مجاز القناع الذي خلف وجهي
المترجم الذي يعمل في طباعة النقود
يُخبرنا المترجم البريطاني، دينيس جونسون دايفيس (1922-2017) في سيرته التي تحمل عنوان "مذكرات في الترجمة" (2006)، أنه التقى بجبرا إبراهيم جبرا (1919-1994) في بغداد مطلع الخمسينيات. حينها، كان دينيس، الذي ذاعت شهرته في مصر كمترجم للأدب العربي إلى الإنكليزيّة، يعمل مندوباً لشركة "دي لا رو" في العراق، يرتدي البذّات الرسمية وربطات العنق الأنيقة، ويفاوض الحكومة العراقية من أجل طباعة الأوراق النقدية العراقية لدى الشركة التي يمثلها.
كانت "الوجوديّة" حينها تكتسح الساحة العراقية، وأفكار جان بول سارتر وألبير كامو منتشرة بين الشباب، ومنهم، بلند الحيدري (1926-1996)، الذي كان شاباً عشرينياً في تلك الآونة، ويعيش ما يشبه البوهيمية الشعرية، متسكعاً ومتنقلاً بين الصالونات الأدبية وبين شوارع بغداد، بثياب متسخة وشعر طويل كذيل حصان، كاسراً صورة الأديب ومعها صورة الشعر وأشكاله التقليديّة.
اجتمع دينيس وجبرا مع بلند ورفاقه عدة مرات، سواء في المقاهي أو في غرفة جبرا في الفندق الذي كان يسكنه، حين كان يدرس الأدب الإنجليزيّ في جامعة بغداد.
وهناك، في تلك الغرفة، قرّرا أن يخادعا بلند، وقالا له، هو الذي لا يجيد الفرنسية ويقرأ الإنكليزيّة بصعوبة، إن جان بول سارتر نبغ وكتب قصيدة وجوديّة، تُرجمت من الفرنسية إلى الإنكليزيّة، ونشرت في مجلة "إنكاونتر" البريطانية الأدبيّة، وقام جبرا ودينيس بترجمتها إلى العربيّة لتعريف أصدقائهم عليها، وبالطبع الأمر ليس إلا خدعة لإغاظة بلند واختبار "وجوديّته"، ويضيف دينيس أنه كتب القصيدة/المزحة مع جبرا، وكانت تحوي عدداً من "الأفخاخ" أبرزها، إحالة إلى رواية "الغريب" لألبير كامو.
شارع الأميرات "النائمات"
نقرأ عن هذه الحادثة بشكل أوسع وحسب نصيحة دينيس، في الكتاب الثاني من مذكرات جبرا إبراهيم جبرا، والذي يحمل عنوان "شارع الأميرات" والتي أنهاها جبرا عام 1994، وقدّم لها الروائي عبد الرحمن منيف، والذي يكتب: "فالكلمة، رغم عناية جبرا في اختيارها ووضعها في سياق يكاد يكون رياضياً، قد لا تكون كافية، أو لا توصل الشحنة التي يريد أن تصل إلى القارئ، وهذا ما يجعله يلجأ إلى الكثافة، وبعض الأحيان إلى التجريد، مراهناً على ثقافة المتلقي والمناخ النفسي الذي تولّد بفعل التماس..." أي، ما يُمكن فهمه، أن جبرا لا يبني ما يكتب فقط، بل من الممكن أن يحرّره من إسمنت السبك والإتقان ويترك النص كأساس مجرّد يملؤوه المتلقي ذاته.
كانت "الوجوديّة" حينها تكتسح الساحة العراقية، وكان بلند الحيدري شاباً عشرينياً، ويعيش ما يشبه البوهيمية الشعرية، متسكعاً ومتنقلاً بين الصالونات الأدبية وبين شوارع بغداد، بثياب متسخة وشعر طويل كذيل حصان، كاسراً صورة الأديب ومعها صورة الشعر وأشكاله التقليديّة... مجاز في رصيف22
بالعودة للقصيدة/المزحة، يتوسّع جبرا في الحديث عنها، لكن قبل ذلك يخبرنا أنه كان مدرساً في قسم الأدب الإنكليزيّ في كلية الآداب في بغداد التي عاد إليها من بريطانيا بعد إنهاء دراسته، وكان يسكن في غرفة صغيرة في فندق بغداد، غرفة امتلأت بلوحات تشكيلية من رسمه، أنجزها حين زار القدس وبيت لحم، كما تحوي الغرفة مدفأةً ومكتباً صغيراً، وقد استقبل فيها عدداً من الكتاب الشباب، ومن ضمنهم بلند الحيدري، لكن حالة جبرا الماديّة تحسنت، واستأجر غرفة أكبر في بنسيون "تمتلكه سيدة يونانية تدعى أثينا".
