هذا الأمر جعل البرلمان المصري يوجه اهتمامه نحو إعادة النظر في أزمة التحرش في البلاد من الناحية التشريعية، ليصل في نهاية المطاف إلى إقرار تعديل بعض أحكام قانون العقوبات الصادر في القانون رقم 58 لسنة 1937، والخاصة بتشديد العقوبات على التحرش الجنسي، والتي استُحدثت عام 2014 بهدف تغليظها.
أبرز التعديلات التي وافق عليها البرلمان، تعديل المادة (306 مكرر أ)، المتعلقة بالتعرض للغير في مكان عام، أو خاص، أو مطروق، بإتيان أمور، أو إيحاءات، أو تلميحات جنسية، أو إباحية، سواء بالإشارة، أو بالقول، أو الفعل بأية وسيلة، بما في ذلك وسائل الاتصالات السلكية، واللا سلكية.
أضاف التعديل الوسائل الإلكترونية، ووسائل تقنية أخرى، كما غلظ العقوبات من ستة أشهر كحد أدنى، لتصبح ما بين سنتين وأربع سنوات، ورفع قيمة الغرامة من ثلاثة آلاف جنيه إلى خمسة آلاف، لتصير ما بين 100 إلى 200 ألف جنيه.
تعديل المادة نفسها، شدد أيضاً عقوبة تكرار الفعل من سنة سجن، و/أو غرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه، ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه، إلى "الحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تجاوز الخمس، وغرامة لا تقل عن 200 ألف جنيه، ولا تزيد عن 300 ألف جنيه".
وشملت التعديلات أيضاً المادة (306 مكرر ب)، المتعلقة بالأفعال المذكورة في المادة السابقة، لكن بقصد حصول الجاني من المجني عليه على منفعة ذات طبيعة جنسية، وغُلّظت العقوبة من الحبس سنة كحد أدنى، و/أو غرامة تتراوح بين عشرة وعشرين ألف جنيه، لتصير مدة الحبس خمس سنوات كحد أدنى، والغرامة بين 200 و300 ألف جنيه.
وطال المادة نفسها تعديل آخر، في حال كان الجاني "من أصول المجني عليها، أو من المتولين تربيتها، أو ملاحظتها، أو ممَن لهم سلطة عليها"، أو "له سلطة وظيفية، أو أسرية، أو دراسية، على المجني عليه، أو مارس عليه أي ضغط تسمح له الظروف بممارسته، أو ارتُكبت الجريمة من شخصين فأكثر، أو كان أحدهم على الأقل يحمل سلاحاً". في هذه الحالة، غلظ التعديل العقوبة من الحبس ما بين سنتين وخمس سنوات، و/أو غرامة ما بين 20 إلى 50 ألفاً، وجعلها سبع سنوات كحد أدنى، و/أو غرامة من 200 إلى 300 ألف جنيه.
وبعد إقرار اللجنة التشريعية في مجلس النواب المصري مشروع قانون تغليظ العقوبات، ستكون الخطوة التالية مناقشته في جلسة برلمانية عامة، والتصويت عليه بشكل نهائي.
وعلى الرغم من توجه المشرّع المصري نحو تغليظ العقوبة، كآلية رادعة من وجهة نظره، لمواجهة ظاهرة التحرش الجنسي، لكن الأمر لم يلقَ ردود الفعل المنتظرة، وكان لبعض الحقوقيات والنسويات رأي آخر.
"رفض مجتمعي"
تبدي المحامية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية عزيزة الطويل، تخوفها من تغليظ العقوبات في بعض قضايا التحرش، وتؤكد لرصيف22 على ضرورة أن تتناسب العقوبة مع الفعل، حتى لا يزيد الأمر أعباءً جديدة على الناجية، والشهود.
وتوضح الطويل أنه في بعض قضايا التحرش، قد لا يكون تشديد العقوبة في صالح المجني عليها، لأنه قد يزيد من العنف ضدها، أو من احتمالية الانتقام منها، خاصةً مع غياب آليات حماية المُبلِّغات والشهود.
"في بعض قضايا التحرش، قد لا يكون تشديد العقوبة في صالح المجني عليها، لأنه قد يزيد من العنف ضدها، أو من احتمالية الانتقام منها، خاصةً مع غياب آليات حماية المُبلِّغات والشهود"
وتضيف أن الهدف من العقوبة هو تحقيق الردع، فعندما تصل العقوبة في بعض جرائم التحرش بموجب النصوص المُحدّثة إلى الحبس سنتين (الحد الأدنى)، سيكون هناك رفض مجتمعي، وهذا سيُترجم في محاولات تهريب المتحرشين، وافتقاد التضامن المجتمعي، ما قد يزيد من لجوء القضاة إلى المادة "17" من قانون العقوبات، والمعروفة باسم "مادة الرأفة"، في قضايا التحرش الجنسي.
