شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
إلى جوى (2)... عن إلحادية الجوع

إلى جوى (2)... عن إلحادية الجوع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 31 يوليو 202111:41 ص

العزيزة جوى،

لم أكن أتخيّل أنني سأكتب لك مجدداً، لكن النور الذي في داخلي لم ينطفئ بعد.

أكتب لك وأنا أجلس في غرفتي على نفس الكرسي العتيق، بجسدي النحيل هذا.

حين قررت دراسة الهندسة الزراعية، كان لديّ حلم بأن أساهم في القضاء على الجوع في هذا العالم. كنت أنوي إحداث ثورة تغيّر مسار الكون.

لكن لا أعلم كيف ضربني الجوع وغيّرني إلى هذا الكائن. كيف سأحدث ثورة، وقد بتّ أخاف التغوط كي لا أجوع أكثر؟!

ولكن لا تقلقي يا جوى، فقد أقلعت عن جميع أحلامي، فمَن لا يحصل سوى على رغيفيْ خبز في اليوم لا يحق له الحلم.

ثم أن ما يجعلني أصبر على هذا الجوع الذي أنا فيه، هو أنه والحمد لله، بسبب هذا الصمود العظيم الذي صمدناه، استطعنا تغيير ملامح السياسة العالمية، كما استطعنا رسم خطوط اشتباك جديدة على الساحة الإقليمية، إضافةً إلى إلغاء سياسة القطب الواحد في العالم.

كله يهون يا جوى. المهم ألا تبقى سياسة القطب الواحد في هذا العالم. فكما تعلمين، بلادنا بالنسبة إلى الدول الفقيرة هي أساس الخلاص السرمدي، والقيامة ضد ظلم الجندي الأمريكي. بلادنا هي روبن هود "الغلابة" يا جوى.

أريد أن أبشّرك بأنني أصبحت مشهوراً في الفترة الأخيرة، لقد كنت جالساً في غرفتي في أمان الله ليس بيدي حيلة ولا أستطيع فعل شيء لأرى نفسي فجأة على التلفاز كمواطن صامد صنديد جبار.

ولكن ما علينا، فكما يقول المثل: "الصمود على المرتكي هيّن".

ثم أنني بت أظهر على موقع فيسبوك بشكل متكرر مؤخراً. نعم يا جوى فالثمانون بالمئة من الشعب الواقعين تحت خط الفقر هم أنا، طوابير الجياع أنا، مشاهد الأطفال الذين يأكلون من القمامة أنا، محاولات الانتحار أنا.

ولكن حياة الشهرة هذه صعبة كثيراً يا جوى.

"ما يجعلني أصبر على هذا الجوع الذي أنا فيه، هو أنه والحمد لله بسبب هذا الصمود العظيم الذي صمدناه، استطعنا تغيير ملامح السياسة العالمية، كما استطعنا رسم خطوط اشتباك جديدة على الساحة الإقليمية، إضافةً إلى إلغاء سياسة القطب الواحد في هذا العالم"

هل تعلمين يا جوى؟ عشت عمري مؤمناً ولم أفكر في الإلحاد يوماً، ولكن للجوع إلحادية خاصة به.

إلحادية الجوع تجعل أفكاراً وأمنيات غريبة تتسرب إلى رأسي، كأن ينزل الله ويجلس قربي فأعطيه هويةً سورية وبطاقةً ذكية وأراقبه كيف سيستطيع تدبّر أمره، وعلى وجهي ابتسامة ساخرة.

أقضي معظم وقتي هنا في غرفتي أتقلب على سرير الجوع والانتظار ولا أخرج كثيراً، وإنْ خرجت فهنالك قانونان للمشي في الشارع.

القانون الأول هو أن أحاول إبقاء رأسي نحو الأمام ولا ألتفت يميناً ويساراً كي لا أرى الأطفال النائمة على الأرصفة وقارعة الطريق، فيتقطع قلبي كوني لا أستطيع فعل شيء أو تقديم أي شيء لهم.

مَن قال إن الجوع يجرد الإنسان من إنسانيته ويحوله إلى وحش بلا مشاعر مخطئ تماماً، وأنا واثق بأنه لم يذق طعم الجوع يوماً.

فالجوع يا جوى يحكم نصف هذا العالم، ويربطهم بعضهم ببعض، فيزيد إحساسهم أضعافاً، ويجعلك تقتسمين فتات الخبز مع العصافير.

"فكما تعلمين يا جوى بلادنا بالنسبة للدول الفقيرة هي أساس الخلاص السرمدي، والقيامة ضد ظلم الجندي الأمريكي. بلادنا هي روبن هود ‘الغلابة’ يا جوى"

والقانون الثاني هو أنه في حال توفرت معي نقود كافية لشراء "سندويشة" من أحد محلات الطعام، فعليّ ألا آكلها في الشارع، وإلا عيون المارة ستأكلها قبلي.

في هذه البلاد يا جوى هنالك سوء تفاهم بين الناس الذين يعيشون في الأعلى وبيننا نحن القابعين في الدرك الأسفل.

منذ أيام مضت، أُعلن عن استئناف العمل على أحد أفخم الفنادق في دمشق!

بماذا سيفيدني هكذا مشروع؟! ما الذي سيقدمه هذا المشروع للعمّ الذي يبكي يومياً لأجل لقمة أولاده!

انظري يا جوى إلى تلك المقاهي الفخمة والمنتجعات الضخمة، كلها ممتلئة! هل ترين السيارات النادرة كيف تمر في شوارعنا الثكلى يومياً؟

ثلاثة وثمانون بالمئة من شعبنا يغلقون أبوابهم كي لا يرى أحد كيف أن الجوع والفقر ينهش أجسادهم. وسبعة عشر بالمئة يزدادون وقاحةً يوماً بعد يوم.

نعم يا جوى لقد أخبرونا أنه في هذه البلاد لا يموت أحد من الجوع، ولكنّهم كاذبون، فشبح الموت يهيم حولنا يومياً.

أنا لا أخاف الموت جوعاً يا جوى. ما أخشاه حقاً هو ألا يجدوا قبراً يلمّ جسدي حين أموت.

ولكن ما يعزيني حقاً هو أنهم سيوزعون الطعام على الفقراء في جنازتي.

الوداع يا جوى.

الوداع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image