كثرت زيارات بلند إلى جبرا في الكليّة، وتوطدت صداقتهما، وامتدت اللقاءات إلى الغرفة الجديدة أو مقاهي تلك الفترة، المثير للاهتمام أن بلند حينها لم يكن قد تخرّج من الثانوية، بالرغم من أنه تجاوز الثانية والعشرين، الأمر الذي صدم جبرا، لكن بلند رأى في نفسه شاعراً ولا حاجة له للتعليم، فديوان "خفقة الطين" كان ذا أصداء حسنة، الأمر الذي دفع جبرا إلى تشبيهه بالفرنسي آرثر رامبو، صاحب "فصل في الجحيم" و"المركب السكران".
يصف جبرا بلند بأنه يرتدي دوماً معطفاً مطرياً طويلاً، و"لم يكشف أبداً عن البذلة العتيقة التي يرتديها تحته"، أما دخله فكان محدوداً، إذ كان يتقاضى القليل مقابل عمله كمصحّح لمجلة وزارة الزراعة التي يعمل خاله مديراً لها، مع ذلك "كان يتصرّف باعتزاز، وكأن الدنانير تملأ جيوبه".
يصف جبرا لاحقاً الجو الوجودي في العراق، وتأثر الشباب بسارتر وكامو بالرغم من أن ما تُرجم لهما للعربية لم يكن كافياً، لكن كان له أثر كبير، فالبعض وجد فيهم دعوة للحرية والانعتاق الكليّ، والبعض الآخر، من معارضي هذا التيار، وجدوهم عدميين، ويضيف جبرا أن عدم الاطلاع الكافي، جعل الخلط بين الاثنين أمراً عادياً، بل إن الكثيرين لم يعلموا أن كامو لم يكن وجودياً ومختلفاً سياسياً عن سارتر، ويستطرد بعدها جبرا في تفسير المواقف من الوجودية في العراق والحديث عن شعرائها الذين عرفهم.
مخالب الليل في أشلاء الشوارع
تنهش، والنوافذ تدمى بمآقٍ من حديد
اختفت المخالب في الباحات الرمادية
لكن الأعين الشاخصة كخصيتي نبتون
الأعين الحية بمرارتها الدمويةـ التي تشبه فروجاً متألمة
لا تزال
تملأ السكون البارد في باريس.
يظهر دينيس هنا ضمن المذكرات، وكما قلنا سابقاً، كان مشهوراً في أوساط المثقفين، إذ ترجم محمد تيمور، وكان على صداقة مع نجيب محفوظ وغيرهما، لكن زيارته لبغداد لم تكن لدوافع "أدبيّة" كما ذكرنا سابقاً، أما سبب اختياره لوظيفة ممثل عن شركة لطباعة النقود، فكان ببساطة، إجادته للعربيّة.
تعرف دينيس على بلند عن طريق جبرا، وأصبح دينيس قبلة الكثير من الكتّاب، يزورنه لمناقشة قضاياهم الأدبية والسياسية، إي لم يكن الهدف فقط دفعه لترجمة أعمالهم، بل تحويله إلى متحدث باسم القضايا الوطنيّة في "الخارج".
الوجودية المتواجدة كسلاً
دهش دينيس بأثر الوجودية على الجيل العراقي حينها والروح الثورية التي تغمرهم، وذات يوم، قرر بالاتفاق مع جبرا الإيقاع ببلند كما ذكرنا سابقاً، وكان نص الاتفاق أو الخدعة التي اقترحها دينيس على جبرا، ولم يذكرها في مذكراته على الشكل التالي: "اكتبْ (محدثاً جبرا) قصيدة غريبة، غريبة جداً بصورها، ورموزها، ولغتها، وأملأها بإشارات فلسفيّة ومصطلحيّة مما يتردّد في كتابات الوجوديين، ولنزعم أنك ترجمتها عن سارتر نفسه، عن طريق الإنكليزية".
يضيف جبرا لاحقاً خصائص القصيدة التي كتبت في غرفته: "هي مشحونة بغرائب القول، تحوي أسماء وهمية مبتدعة"، كما أنها تحوي هوامش مبتدعة لشرح المصطلحات والإشارة إلى الأسماء الغريبة المبتدعة، ويذكر جبرا مطلعها أو ربما جزء منها، وهو على الشكل التالي:
"مخالب الليل في أشلاء الشوارع
تنهش، والنوافذ تدمى بمآقٍ من حديد".
حضر الأصدقاء في منزل جبرا، وبحضور دينيس، وألقى جبرا القصيدة أمامهم، وكان رد بلند الأول بعد أن سمع القصيدة، "جميل وغريب، غريب جداً"، وبدأت الانتقادات من السامعين ويمكن تلخيصها بالشكل التالي: القصيدة تحوي فلسفة، القصيدة لا تحوي موسيقا، هي ليست إلا "حجج كلاميّة" لا شعر، ونهاية وبعد النقاش، قال بلند موجهاً حديثه لجبرا: "هذه القصيدة غريبة جداً، لأنها تشبه رسومك، كأنها خارجة من لوحاتك أنت، رموزها وتفاصيلها رأيتها أو رأيت مثلها في رسومك في السنتين الأخيرتين".
