أرسلت إليّ كارمن أكثر من عشرين صورة لشباب رأتها على تطبيق المواعدة "تيندر" في الأسابيع الأخيرة. كتب أحدهم أسفل صورته باللغة الإنكليزية: "شابّ عظيم منذ أن ولدته أمّه"، وكتب آخر: "سيسجَّل اسمكِ مع أسماء عظماء آخرين في العالم عندما تخرجين معي في موعد غراميّ"، بينما اختار ثالث عبارة: "أبحث عن شابة ذكيّة، كوني نجمٌ عالمي، سأُبقي هويتي مجهولة إلى أن تتزوّجيني".
"فقدتُ الأمل بالمواعدة"، تقول كارمن (21 عاماً)، طالبة هندسة من لبنان وتضيف: "فقدتُ الأمل كلّياً لأنني فهمت، بعد محاولات عدّة، أن نوع الشريك الذي أصبحت أبحث عنه، نادر".
تعتقد الشابة أنّ البحث عن استقرار عاطفي في فترة يتخبّط فيها الوضع الاقتصادي والسياسي المتأزم في لبنان مع آثار جائحة كوفيد-19، هو أمر شبه مستحيل، وتُفضّل تأجيله والتروي على أن تلجأ إلى الخيارات العاطفية المتوفرة وسهلة المنال.
"أصبحتُ أنفر مثلاً من الشاب المتسرّع غير المبالي بتدهور الوضع الاقتصادي في لبنان ومن الشاب المنتمي إلى أحد أحزاب السلطة، والشاب العنصري، خصوصاً بعد أن تطوّر وعيي السياسي منذ انتفاضة 17 تشرين".
حول العالم، تأثرت العلاقات العاطفية بشكل كبير بانتشار كورونا. غيّر الفيروس في شكل التواصل بين الناس، وغيّر أيضاً في وتيرة دخولهم في علاقات جديدة، وفي طبيعة خياراتهم العاطفية. في لبنان، تزامن الوباء مع أزمة اقتصادية وسياسية حادة، تركت بدورها آثارها على العلاقات.
"فقدتُ الأمل بالمواعدة... فقدتُ الأمل كلّياً لأنني فهمت، بعد محاولات عدّة، أن نوع الشريك الذي أصبحت أبحث عنه، نادر"
جاد (اسم مستعار) هو طالب اقتصاد. يقول إنّه لم يكن يكترث في الآونة الأخيرة إلّا إلى عامل أساسي عند بحثه عن شريك، وهو درجة شعوره بالأمان الصحي: "أفضّل أن ألتقي بشخصٍ سطحي أخذ اللقاح ضد فيروس كورونا، في موعد غرامي بعيد جغرافياً، على أن ألتقي بمَن هو أقرب ولكن غير آمن".
كان الشاب المثلي البالغ من العمر 23 عاماً، ويقيم في منطقة الشوف، يبحث سابقاً عن شركاء جنسيين قريبين جغرافياً من مكان سكنه في الدرجة الأولى، مع أخذه للوسامة واللياقة البدنية والعمر بعين الاعتبار. اليوم اختلف الوضع: "شعرت أن محاولة إيجاد التوازن بين حياتي العاطفية التي أردتها مستقرّة وحالتي النفسية المتقلّبة بسبب قلقي من الفيروس، كانت عبئاً ثقيلاً عليّ، لذلك لم أعد أتعمّد البحث عن الحب".
جائحة الحرمان من الحب واللمس
تعتبر الأخصائية في علم النفس العيادي ليا حرب أنه لا بد من التمييز بين مختلف الشخصيات العاطفية عند الحديث عن تأثير العزل الاجتماعي والأزمة الاقتصادية التي يشهدها لبنان على خيارات الشباب العاطفية.
بحسب حرب، يصير البعض أكثر انتقائية في بحثهم عن الحبّ ويزداد لديهم القلق الاجتماعي، بينما يتصرف البعض الآخر بالعكس، إذ "يشعرون بتوق شديد لأيّ نوع من العلاقات الرومانسية أو الصداقات، إلى درجة يندفعون نحو أيّ شخص يُظهر لهم عاطفة حتّى ولو ضئيلة، وحتّى ولو لم يكونوا لينجذبوا إليه في ظروف أخرى، ليبرهنوا لأنفسهم أنّ هناك مَن يهتمّ بهم حتى في وقت الأزمات".
توافق المعالجة النفسية ثُريّا سرحان على ذلك وتلفت إلى شيوع القرارات العاطفية المتهوّرة خلال فترة الجائحة من أجل الشعور بالحبّ، وبسبب تزايد الملل والكبت العاطفي والجنسي.
هذا الاندفاع شبه الغرائزي إلى الخيارات العاطفية المتاحة بسهولة يترافق مع ازدياد ما يُسمّى في علم النفس بظاهرتيْ "الجوع العاطفي" و"جوع الجلد"، إذ لا يمكن الاستهانة بالأثر الذي يتركه التباعد الاجتماعي وانعدام اللمس على الناس، وشعور النقصان الذي يولده لدى الأشخاص.
تقول سرحان: "يبحث الإنسان دائماً عن الشعور بأنّه محبوب ومرغوب ووجوده مُقدَّر، وبالتالي يشعر بالفَقد إذا لم يلمس الآخرين من حوله" وتضيف أن الأمر يأخذ أبعاداً إضافية في "ثقافة تولي أهمية كبيرة للمس في تواصل الناس مع بعضها البعض".
