شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
من يحبُّ جسدي يشتهيني...المرأة تروي جسدها

من يحبُّ جسدي يشتهيني...المرأة تروي جسدها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 14 يوليو 202105:53 م


تقول الكاتبة المصرية ميرال طحاوي: "أثار الارتباط المجازي بين أجساد النساء والكتابة نوعاً من الشهوة في الاستقبال النقدي الأبوي". وفي الحقيقة، إن الشهوة المحيطة بتلقي النص الأنثوي أو المكتوب من قبل كاتبات لا تعكس الإثارة الجنسية للنص نفسه في كثير من الحالات، إنما تعكس شهوة الذكور لكشف عالم الحريم. قد يكون من الصعب النظر إلى كتابة جسد المرأة بطريقة أكثر اتساعاً في هكذا حالة، مع أنها كتابة تعبّر أيضاً عن رد فعل اجتماعي وسياسي بعد عقود من إخفاء المرأة وتهميشها، لتكون في جوهرها فعلاً احتجاجياً.

تستوقفنا اليوم العديد من أعمال كاتبات التي توصف بالجريئة، لكن هل فكرنا في التعمّق أكثر في هذه الأعمال ونبش مصدر جرأتها التي قد تتخطى فكرة الجسد والشهوانية والرغبة في كثير من المرات؟

إعادة سيطرة المرأة على جسدها

من المثير أن عدداً من الدراسات الاستقصائية بيّنت إنكار بعض الكاتبات لدور الجسد الأنثوي في الكتابة، ولو سُئلن عن ذلك، قد تكون إجاباتهن غامضة أو مراوغة، أجابت إحدى الكاتبات عن طريقة تعاملها مع الجسد في الكتابة بقولها: "يمكن كتابة الكثير عن الجسد دون التركيز حصرياً على الشهوانية"، رغم إدراك الكاتبة للمساحات التي يمنحها الجسد في الكتابة إلّا أنها تحاول إقصاء الشهوانية عنه.

تستوقفنا اليوم العديد من أعمال كاتبات التي توصف بالجريئة، لكن هل فكرنا في التعمّق أكثر في هذه الأعمال ونبش مصدر جرأتها التي قد تتخطى فكرة الجسد والشهوانية والرغبة في كثير من المرات؟

ولكن الإجابة التي تستحق الوقوف عندها كانت: "أنا أحتفل بالجسد في كتاباتي ولكن بطريقة مهذبة"، وهو ما يبدو جواباً أخلاقياً أكثر منه إبداعياً، هذه الإجابات لا تعني اتهاماً لصاحباتها بقدر محاولة للاقتراب من معاناة الكاتبات في محيطهن وقدرتهن الحقيقية على التعبير، في السياق التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي وجدن به.

أثارت الكتابات الحسية للكاتبة المصرية أليفة رفعت، خلال الستينيات، جدلاً كبيراً، وصُنفت كرائدة في الكتابة المثيرة، حيث تناولت الحياة العاطفية والجنسية للمرأة داخل العلاقة الزوجية بشكل خاص، ومنها الإشباع الجنسي للنساء وتجربة الختان والتوقعات الاجتماعية لعذرية الفتيات والرغبات غير المشبعة للمرأة المسلمة خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

قصص أليفة لا تستنكر هذا الحرمان الذي تعانيه المرأة وحسب، بل تشكك كذلك في ميل الرجال إلى الحصول سريعاً على رغبتهم، لترفع صوت المرأة في طلب ما يحصل عليه الرجال، مشيرة إلى التفوّق الذكوري المستمد من التفسيرات الخاطئة للقرآن والتعاليم الدينية الإسلامية.

"أنا أحتفل بالجسد في كتاباتي ولكن... بطريقة مهذبة"

تستوحي أليفة قصصها من حق المرأة المسلمة في حياة عاطفية وجنسية كاملة، وهي انعكاس لحياتها الزوجية. في "عيون بهية" تتساءل بهية بسذاجة خلال عملية ختانها: "هل مات؟"، لتتابع متسائلة: "من هو الرجل؟"، وهو سؤال يحمل دلالة استعمارية على هذا الجسد الضئيل، سؤال غاضب وواعٍ بطبيعة حياتها التي سيدخلها الرجل الذي لا تعرف من هو.

