شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
نادي السيدات الغائبات في تل نصري

نادي السيدات الغائبات في تل نصري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 5 أغسطس 202112:03 م

انتهى داعش أخيراً. انتهى العالم المليء بعنفٍ جعل شرائط الأخبار العاجلة حيزاً تتطاير منه أرواح الضحايا، وذاكرةً قاتمة تشوّه صفحات التاريخ. في ظهيرة عام 2015، بعد التحرير، دخلتُ بيتنا، وكأني سقطت في هاوية من نار. خيطان متشابكة في البستان، بين الكروم وأشجار التفاح والزيتون، مثبتة بألغام تشبه شبكة عنكبوت تلفّ المكان كله. الثقوبُ في الجدران تكشف عن أنواع الأسلحة المستخدمة. جرذانٌ تراكضت هنا وهناك، لتختبئ فور دخولي الدهليز. لا شعورياً، صرت أبحث بناظري عن بيتنا، في بيتنا. عن مجلس طالباتي المهشم، في الردهة بين الكنب المهشم. بحثت عن ذاتي في أماكن جلوسي هنا وهناك، حين ظهر فجأة في خيالي زخم من الذكريات ظهرت دفعة واحدة. اتصلت بوحدات الحماية الشعبية الكردية لإزالة الألغام بعد ثلاثة أشهر من هزيمة تنظيم داعش على يد قوات سوريا الديمقراطية. باتت غرفة النوم، وأجهزتي الكهربائية، هياكل متفحمة، بالكاد ميّزتها.

كنت أُصدم بهروب أعدادٍ من بنات آوى، كلما وجهت عيني إلى الأزقة المتفرقة من القرية. توجهت إلى فناء الكنيسة المجاورة لبيتنا؛ أضحت تلة من الأحجار، يتقدمها قوس إسمنتي مهشم الأطراف، كان باب مدخلها. كنت كمن يبحث عن شيء مفجعٍ أعظم. تعثرت بكومة قماش متربة، معظمها مدفون بشكل عشوائي في الحديقة. سحبتها بقوة، وإذ ببقايا عظام، وحصى، تتطاير من الجوانب كلها. بعضها نخزت عيني. جثة داعشي متفسخة، عرفتها من الشعر الطويل، والعمامة الممزقة بفعل الديدان المتساقطة. لم أصدق ما كنت أراه للوهلة الأولى. لكنني تيقنت في تلك اللحظة، أن الزمن تحول إلى كابوس، واقعاً وخيالاً. لم أصدق أن الطمأنينة التي عشناها باتت جحيماً في تل نصري.

جثة داعشي متفسخة، عرفتها من الشعر الطويل، والعمامة الممزقة بفعل الديدان المتساقطة. لم أصدق ما كنت أراه للوهلة الأولى، لكنني تيقنت في تلك اللحظة، أن الزمن تحول إلى كابوس، واقعاً وخيالاً 

قبل حفلة إكليلي بثلاثة أيام، هاجم ذوو الرايات المظلمة قريتنا، تل نصري، بعد هروبنا، واختطاف 250 شخصاً، وتحريرهم وقتذاك في أيار/ مايو عام 2015. ورحل أكثر من ألف شخص من دون عودة. عادت أمي بعد ثلاث سنوات من سفرها إلى ألمانيا، فصرنا ثلاثة أشخاص في القرية، لم أتحمل العيش بعيداً عنها، ففي تلك الأيام أضحت الأصوات البسيطة في الليل تتحول إلى وحوش في ذواتنا. كانت كلابي تحرسنا من أي هجوم مباغت لبنات آوى، أو للّصوص الذين انتشروا في تلك الفترة. أصوات أكياس الخيش العالقة في سور الأسلاك الشائكة، كانت تثير توترنا. لم يأبه ابن عمي الياس لازار، الذي يعاني من اختلال عقلي، لما حلّ بنا، كله. فهو يخرج في كل صباحٍ لحراسة حطام الكنيسة المدمرة، والكنيسة القديمة المرممة مؤخراً، ويراقب حتى مرور القطط والكلاب العابرة.

يؤلمني الفراق، ولحظات احتساء الشاي مع طالباتي في شارع تل نصري. أحياناً يرتعش جسدي حين أسمع إحداهن تناديني في مخيلتي: "أستاذ زياد، أخيراً ربحنا!". لذلك أتفادى المرور من هناك، فأحيد عن ذلك الطريق للذهاب إلى وظيفتي. أحس بتعبهن في التدريبات الشاقة، وسعادتهن لحظة حصولهن على المراكز الأولى لبطولة نادي الخابور للدراجات على صعيد سوريا، وبطولات الطائرة، والسباحة، وألعاب القوى. صرت أعيش فراق الراحلين، وذكرياتهم في كل تفصيل كنا نحياه.

تغيرت حياتنا، واستعدنا بعضاً من ذكريات الغائبين، مع العفرينيين المهجرين إثر الهجوم التركي على عفرين عام 2018. قمنا بتمديد خطوط الكهرباء، والمياه، في بيوت جيراننا، وأقربائنا المسافرين، ليسكنوها. جمعتنا حلاوة اختلاف لغتنا التي ألفناها مؤخراً. نجومٌ، ورايات حمراء مختلطة بعمامات قاتمة، جعلت أيامنا الجميلة تقويماً نازفاً. كنت أرى في وجوه العفرينيين سكينة نتوسد عليها بروحنا، وملاذاً أنسانا ما حصل لنا.

حرب امتدت ثلاثة أشهر، جعلت من ضجيج حياتنا الاعتيادي، أماكن تسكنها الذكريات، جعلت بيوتنا تتشابه في شكل ترميمها

خراب حول عالمنا الهادئ. نتبادل، وسطه، الاتصالات عبر مكالمات الفيديو، لاستعادة ذاكرة المكان في ذلك الحيز الافتراضي. تطالبني إحدى طالباتي بتصوير النادي الرياضي، وأنا الذي توجعني صورة عنف الوحوش التي ستعكسها كاميرا هاتفي النقال، فأشعر بذنب غريب. أحاول تشكيل فريق جديد للسيدات، لأعيد اسم النادي، وأبعث فيه روحاً جديدة، لنفوز بالألقاب كما في السابق، بعيداً عن الذكريات، ووجع الغياب.

جارنا العفريني علمني طرقاً جديدة لقطاف الزيتون. لكنني لا ألبث أفكر كيف سأردم الخندق الممتلئ بالجرذان، وسط بستاني، الذي خلفه أولئك الدواعش. باءت محاولاتي كلها بالفشل، للقضاء عليها. إنها تقضم ثمار أشجاري، فتتساقط قشوراً وبذوراً.

حرب امتدت ثلاثة أشهر، جعلت من ضجيج حياتنا الاعتيادي، أماكن تسكنها الذكريات، جعلت بيوتنا تتشابه في شكل ترميمها. الردوم قليلة، لكنها باتت عناوين الأزقة والبيوت بدل أسماء ساكنيها. أخاف أن تنهش الجرذان محصول بذور البطيخ المخزن للبيع. وما تزال بنات آوى تحوم حول قريتنا، كأنها تنتظر رحيل كلابي. أشعر أنها تتربص بالقرية لتضرب بمخالبها الهدوء وتدفع بنا إلى الرحيل ثانية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image