وتشير إلى أنه مثلما يوجد قطاع في المجتمع المصري يرفض التحرش، ويحتفي بمعاقبة المتحرشين، يوجد أيضاً قطاع واسع من المجتمع يبررها، ويرفض تجريمها في القانون.
"إطالة أمد التقاضي"
ولفتت المحامية إلى أن تحويل جريمة التحرش من جنحة إلى جناية، يضيف عبئاً إضافياً على الناجيات ومحاميهن، وذلك لطول مدة التقاضي أمام محكمة الجنايات، بعكس الحال في قضايا الجنح.
هذا الأمر أشارت إليه ورقة قانونية أصدرها مركز "تدوين لدراسات النوع الاجتماعي"، بعنوان "فاعلية تشديد العقوبة في جرائم التحرش"، أوضحت أنه من عيوب تغليظ عقوبة التحرش، "صعوبة الادعاء بالحق المدني أمام محكمة الجنايات، بخلاف سهولته أمام محكمة الجنح، ما قد يشكل حجر عثرة أمام منظمات المجتمع المدني، وأصحاب المصلحة".
وأشارت الورقة إلى وجود مرحلة إضافية أطول للتقاضي، وهي مرحلة الطعن بالنقض أمام محكمة النقض، إذ إن الطعن بالنقض جائز في الجنايات فحسب، بينما لا وجود له في الجنح، إلا ما استُثني منها بنص خاص، و"هي مرحلة طويلة للغاية إذا أخذنا في الحسبان حجم الطعون بالنقض التي تنظر فيها المحكمة، والتي قد تستغرق سنوات عدة، بعكس الجنح التي لا يوجد فيها نقض، ويكون التقاضي فيها على درجتين سريعتين أمام محكمة الجنح، ثم أمام محكمة الجنح المستأنفة."
وفق عدد من الدراسات، ومنها ما أجراها مركز تدوين، فإن التحرّش الجنسي في مصر يحدث على نطاق واسع جداً في المجتمع المصري، ويطال تأثيره الجميع. ففي دراسة أجرتها خريطة التحرش في مصر عام 2014، أظهرت أن 95.3 في المئة من النساء المشاركات في البحث تعرضن للتحرش في القاهرة الكبرى.
أما على مستوى البلاد، فقد أظهرت دراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة للمرأة، أن ما نسبته 99.3 في المئة من النساء المصريات اللواتي استُجوبن، قد تعرّضن للتحرش الجنسي، و49.2 في المئة منهن تعرضن له بشكل يومي.
"حاجة إلى إعادة المفاهيم والآليات"
"تفكير المشرع المصري يتوجه دائماً نحو تغليظ العقوبة، كحل رادع للجريمة، من دون الاهتمام بالجوهر". هكذا بدأت الناشطة النسوية ووكيلة مؤسسة في حزب العيش والحرية (قيد التأسيس)، إلهام عيداروس، حديثها لرصيف22 عن تعديلات قانون التحرش.
وأوضحت عيداروس أن مصر ليست في حاجة إلى تغليظ العقوبات، فالعقوبات قبل التعديل كانت كافية ورادعة جداً في حال تنفيذها، "فنحن لسنا في حاجة سوى إلى إعادة تعريف بعض المفاهيم في القوانين الخاصة بالعنف الجنسي، مثل الاغتصاب، واستحداث آليات التطبيق".
وتابعت الناشطة النسوية: "هناك توجه من الدولة لاحتكار الحديث والتعاطي في قضايا المرأة، بمعنى أن هناك مشروعاً متكاملاً لقانون خاص بأشكال العنف كلها ضد المرأة، قدمته منظمات نسوية عام 2017، ولم يُنظر فيه حتى الآن، بالإضافة إلى مشروع أخر قدمته الرئيسة السابقة للمجلس القومي للمرأة السفيرة ميرفت التلاوي، يتناول أوجه العنف كافةً، ضد المرأة، ولم يُنظر فيه أيضاً".