يحدث السرد داخل وعي بهية "العجوز" التي تروي لابنتها قصتها وحياتها الجنسية، وفي سردها دراسة لجسد الرجل "الزوج" وكأنّ بهية تعيد السيطرة على جسدها بعد الكثير من الانتهاكات التي تعرضت لها، سواء حرية الوصول إلى النشوة الجنسية والتي حرمها منها زوجها على الدوام، أو حرية عيش العوالم الطبيعية. بهية تختصر ألم النساء ومعاناتهن، فهي لا تبكي لأن الرب خلقها امرأة، إنما هي حزينة لأنها لم تعش حياتها كامرأة.

ورغم أن كتابات أليفة هي نسوية، إلا أنها تعارض النسوية الغربية انطلاقاً من إيمانها بالأسرة والحياة الزوجية كما يقدّمها القرآن، حيث ترى أن الرجال يجب أن يمارسوا سلطتهم على النساء في الزواج بشكل أكثر مسؤولية مما يفعلون، منادية بالمزيد من التثقيف الجنسي للنساء.

أشعر بالحزن لأني امرأة

لا يمثل الاغتصاب أحد أوجه الجسد الاجتماعية المتعلقة بسلطة الرجل وحسب، إنما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة. تقوم الكثير من المواجهات في الحروب على اغتصاب وسبي نساء العدو.

أثارت الكتابات الحسية للكاتبة المصرية أليفة رفعت، خلال الستينيات، جدلاً كبيراً، وصُنفت كرائدة في الكتابة المثيرة، حيث تناولت الحياة العاطفية والجنسية للمرأة داخل العلاقة الزوجية ومنهاالرغبات غير المشبعة للمرأة  وتجربة الختان والتوقعات الاجتماعية لعذرية الفتيات 

في روايتها القصيرة "تاء الخجل" تحكي الكاتبة الجزائرية فضيلة فاروق، صعوبة ما تعانيه الفتيات في المجتمع الجزائري، والتقاليد والعادات التي تأسرهن، إلى جانب قصة صحافية تُكلّف بإعداد تحقيق بعد تحرير عدد من الفتيات من يد الجماعات المسلحة، واللواتي تلتقي بهن في المستشفى، متحدثةً بشكل أساسي عن الاغتصاب خلال الحرب الأهلية الجزائرية في التسعينيات، بين النظام الجزائري وجماعات مسلحة تنتمي للإسلام السياسي والجبهة الإسلامية للإنقاذ (GIA) ، التي نشرت في بيانها طموحها في توسيع دائرة انتصاراتها بقتل واغتصاب نساء العدو واغتصاب كلّ من يمنح مأوى لهن.

تقول الإحصائيات أن حوالي 1013 امرأة وفتاة تعرضن للاغتصاب بين عام 1994 وعام 1997 إضافة إلى ألفي امرأة منذ عام 1997. تقدم فضيلة من خلال "يمينة" نموذج الفتاة المغتصبة والمدمّرة، العاجزة والمنتظرة موتها وأقصى طموحها أن تكون عائلتها قربها.

تبدأ فضيلة بالاعتناء بها، متجاهلة أمر التحقيق الذي كُلّفت به، فما تشاهده أمامها هو أكبر من أي كتابة صحفية كما تقول، وهكذا تعتني فضيلة بيمينة، تزورها، تجلب لها الكتب وقميص نوم عليه أرانب، تبدو يمينة كما لو أنها تتحسّن حقاً، تتغيّر ردات فعلها من خلال الكتب التي تقرأها ومع زيارات فضيلة المتكررة لها، لكنها في يوم تموت ببساطة، تموت لشدة ما نزفت، فقد كان الأوغاد قد مزقوا أحشائها تماماً، "أشعر بالحزن لأني امرأة تحمل وسائل تهديد حريتها عبر جسد لم تختره".

"من يشتهي جسدي يحبني، من يحب جسدي يشتهيني"

وعي الكاتبة العربية بالمواجهات الصعبة التي تتعرّض لها المرأة في كل مكان يظهر، تروي الكاتبة المغربية عائشة البصري في "الحياة من دوني"، اغتصاب نساء قرية "نانجينغ" الصينية خلال الحرب العالمية الثانية، حيث اغتُصبت عشرون ألف امرأة في ستة أسابيع، في واحدة من أبشع الجرائم الإنسانية التي عُرفت بـ"مذبحة نانجينغ"، جاعلة من المغرب بداية ونهاية للرواية، لتدور أحداث الرواية ما بين بين المغرب والصين والفيتنام، من خلال توأم من الفتيات، تسلك كلٌ منهن طريقاً خاصاً بجسدها الذي يخضع بشكل أو بآخر للتغيرات السياسية من حولهن، سواء بإرادتهن أم لا.

