منذ كانون الأول/ ديسمبر العام الماضي، وأنا أعدّ نفسي مولوداً جديداً على قيد اكتشاف العالم، لأنني خرجت من مدينة غزة. كُتب لي أخيراً السفر بعد محاولات عدة. ومن السخرية أنني خرجت في ذروة أزمة كورونا، حين كانت صعوبة السفر على أشدها، ولم تكن مشاكل معبر رفح البري قد حُلت بعد. فرأيت أنني نجوت من حصار كبير، ومصاعب حياتية أكبر. ومنذ وطِئتُ ساحة البوابة المصرية لمعبر رفح، شعرت أني طائر سنونو هرب من قفص، وأصبح أخيراً قادراً على ممارسة ما خُلق من أجله؛ التحليق من دون حساب المسافات، ومن دون تفكير بحدود مقيدة.
فهمت أني انطلقت لحظة ركبت الطائرة، وأدركت ما تعنيه لي غزة، مذ هبطت في مطار إسطنبول. صُدمت بالمساحة، فقد كان المطار واسعاً كأنه لا ينتهي. كأنه ثلاثة أضعاف قطاع غزة كاملاً. ولولا الأسهم المرسومة على الأرض، وكلمة "EXIT" (خروج)، لتهت حرفياً. كدت أشتم لحظة قراري السفر، أنا أبحث عن حقائبي بين أرتال الحقائب. ترددت في داخلي كلمات التأنيب كلها، لأنني أدركت في تلك اللحظة أن العالم أوسع بكثير من غزة. ثم وجدت الحقيبتين، وخرجت.
فهمت أني انطلقت لحظة ركبت الطائرة، وأدركت ما تعنيه لي غزة، مذ هبطت في مطار إسطنبول. صُدمت بالمساحة، فقد كان المطار واسعاً كأنه لا ينتهي. كأنه ثلاثة أضعاف قطاع غزة كاملاً
خرجت لأبدأ فصلاً آخر تماماً. بدوت منبهرة، وتكاد عيوني أن تنفلق، وهي تأخذ على اتساعها صوراً متسارعة لكل ما يلوح من معالم إسطنبول. مساحات واسعة لم أرها يوماً في حياتي على الإطلاق. وخزت قلبي وهي تخبرني أن هناك عمراً ضاع من عمري، وأن الناس هنا ليسوا كالناس في وطني. ثمة أشياء مختلفة وعميقة في روح كل عين يقع بصري عليها. وخزت قلبي غابات، منتزهات، بحيرات، طرق طويلة، ووسائل نقل حديثة، وطائرات سياحية في السماء تجول من دون خوف. ترعبني الطائرات كلما نظرت إليها، لأنها، في ذاكرتي، مرتبطة بأزيز الحرب، وطائرات الـ"إف 16" المدمرة.
عندما حللت في إسطنبول، سكنت في شارع يشبه شوارع مدينة غزة. وهناك كان عليّ المشي لمسافة قبل الوصول إلى "المترو-باص". ومن ثم كان عليّ أن أستخدم خرائط غوغل كي لا أضيع، وأحفظ المحطات، وإلى أين تؤدي كل واحدة منها، وفي أي محطة أنزل كي أنتقل مرة أخرى بالـ"ترام"، أو بـ"المترو". وبدا هذا كله في الشهر الأول أمراً خانقاً وعصيباً، لأن شبكة التنقل كثيرة التداخل، عدا عن أن الطرق طويلة جداً، وقد يستغرق الأمر ساعات حتى تصل إلى مكان تبتغيه. بينما في غزة، تقلّني سيارة تاكسي من الشمال إلى الجنوب خلال عشر دقائق.
ثم اكتشفت أن لدي مشكلة مع المساحات الواسعة، ربما تكون مرتبطة بهوسي الشديد بالوقت، فمسافة أطول تعني وقتاً أكثر، وأنا أحق بوقتي، أو ربما هو اعتيادي على مساحة قطاع غزة الصغيرة جداً. لو كان الأمر لمرة واحدة، مثل السفر، لكان يسيراً، لكنها حياة يومية، وقد يضيع يوم كامل فيها في التنقل من أجل شيء واحد فقط.
أُصبت بالصدمة من العالم الخارجي، ووتيرته السريعة -التي قلت عنها إنها أسرع من الفرّامة، مقارنة بحياة معلّقة في غزة حيث الأيام تتشابه ولا شيء يحدث- وعمرانه الهائل، والمسافات الكبيرة. قضيت نحو ستين يوماً تقريباً، لا أخرج إلا للضرورة. لهذا كان معظم يومي يتقوقع في شقة مليئة بالأعطاب والمشاكل، وكنت أحاول ألا أتذمر، وأبادر إلى حل ما يمكن، من دون انتظار شركة تصليح، ما دفع شريكاتي -وكنّ من جنسيات أخرى- لتوبيخي قائلات: "إنتِ مش بغزة. وهذه ليست مسؤوليتك، على صاحب الشقة أن يأتي بشركة تصليح ليصلح المشاكل كلها لتكون الشقة عشرة ع عشرة".