إليز (21 عاماً)، أخصائية تغذية، تقول إنها لم تعد تكترث للبحث عن الحبّ كما كانت من قبل، ولكن ذلك لا يعني أنها توقفت عن البحث عن شريك. قبل بدء الجائحة، كانت تستخدم تطبيق المواعدة الغرامية "تيندر" بتقطّع، إلا أنها كثّفت نشاطها عليه بعد الإقفال العام.
ولكن الأشخاص الذين تتعرف عليهم افتراضياً لا يُعجبونها إلى درجة الالتزام بعلاقة عاطفية معهم. "رميتُ بمعايير اختيار الشريك من النافذة" تقول بضحكة، "والتقيت ببعض الذين بادلتهم إعجابهم على التطبيق، ولكنّي لم أُعجَب، بطبيعة الحال، بأيّ منهم".
كانت إليز في السابق تبحث عن شريك "مُتفهم وحنون ودؤوب في عمله ويملك نفس حسّ فكاهتها"، "يعني كلّ هذه الصفات الكليشيه"، تقول بنبرة ساخرة "ومعايير اختياري للارتباط العاطفي كانت مرتفعة جداً، خصوصاً أنني انتقائية جداً ولا أرى نفسي قادرة على الانسياق مع أيّ كان إنْ لم أشعر أننّا متجانسان على مستوى طاقاتنا"، إلا أنّها أصبحت تفضّل حالياً أن يقتصر تواصلها مع الشباب على "الحديث عن مواضيع سطحية من دون الغوص في تفاصيل حياتهم الشخصية".
توضح: "لا أقول الآن أنّني تخلّيت عن البحث عن هذه الحَسَنات ولكنّني أيضاً لا أسعى إلى التعرّف بشكل كافٍ إلى حَسَنات أيّ شابّ كان".
بالتوازي مع ازدياد البحث عن العلاقات العابرة للتعويض عن النقص العاطفي، لاحظت حرب أنّ بعض الذين يزورون عيادتها هم من الذين أصبحوا يخشون فكرة الارتباط أو الاستمرار في علاقة عاطفية بسبب الضائقة الاقتصادية التي يمرّون بها والتي تجعلهم عاجزين عن التخطيط لمستقبلٍ مستقرّ، خصوصاً الشباب الذين يتوقّع منهم المجتمع التقليدي اللبناني "شراء منزل والزواج وتأسيس عائلة".
ما بعد كورونا... انتشار "الحبّ البطيء"؟
في التحليلات المتزايدة في الإعلام عن تبدل مشهد الحب والعلاقات بعد كوفيد-19، هناك مَن يرجّحون أن تظل القواعد التي فرضتها الجائحة على العلاقات قائمة، وأن تكون للمرحلة السابقة آثار طويلة الأمد على علاقاتنا العاطفية، بينما يرجح آخرون أنّ الناس سيعودون إلى الروتين القديم للعلاقات تدريجياً.
بحسب حرب، سيترك التباعد الاجتماعي أثره على الحياة العاطفية عند البعض على الأمد البعيد: "سيشعر كثيرون بقلق اجتماعي أكبر عند شروعهم في المواعدة الغرامية من جديد في فترة ما بعد الجائحة، بسبب انخفاض حبّ هؤلاء لذواتهم في فترة العزل الاجتماعي واعتمادهم على وسائل التواصل الاجتماعي حصراً للتواصل".
الجنس ليس الأولوية في أذهان العديد من الأشخاص الخارجين من العزل، بل توقهم إلى الصداقات
أما هيلين فيشر، باحثة في الأنثروبولوجيا البيولوجية ومتخصصة في دراسة اتجاهات المواعدة وتطور مفاهيم الحب والزواج، ومبتكرة مصطلح "الحبّ البطيء" Slow love، للتعبير عن الميل المتزايد للإنسان المُعاصر لقضاء وقت أطول في مرحلة التعارف على شريك محتمل قبل الدخول في علاقة عاطفية بشكل جدّي، فتتوقع أن تساهم جائحة كورونا في انتشار أوسع لهذه الظاهرة، وبالتالي في تعزيز استقرار الزّيجات في المستقبل.
تستند فيشر في تحليلها هذا على استطلاع رأي أجري على مستخدمي موقع المواعدة الأمريكي Match.com وأظهر أن المستطلعين باتوا يقضون وقتاً أطول في محادثاتهم مع الشريك المحتمل، يجرون محادثات ذات مغزى أكبر، وقال 69% منهم إنهم أصبحوا الآن أكثر صدقاً، خصوصاً في ظلّ فائض الخيارات العاطفية المُتاحة في المواعدة عبر الإنترنت.
أما التغيير الأكثر إثارة للاهتمام، فهو في الاهتمام المتزايد بالصداقات والعلاقات الأفلاطونية الذي لاحظته تطبيقات المواعدة لدى مستخدميها. فبحسب مؤسسي تطبيقي تيندر وبامبل، الجنس ليس الأولوية في أذهان العديد من الأشخاص الخارجين من العزل، بل توقهم إلى الصداقات.
أنجزت هذه المادة ضمن مشروع "شباب22"، برنامج تدريبي لموقع رصيف22 يرعاه مشروع دي- جيل D-Jil، بالاعتماد على منحة من الاتحاد الأوروبي تشرف عليها CFI.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...