هكذا تتحول الكتابة إلى عمل تحرري أو كما تقول الكاتبة السورية خالدة سعيد، هي وعي وفضح للتجارب والمعاناة والتخيلات والاحتياجات والأحلام التي تم إسكاتها وإخفاؤها منذ فترة طويلة، فتتحول القدرة على إعادة السيطرة على الجسد الأنثوي من خلال كتابة أقسى تجاربه إلى مزيد من وعي النساء تجاه أنفسهن واحتياجاتهن، وهذا ما تؤكد عليه الباحثة مالتي دوغلاس، فترى أن الكاتبات المعاصرات في العالم العربي لديهن تطور واضح يكسر السيطرة على أجساد النساء، وخاصة في أواخر القرن العشرين.

من يحب جسدي يشتهيني

في كتاب "برهان العسل" لسلوى النعيمي، تحكي البطلة مغامراتها الجنسية في تجربة جديدة، في حين كان الرجل غارقاً في سرد مغامراته الجنسية، أتت سلوى لتقول: "والنساء لديهن مغامراتهن كذلك"، لتروي قصتها إلى جانب قراءتها تاريخ العرب الجنسي وإعادة صياغته بكثير من الأناة والمتعة والشهوة.

تتنقل البطلة من رجل لآخر في بحث دائم عن شهوتها، إلى أن تصل إلى رجل تدعوه "المفكّر"، يختصر المفكّر كلّ ما مرت به من علاقات سابقة، فيجمع بين معرفته العميقة بجسدها إلى جانب فكره الواسع. المفكّر هو محصلة كلّ ما مرّت به البطلة.

نتساءل في النهاية هل هو رجل حقيقي، أم هو ما صنعته امرأة قرأت تاريخ الباه بنهم ودرست جسدها وجسد الآخر؟ الكتاب ليس رواية جنسية وحسب إنما هو تقديم مختلف لطريقة إدراك المرأة جسدها وفهم رغباتها والمشي خلفها بحرية كاملة، كاسرة كلّ التابوهات، فيتداخل الجنس بالفكر والحب، في الحقيقة الكتاب بذاته صورة عن تداخل الفكر بالجنس، واللغة مزيج من رغبة الكاتبة في صنع عالم النساء الجنسي بالكلمات، عالم يخصهن بعيداً عن النمطية السائدة حولهن.

كتابة الجسد تعني إعادة تصوره بمنظور أنثوي، فالبطلة تستعيد كتب التاريخ عن الجنس فتحفظ كلمات عن الوضعيات الجنسية، وهي مفردات غامضة وقديمة، لا يعرفها من حولها، فتتحول إلى رموز في لغتها اليومية، "كيف يمكنك أن تلفظ كلمات كالمُقمّع والكباشي والكوري واللوي وخياطة الحب في جملة مفيدة؟ كان جهل الآخرين عوناً على اللعب، نستغله دون حرج".

تحدد سلوى علاقتها بجسدها بحزم فهو وعيها وذكاؤها وثقافتها، فالمرأة لا تحب إلّا بجسدها ولا تستطيع إدراك الحب إلا من خلاله وبه، "من يشتهي جسدي يحبني، من يحب جسدي يشتهيني".

الجسد الأنثوي المريض

على الرغم من احتواء الأدب الغربي على نماذج مختلفة وغنية لأمراض النساء وإعاقاتهن الجسدية ومراحل المرض والشفاء التي يختبرنها، إلا أنه تمَّ تقديمه بالحد الأدنى في الأدب العربي.

تحاول عبير حمدار، الدكتورة في اللغات والثقافات الشرق أوسطية في كتابها "عذاب الجسد الأنثوي: المرض والعجز في الأدب العربي المعاصر"، دراسة كتابة النساء للجسد المريض منذ 1950 حتى العصر الحديث، لكن العثور على جسد الأنثى المريض في كتابات النساء أكثر صعوبة منه في كتابات الرجل، مع ذلك فهنالك تحول سردي انتقلت فيه المرأة من إخفاء هذا الجسد المريض نحو إظهاره وكتابته.