انتهي الأمر بالضحك، ودينيس يبتسم وكأن اللعبة كشفت، وجبرا يصطنع الضحك، وفي ذات الليلة، عدّل جبرا القصيدة، وحذف الكثير مما فيها، وأنهاها ثم وضع لها عنوان "أغنية لمنتصف القرن"، ويصفها بأنها "أغنية حبّ في منتصف قرن مليء بتمزيق الإنسان جسداً وروحاً وتاريخاً"، ولاحقاً قرأ القصيدة لاحقاً لزوجته لميعة العسكري، التي وصفتها بـ"الغزل المخيف".
لا تهمنا قصيدة جبرا المكتوبة والمنقحة، بل تلك القصيدة/المزحة التي ألقيت على مسامع بلند، والتي ذكرنا خصائصها سابقاً، والتي يقول جبرا أثناء تنقيحها بأنه أبعد التهافتات والنفايات المقصودة، والافتعالات الماجنة، وهذا بالضبط ما نريده، تلك القصيدة التي قُرأت مرة واحدة، ثم نُقحت واختفت وكأنها مزحة سمجة، ألصقت بسارتر دون أن تحقق هدفها، ألا وهو "خديعة بلند".
لحسن الحظ أن القصيدة رمية نرد، وضمن فضاء احتمالاته لا متناهيّة، يمكن، ولو بعد نصف قرن، أن تتكرر القصيدة خصوصاً أن جبرا يقول عن القصيدة الجديدة إنه" أمسك بتلك القصيدة وكأنني أمسكت بجني عبث بي، لكنه وعدني بجوهرة لم أكن أتوقعها، ورحت أطالبه بتسليمها".
ولأننا بحثنا عن المزحة فلسنا مضطرين لأي من الجن أو على الأقل، لسنا مضطرين لأي من الجن الجديين، ملاصقي الفطاحل والنوابغ، إذ يمكن إيجاد القصيدة في مستودع المسودات الشعريّة، ذاك الذي يحرسه بكسل الجني "أبو الرفث"، المعروف بأنه أشبه بمتسول يحمل أكياساً وأوراقاً لا يشتريها أحد، السبب أنه لا يطلب المال، بل فقط من يستمع لما كتبه، وهنا كانت القصيدة:
لا تهمنا قصيدة جبرا المكتوبة والمنقحة، بل تلك القصيدة/المزحة التي يقول جبرا أثناء تنقيحها بأنه أبعد التهافتات والافتعالات الماجنة، وهذا بالضبط ما نريده، تلك القصيدة التي قُرأت مرة واحدة، ثم نُقحت واختفت وكأنها مزحة سمجة، ألصقت بسارتر دون أن تحقق هدفها، ألا وهو "خديعة بلند"... مجاز في رصيف22
"الكركدن الوجودي"
مخالب الليل في أشلاء الشوارع
تنهش، والنوافذ تدمى بمآقٍ من حديد
اختفت المخالب في الباحات الرمادية
لكن الأعين الشاخصة كخصيتي نبتون
الأعين الحية بمرارتها الدمويةـ التي تشبه فروجاً متألمة
لا تزال
تملأ السكون البارد في باريس.
الماضي يتكلم بلسان شوبنهور
المستقبل يتشاجر مع كيركيغارد
الحاضر يقعي كالكلب تحت قدمي ديستويفسكي
وحين أدركت أنني لا زلت حياً بعد معركة طويلة كتلك
وأن الحياة تجري مثل أرنب الفصح كما هي دائماً
أدركت أن وجودي هبة عدمي
وأن انتصاري على الخلود يتقاسمه شعوري بالزوال
كانت تلك هبتي للوجود:
الألم يستمرّ، معدنياً، في الدوامة الكبرى للعدم.
يجلس الموت على ركبة واحدة في الصالون
ويبثّ في الأجواء عدماً دخانياً
رباه، كم في هذا الوجود الداكن
يقبع اللا جدوى واللا أمل واللا استفهام، ككلب سلاقي مبقّع.
يصل النجم الأزرق
يصل الشاعر الملعون والروائي الذي ولد في الجزائر
تصل خمس نساء مبطنات بالرغبة والأزهار المجففة
يصل الله، متأخراً كالعادة، يتبعه يسوع وباقي التلاميذ الصاخبين
يصل الطاعون مرتدياً ثوب الحامية الفرنسية في المستعمرات
يتبعثر كل شيء أمامي
ومن ذلك الحضور الكلّي
يتبقى لي العدم وحده، كسرّ لا أستطيع ابتلاعه وحدي.
هذه القصة متخيلة كلياً، ككل القصص الحقيقية، كتب النص عمّار المأمون وكتب القصيدة محمد دريوس
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...