. شعرت بأن انسانيتي تحيا. شكراً باسل، قالت. بل الشكر لكِ، قلت. ثم خرجت. لا أريد شيئاً من هذا العالم سوى أنني أوصلت ابنةً إلى أبيها بعد غياب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image