استخدم الكتّاب الرجال جسد المرأة المعذب/ المريض/ المعاق بين عامي 1950 -2000، في الغالب كدلالة على الأمة المريضة أو الوطن المهزوم، أي أنهم لم يقدموه بوصف نوعاً اجتماعياً بحاجة إلى اكتشاف وتقديم عوالمه الخاصة.

يصمّم المؤلفون شخصياتهم النسائية المنكوبة إما على أنها ملائكة لطيفة وطويلة المعاناة في المنزل أو كنساء ساقطات، وفي كلتا الحالتين من المفترض أن تُقرأ النساء على أنهن تجسيد صامت للأمة في الأزمات، كما أنهم وضعوا المرأة المعوقة أو المريضة جسدياً خارج الأحداث الرئيسية للحبكة، مع إعطائها الحد الأدنى من الصوت السردي، كغسان كنفاني وزياد القاسم وحنا مينا ويوسف السباعي، في روايته "رجال في الشمس"، يتزوّج أحد شخصيات غسان كنفاني من امرأة فقدت قدمها في إحدى الغارات الإسرائيلية، طمعاً في الحصول على سقف والتخلص من خيم اللجوء.

"والنساء لديهن مغامراتهن كذلك"....وهو ما استعرضته سلوى النعيمي في كتاب "برهان العسل" الذي تحكي فيه عن مغامراتها الجنسية في تجربة جديدة فيها الكثير من الأناة والمتعة والشهوة

تميل الكاتبات إلى التركيز على النساء العواقر بشكل أساسي كرواية "ليلة وحيدة" لكوليت خوري، حيث تعاني بطلتها رشا من العقم الذي لا يشكل عيباً جسدياً بالنسبة لها بقدر ما يشكل فشلاً في ارتقائها إلى مستوى دورها المحدد في المجتمع، وهذا يعني أن الجسد هنا هو شكل خطاب الآخرين وتطلعاتهم الاجتماعية والوطنية، وهو ما نجده بشكل خاص عند النساء الفلسطينيات اللواتي يتوقع منهن أن يكنَّ أمهات للأمة، فالولادة هو عمل مقاومة والعقم هو فشل اجتماعي.

أهم من كتبن عن جسد المرأة المعذب/المريض الكاتبة اللبنانية حنان الشيخ، والسوريتين هيام نويلاتي وكوليت خوري، والعراقية علياء ممدوح، والمصرية ميرال طحاوي، حاولت أولئك الكاتبات تقديم جسد المرأة المريض بعيداً عن فكرة الأسطورة أو المثالية المطلقة، لكن للأسف لم يتم تمثيله في الغالب إلا من خلال المجاز المعروف للأم المريضة، كأعمال كوليت خوري وحنان الشيخ وهيام نويلاتي، لكن مع تجريد الذات الأنثوية من إحساس الفاعلية والجوهر الفردي وخلط الجسد مع التركيبات التاريخية والثقافية وحتى الدينية.

ترى عبير حمدار أن رواية "حبات النفتالين" لعلياء ممدوح هي مرحلة جديدة في تمثيل الجسد الأنثوي المعذب، فهي تسمح للأم المصابة بالسلّ بالتحدث إلى المجتمع الذي يستعبدها بصوت ابنتها المتمردة والقوية. 

أما الأعمال المعاصرة فقد بدأت بكسر هذه النمطية في تقديم جسد المرأة المريض ليحضر هذا الجسد بقوة في سياقه التاريخي والثقافي، يستكشف الأدب بعد عام 2000 قضايا الذات الأنثوية والقوة الحسية من خلال الجسد المعذب، ولا سيما أعمال حسن داوود وبتول الخضيري وهيفاء بيطار، حيث غدت المرأة قادرة على تمثيل ذاتها الأنثوية بمعزل عن الخطابات الاجتماعية والسياسية.

تروي الروائية السورية هيفاء بيطار في روايتها "امرأة من هذا العصر" تجربة امرأة مصابة بسرطان الثدي، خضعت لعملية استئصال الثدي بشكل عدواني، لكنها تستخدم هذا المرض كحيلة روائية، تحكي من خلالها عن الرجال الذين مروا في حياتها فيغدو الثدي المريض طريقاً لتذكر حياتها الحميمية.

الجسد المريض كالجسد الشبق والمغتصب والمحروم، كلها أوجه لامرأة تحارب لأجل مكانها، لأجل أن يكون جسدها لها وحدها بعيداً عن القضايا الكبيرة والصغيرة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image