شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
ما تقوله الأساطير والشائعات عن العائدين من تلال الموتى

ما تقوله الأساطير والشائعات عن العائدين من تلال الموتى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 8 أغسطس 202105:10 م

تقول الأسطورة: كان هناك في السهول العظيمة وراء ضفة النيل الغربية خيالة، في المكان الذي يُسمى الآن بـ "سنار" وسابقاً بـ"مملكة الفونج". وهؤلاء الخيّالة العنج كانوا ضخام الجسد أطلق عليهم السكان النيليون وصف "العماليق"، وبينما يجول الخيالة الغرباء الملثمون الأرجاءَ ويعبثون بالبشر وقلوب الفتيات، كانوا يكتبون الشّعر، ويتجالسون في الفضاءات الكبيرة خارج أودية الجبال الغربية ويتسامرون في جلسات طويلة، ويحتسون الشاي الأحمر والمشاريب الروحية البيضاء، ويغنون على آلات وترية غريبة الشكل لا تعود إلى ثقافة أو منطقة معينة.

وتقول الأسطورة: عندما سقطت الدولة الإسلامية في مملكة سنّار (مملكة الفونج) لم يمت شخصٌ واحد، ولم يخرج أحد لمواجهة الخصوم أبناء الحاكم المصري محمد علي الألباني، ما عدا الملك السناري بادي السابع، والذي قرر أن يسلِّم مفاتيح المملكة دون عناء وأن يسلّمهم كلَّ شيء في مقابل الملاذ الآمن له ولأسرته وممتلكاته، وللعبيد والرعايا والأتباع. وقد منَّ عليه إبراهيم باشا بذلك وسمح له بالخروج، إلّا أن الأوصياء الهمج في أقصى جبال الملك مويا كان لهم رأيٌ آخر، فقد قرروا أن يعيدوا ترتيب أنفسهم بوصفهم مجلسَ شيوخ هذه المملكة، وأن يجعلوا من جيش المملكة العرمرم رمحاً بنصلٍ حادّ ينغرس في قلب الغزاة. ولكن الخيّالة العماليق قرروا أن يحتموا بوادي الجبال السبعة مصطحبين معهم أسرهم وممتلكاتهم ورعاياهم والأتباع، بما في ذلك المشغولات الذهبية والنقود التركية والمقتنيات الثمينة.

يقول الخيالة: نحن العائدين من تلال الموتى، وأعالي جبال الأماتونج، نُشهد البحرَ والنجم البعيد، أننا نخوض النيل خوضاً، ونصيد الأسود والأفيال على أنغام أصابعنا الدافئة

تقول الشائعات: عندما وصل جيش إبراهيم بن محمد علي الألباني حاكم مصر إلى قرى الجبال السبعة، ضرب حصاراً كاملاً عليهم لثلاثة أيام، ثم أوفد رسوله إليهم، وأخبرهم بمطلبه: نريد كلَّ رسم أو خط أو رموز، على الفخار أو الجلد أو الورق! ثم سارع الجميع بعرض تاريخ أجدادهم وكل ما يحمل خطاً أو رسماً. وقد ظنوا بذلك أنهم قد حافظوا على صغارهم وأموالهم.

تقول لنا الكتب التاريخية: عندما سقطت الدولة والحضارة الإسلامية في الأندلس عام 1492م قامت تباعاً لها الدولة الإسلامية في السودان وفقاً لتحالف العرب والأفارقة في العام 1504م. وقد صمدت الدولة السنارية أو مملكة الفونج لمدة 360 سنة، خلالها قامت بنشر الدين وكسوة الكعبة وصدّ العدوان من المنطقة، وقد حارب من أجلها رجال شجعان ولم تسقط قط حتى هزيمة الملك بادي السابع على يد جيش الحاكم العلوي محمد علي باشا، وكان ذلك بفضل الأسلحة النارية.

يقول الخيالة: نحن العائدين من تلال الموتى، وأعالي جبال الأماتونج، نُشهد البحرَ والنجم البعيد، أننا نخوض النيل خوضاً، ونصيد الأسود والأفيال على أنغام أصابعنا الدافئة، ولأجل الموت عاشت مملكة فونج.

تقول الحكايات: لم يكن للخيالة أو الهمباتة في الذاكرة الشعبية دور غير تلك الفكرة الروبنهودية المتعلقة بالنّهب من القوي لأجل الضعيف، وقد انتشر هؤلاء القوم المتخيلون من أعالي وديان كردفان بوسط وغرب السودان حتى سهول البطانة بوسط وشرق السودان، ضاربين بأحاديث سلافوي جيجك المستقبلية عرض الحائط في مفاهيمه حول معاداة السامية وأدب المقاومة؛ إذ أنهم كانوا يسلكون خطاً ثورياً معيناً زادهم فيه الشّعر وطقوس البرامكة والعادات العروبية الوافدة إلى الثقافة الغابية الخضراء.

برغم مرور 200 عام على سقوط مملكة الفونج وانقراض خيالتها جوعاً بسبب حصار جيش محمد علي، إلّا أن فكرة الخيالة لم تنقرض وظهرت على شكل تيارات شعرية ما بعد حداثوية تحت اسم "الشاعر الجوّال"

في بداية الستينيات من القرن الماضي ظهرت حركة شعرية (الغابة والصحراء) وقف عليها ستة شعراء أشهرهم محمد عبدالحي والنور عثمان أبكر، وقد رأت الحركة الشعرية أن مسألة صراع الهوية في المنطقة يجب أن يعالج أدبياً، بمفهوم أن التمازج بين الغابة والصحراء يؤدي إلى فهم سيكلوجية الإنسان السوداني، ولا تختلف الحركات الشعرية في الستينيات وحتى الآن عن فكرة الخيالة وصدّ العدوان والانتصار للضعيف والمظلوم.

وبرغم مرور 200 عام على سقوط مملكة الفونج - مملكة سنّار أو السلطنة الزرقاء- وانقراض خيالتها جوعاً بسبب حصار جيش محمد علي، إلّا أن فكرة الخيالة لم تنقرض وظهرت على شكل تيارات شعرية ما بعد حداثوية تحت اسم "الشاعر الجوّال" الذي يتجول في داخله جميع الخيّالة الذين مضوا كما يمضي نيزك الشتاء القارس.

وكانت الغابة والصحراءْ

امرأةً عاريةً تنامْ

على سرير البرقِ في انتظارِ

ثورها الإلهي الذي يزور في الظلامْ

وكان أفق الوجه والقناع شكلاً واحداً

يزهر في سلطنة البراءة

وحمأ البداءةْ

على حدودِ النورِ والظلمةِ بين الصحوِ والمنامْ.

(من قصيدة "العودة إلى سنار"؛ نشيد البحر؛ للشاعر محمد عبد الحي.)

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard