شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الصباح للقرآن والمساء لأغاني أم كلثوم وعبد الحليم... في

الصباح للقرآن والمساء لأغاني أم كلثوم وعبد الحليم... في "بعرة"، ملاذ الباحثين عن النجومية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الثلاثاء 7 سبتمبر 202104:13 م

بين أحضان شارع عماد الدين الذي كان في الماضى قبلة كل عشاق الفن، يقع هذا المقهى الصغير، الذي كادت تفاصيله تختفي وسط زحام فرضه العصر الحديث.

في الطريق إلى المكان تسبقنا الحكايات التي طالما رواها النجوم في اللقاءات التلفزيونية عن بداياتهم الصعبة، انطلاقاً من هذا المكان، جنباً إلى جنب مع روايات أخرى جرت على لسان بعض ممن حصرهم الحظ والزمن، والمخرجین في أدوار صامتة، فبقي كل منهم في خانة "الكومبارس".

هنا "قهوة بعرة" التي كانت في سنواتها الأولى أشبه بالجامعة التي تقدم للوسط الفني النجوم من كافة التخصصات، قبل أن يبدل الزمن أحوالها ويجعلها مقرّاً للكومبارسات الباحثين عن الشهرة على طريقة نجوم الزمن الجميل، الذين انطلقوا من نفس المكان.

تم تدشين المقهى عام 1936، وجاء اسمه من موقف شهير كان بطله النجم المصري رشدي أباظة، والذي حرف اسم الشهرة لصاحب المقهى محمد زناتي الصعيدي، من "بعرور" والذي يعني "الجمل الصغير" إلى "بعرة".

يروى لنا عبدالرحمن الشهير بـ"عبده"، عامل المقهى، حكاية المكان ويقول: "كثير من الناس الذين يسمعون عن المقهى يعتقدون أنه مجرد ملتقى للكومبارس، فهذه هي السمعة التي اكتسبها المكان بمرور الزمن والتصقت به، رغم أن هذا الأمر غير صحيح".

تبقى "بعرة" كما يقول روادها تاريخَ الفن والفنانين، وهي مدرجة في الكتيب الخاص بمصر للطيران باعتبارها مزاراً سياحياً فنياً، كما حضرت في بعض الأفلام السينمائية

ويتابع لرصيف22: "المقهى في السابق، كان مكاناً يتجمع فيه المخرجين وصناع الملابس والديكور والإكسسوار والمسئولون عن الخدع، يعني كأنه جامعة أو معهد سينمائي يضم كل التخصصات. هؤلاء كانوا يجلسون الساعات يتناقشون في فيلم أو مسلسل جديد، أو يختارون أبطال أعمالهم الجديدة من الموجودين في المقهى، وأغلبهم أصبحوا نجوماً في ما بعد".



يبدو المقهي ضيقاً بالنسبة للوافدين الجدد، فهو لا يضم إلا عدداً قليلاً من الطاولات، سواءً داخل المقهى أو حتى في الممرّ الملاصق له، والذي أصبح بمرور الوقت جزءاً لا يتجزأ من المكان.

يحكي لنا عامر عبدالصمد (30 عاماً): "جئت إلى القاهرة منذ فترة، بعد أن رفض أهلي في الصعيد، فكرة احترافي التمثيل، لأنهم يرون أن أمراً كهذا لا يصح مع تقاليد الأسرة... قدمت منذ 3 سنوات تقريباً، وجربت العمل في أكثر من مهنة حتى أعتمد على نفسي وأثبت لعائلتي أنني رجل بحجم المسؤولية، وكانت العقبة الكبيرة أمامى أن مهنة التمثيل تحتاج تقريباً إلى تفرغ، لأن مواعيد التصوير مختلفة بين الصباحات والليالي، ويمكن أن أخرج في يوم للتصوير من الصباح الباكر ولا أعود إلا في المساء، وهو ما كلفني خسارة أكثر من مهنة".

ويشدد: "مصمم على حلمي وطموحي، وأعرف أن الطريق طويل، وعزائي في ذلك أن أغلب النجوم قضوا سنوات طويلة حتى وصلوا للنجومية والشهرة؛ يعني أنا الآن تقريباً أمثل أدواراً صامتة مع المجاميع، لكنني واثق أن اليوم سيأتي وسأصبح من الفنانين المهمين، كما حدث مع النجوم الذين بدأوا الطريق من هنا، وفي نفس المقهى. ومن أجل هذا الحلم سأواصل النحت في الصخر".


"حضرتك مخرج ؟"؛ كان هذا هو السؤال الذي ألقى به سامح العشري، ابن محافظة المنوفية، وصاحب الـ28 عاماً، فور أن لمحنى في المقهى. وحين أجبته بالنفي، فهمت منه مبرر السؤال، فأي وافد جديد وكما قال، إما أن يكون مخرجاً أو مؤلفاً أو ريجيسيراً جاء لانتقاء كومبارس لعمل جديد. يحكي سامح: "سمعت أن عدداً من النجوم تخرجوا من هنا، حيث التقطهم بعض الريجيسيرات، وقدموهم إلى مخرجين كبار، وبدأوا مشوارهم مع النجومية".

في المقهى يمرّ الوقت بطيئاً، في انتظار أي "أوردر تصوير"، ولذلك يقتل محمد الوقت مع بعض الزملاء في لعب الطاولة أو الدومينو أو الكوتشينه

يكمل عن عمله في السينما والدراما التلفزيونية: "الحمد لله أنا اشتغلت مع أغلب نجوم مصر، وأتقاضى أجراً قليلاً جداً لا يكمل حتى 100 جنيه، مع الوجبة، وهي أيضاً لا تساوي شيئاً إذا قورنت بحال النجوم؛ فالفنان البطل لازم يبقى عنده كرفان وتكييف وأحسن أكل، إنما إحنا أحياناً ننتظر بالساعات على الرصيف في عز الحر. ولذلك ستجد المطلب الأول لأغلبنا أن تكون هناك نقابة تحمينا وتجلب لنا حقوقنا، خصوصاً أنه مرت علينا فترات لم نكن نجد فيها أي عمل، مثلما حدث في بداية انتشار فيروس كورونا، لأن أغلب الأعمال توقفت وقتها، وبالتالي لم نكن نجد قوتَ يومنا بمعنى الكلمة، واضطرّ أغلبنا للعمل في مهن أخرى... أصلاً الشغلانة دي ما تنفعش لوحدها، لأنها مش بتأكل عيش. النجوم بياخدوا ملايين وإحنا بناخد ملاليم".


نفس الشكوى جاءت على لسان محمد عماد (45 عاماً): "زمان كانت الأجور المبالغ فيها، اللي نسمع عنها اليوم، مش موجودة. كان النجم الكبير بياخد مبلغ لا يمكن أبداً أن يصل إلى 100 ألف جنيه حتى، أما الآن فمن الممكن أن يحصل على 50 مليون وأكثر، أما نحن فلا نحصل حتى على ألف جنيه".

في المقهى يمرّ الوقت بطيئاً، في انتظار أي "أوردر تصوير"، ولذلك يقتل محمد الوقت مع بعض الزملاء في لعب الطاولة أو الدومينو أو الكوتشينه، فهو كما قال: "لا نملك إلا الانتظار إلى حين أن يأتي أحدهم ويطلبنا لعمل جديد".

يعمل المقهى وسط روتين وقواعد صارمة، ففي الصباح وحتى الساعة العاشرة صباحاً لن يُسمع خلالها سوى محطة القرآن الكريم، أما ابتداءً من بعد الظهر وحتى الخامسة مساءً فمخصصة لأغاني أم كلثوم ومنها إلى أغاني عبدالحليم وعبدالوهاب التي تستمر حتى العاشرة مساءً، فيما يبقى الوقت من العاشرة مساءً وحتى الثالثة صباحاً متاحاً للاستماع للأغاني الحديثة.

تقول مي رشدي (29 عاماً): "من هنا وفي نفس المكان، تخرج الكثير من النجوم، ويبقى في مقدمتهم رشدي أباظة وأنور وجدي وعادل إمام وتوفيق الدقن. وأكثر ما يميز المقهى أنه بجوار أغلب مكاتب شركات الإنتاج ومدراء الإنتاج والريجيسيرات... وفي ظل التطور التكنولوجي لم يعد التركيز الأكبر في اختيار الكومبارسات والوجوه الجديدة من المقهى، لكن بعض الريجيسيرات يأتون إلى هنا يومياً للبحث عن الوجوه الجديدة".


وواصلت عن العروض التي يحصلون عليها: "أغلب الأدوار التي تُعرض علينا تكون عاملات في مصنع، واحدة من الناس التي تحضر مناسبات، افتتاح مثلاً، أو حفل زفاف، أو حفل لنجم أو نجمة؛ بمعنى أننا دائماً تائهون وسط الزحمة. وبعد المشاركة في أكثر من عمل، تبدأ بالترقي قليلاً، فتقدم دوراً تظهر فيه أمام الكاميرا ويتبين وجهك. بعد ذلك تنتقل إلى الأدوار المتكلمة، وتبدأ بتمثيل أدوار تقوم على جملة أو جملتين، ثم دور صغير، ومن ثم قد ينتبه الناس إلى موهبتك".

يروي أحمد سليمان (56 عاماً) لرصيف22: "بناخد ملاليم رغم أننا ممكن نصور في اليوم 18 ساعة، وأحياناً تلاقي ريجيسير يقولك اسمك مش متسجل، وده معناه إنو مفيش أجر؛ يعني أصلاً اللي بناخده مش مكفي، وطبعاً مش عايز أقولك على بعض مساعدين الريجيسير اللي بيطلبوا فلوس مقابل أنه يجيب لنا شغل جديد، واللي بيرفض مش بيجيب له شغل تاني، وبيخلى ريجيسيرات تانين ما يشتغلوش معاه. إحنا بنعمل مشاهد خطيرة بتتسبب أحياناً في كسور وجروح، مالناش تأمينات، ولا إحنا بيتأمن علينا زي الفنانين الكبار، يعني لو واحد فينا مات وقت التصوير محدش هيعبره".


الريجيسير باسم درويش، علق على ما نقلته له من شهادات الشباب وقال: "أتردد على المقهى باستمرار، وأحياناً أحد المخرجين يتصل بنا وأنا هنا ويكون محتاج ناس بسرعة لدرجة أنه مرة في مسلسل مخرج طلب 10 كومبارس بعد ساعة، وهنا بيكون التواجد على المقهي مفيد. أذكر وقتها أنهم ارتدوا ملابس الشخصيات التي سيقدمونها وانتهوا من المكياج في القهوة واصطحبتهم في سيارة، وانطلقنا إلى التصوير مباشرة".

وشدد باسم على أن هناك كومبارسات يحضرون إلى المقهى بانتظام، منذ سنوات، يعانون من ظروف مادية صعبة، ولذا تدخل عدد من كبار النجوم وقرروا صرف رواتب شهرية لهم كى تعينهم على متطلبات الحياة.

يتابع: "ورثت المهنة عن والدى ففي صغري كان يصطحبني إلى هنا، وكنت كالمسحور من هذا الكم من النجوم، رأيت هنا يونس شلبي، أحمد بدير، محمود حميدة، وغيرهم الكثيرين، وحين كبرت اكتشفت أنني ورثت عن أبي حب المهنة، رغم أنها لم تمنحه سوى المرض والهم".

وتبقى "بعرة" كما يقول روادها تاريخَ الفن والفنانين، وهي مدرجة في الكتيب الخاص بمصر للطيران باعتبارها مزاراً سياحياً فنياً، كما أنها ظهرت في بعض الأفلام السينمائية مثل فيلم "جري الوحوش" و"بطل من ورق"، ومسلسل "طايع" للفنان عمرو يوسف.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image