"نحتاج إلى تعديل تشريعي لإخفاء معلومات الناجيات والشهود في حالة الإبلاغ، لحمايتهم من العنف المتوقع الذي قد يقع عليهم من قبل أسرة الجاني"
وأوضحت أن المشاريع المقدمة لم تتناول الجريمة، والعقوبة المقررة فحسب، وانما تناولت تعديلات تعريفات الجرائم نفسها، وتعديل الآليات المستخدمة، من بداية طرق الإبلاغ والتحقيق، حتى المحاكمة، وحماية المبلِّغين والشهود أيضاً.
وتشير عيداروس إلى أن "هناك تجاهلاً تاماً من قبل الدولة لفتح أي حوار مجتمعي مع المنظمات التي تشتبك على أرض الواقع مع القضايا النسوية"، وتعاملها مع القضايا بشكل منفرد "يجعلها تلجأ إلى الطريق الأسهل، والأقرب، والذي لا يكلفها أموالاً وموارد، وهو تغليظ العقوبة، وهذا ما حدث في قضايا أخرى مثل الختان".
لكن، والحديث لها، يقتضي تعديل الأشياء الأخرى، كـ"المفاهيم والآليات"، وبناء مؤسسات جديدة، وموارد، وتدريب العاملين والقائمين عليها، وتأهيلهم.
وأشارت الناشطة النسوية إلى أن المجلس القومي للمرأة يتخذ موقفاً انفصالياً تماماً عن المنظمات النسوية في مصر، وأصبح لا يقدّم مقترحات ومشروعات لقوانين متكاملة خاصة بالمرأة، وتمركز دور المجلس حول تقديم حملات توعوية، بالإضافة إلى دور دعائي لمواقف الدولة من دون أي دور إيجابي في التشريع، علماً أن هذا هو دوره الأساسي.
حماية الشهود والمبلِّغات
في دراسة أجراها مركز تدوين بعنوان "العنف الجنسي... وسائل الدعم وآليات الحماية والإبلاغ"، تبيّن أن معدلات الإبلاغ عن حوادث الاعتداء الجنسي، أو اتخاذ الإجراءات القانونية حيال تلك الحوادث، منخفضة جداً، فمن ضمن 5534 سيدةً من المشاركات في المسح الذي أجراه المركز، وتضمنته الدراسة، 43 في المئة من النساء اللواتي شاركن في المسح، أقدمن على إبلاغ أسرهن بما تعرضن له.
ويشير المسح إلى أن 6 في المئة فقط من أسر النساء اللواتي تعرضن للاعتداء، أبلغ أحد أفرادها عن رغبته في اتخاذ إجراءات قانونية، فيما أشارت 2 في المئة منهن إلى أن أحد أفراد أسرهن ساعدهن بالفعل في اتخاذ إجراءات قانونية.
ترى الحقوقية واستشارية النوع الاجتماعي والتنمية ومنسقة البرامج في مؤسسة "المرأة الجديدة" لمياء لطفي، أنه "على الرغم من إيجابية بعض التعديلات، إلا أن هناك إجراءات لا بد أن تؤخذ في الحسبان، ولا بد من العمل عليها في أسرع وقت".
وتضيف موضحةً لرصيف22: "نحتاج إلى تعديل تشريعي لإخفاء معلومات الناجيات والشهود في حالة الإبلاغ، لحمايتهم من العنف المتوقع الذي قد يقع عليهن من قبل أسرة الجاني، لأن النص الموجود حالياً يقتصر على حماية المعلومات، وليس الأشخاص، ثم إن حماية المعلومات مُنتقاةٌ جداً، لأن قاضي التحقيق هو الذى يختار، وحده، القضية التي يتم حجب المعلومات فيها، ولكن تظل الفتيات المُبلِّغات، كشخوص، بلا حماية، وعليه، يتعرضن للابتزاز، والتهديدات، من الجناة بعد إبلاغهن عن التحرش بهن، ومطالبتهن بالتنازل عن بلاغاتهن".
وتضيف: "على الرغم من زيادة نسب إقبال الفتيات، مؤخراً، لتقديم بلاغات جرّاء تعرضهن للتحرش الجنسى، هناك فتيات يفضّلن عدم الإبلاغ تماماً، ومن المتوقع أن يستمر ذلك حتى مع تشديد العقوبة الجديدة، خوفاً من وصمهن اجتماعياً، وعدم شعورهن بالأمان فى حالة الإبلاغ، وكذلك الأمر مع حماية الشهود، لأنه وإن ذهبت الجانية للإبلاغ، إلا أن الشهود يتراجعون عن الشهادة بسبب الخوف، ما يؤدي إلى إفشال القضية برمتها".
الجدير بالذكر، هو أن عقوبة التحرش شُدّدت عام 2014، لكن هذا لم يُفضِ إلى القضاء على الظاهرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...