كانت تلك هي المرة الأولى التي يقول لي أحد فيها بشكل صريح: "إنتِ مش بغزة". وكانت تلك صفعة مدوية وعميقة لروحي. جعلتني أتوقف عندها لثلاثة أيام، وأنظر إلى غزة من بعيدكانت تلك هي المرة الأولى التي يقول لي أحد فيها بشكل صريح: "إنتِ مش بغزة". وكانت تلك صفعة مدوية وعميقة لروحي. جعلتني أتوقف عندها لثلاثة أيام، وأنظر إلى غزة من بعيد، من بؤرتي. أنظر إليها مثل طفلة تغربت عن أمها، ثم أصبحت تتأمل "التربية" التي أنشأتها عليها، والظروف التي شكلتها نفسياً، وبنيوياً، وفكرياً، حتى خلصت إلى ما هي عليه.
لقد كانت غزة أماً جبارة لا مثيل لها بين أمهات العالم، إذا اختنق أبناؤها لطول بقائهم في حضنها، أطلقت سراحهم لساعتين على شاطئ البحر، وبقيت تراقبهم كي لا يغرقوا، أو يبتلعهم الموج في غفلة منها. لم يكن لغزة، ولوقت طويل، سند يشد من أزرها؛ وجدت نفسها على مدار سنوات وحدها في حماية الأبناء، واللاجئين إليها من مدن أخرى، تحيطهم بما تستطيع، وبما يجود عليها زمان حاربها فيه القريب قبل الغريب، كأن العالم اتفق على معاداتها، فأغلق مداخلها كي لا تتنفس، لكنها تنفست على طريقتها الخاصة. سارت لسنوات وحيدة، لا ترافقها إلا ذاتها، وصبرها، وجلدها، يعذبها تموز بحرارته العالية، ويقص برد كانون الأول/ ديسمبر عظمها. لا كهرباء، ولا ماء، ولا سبيل للإنارة، والقوت يأتي يوماً، ويختفي أو يشح أياماً. إذا تمنى الأبناء، دفعتهم للعمل بالموجود، بدلاً من التمني. علمتهم صنوف العلم، وأمطرت رؤوسهم بشتى المعارف، وكبر الأبناء بمعارفهم، فودّوا لو يعرف العالم بما عرفوا، وودوا لو يكونوا قناديل تصدّرها أمهم إلى مدن العالم ودوله، لكن لا طريق، ولا سبيل. كان العجز، وقلة الحيلة، قاهرَين لأبناء غزة، على الرغم من أن سهام أعينهم كانت ترنو إلى ما بعد مساحة "الحضن"، وتتلمس أبعاد ما هو خارج الإطار الذي يتواجدون فيه.
أدركت بشكل عميق معنى أن تكون غزّياً، وهذا يعني أن تكون مبادراً بالفطرة، وأن تفكر بطريقة مختلفة، وتنظر إلى الأمور نظرة جوهرية، فلا يهمك كثيراً ما هو ثانوي، لأنك تسعى إلى الأساس. فإذا ما توفر هذا، شكّل فيض النعيم في بقعة مقطوعة عن العالم، ومحاصرة من الاتجاهات كلها.
لكن في العالم لا تجري الأمور في هذا الاتجاه، لأن الصورة الطبيعية للأشياء هي أن تكون "عشرة على عشرة"، كما أخبرتني شريكتي في السكن؛ الكهرباء غير مقطوعة، الماء موصول، العمل متوفر بوفرة، الجسور متواجدة، الترفيه بأعلى مستوياته، والسفر متاح في أي وقت. ذلك هو الطبيعي. تساءلت: هل نعرف، أو هل جرّبنا نحن ما هو الطبيعي في هذا العالم؟
لا يعرف العالم ما هو الطبيعي لدينا، ولا نعرف نحن ما هو الطبيعي لدى العالم. بالنسبة إليّ كان من الطبيعي أن تنقطع الكهرباء، وأن نمضي أيام حر لاهبة من دون أدوات تبريد، أو أيام شتاء باردة من دون تدفئة
لا يعرف العالم ما هو الطبيعي لدينا، ولا نعرف نحن ما هو الطبيعي لدى العالم. بالنسبة إليّ كان من الطبيعي أن تنقطع الكهرباء، وأن نمضي أيام حر لاهبة من دون أدوات تبريد، أو أيام شتاء باردة من دون تدفئة -مع أننا كنا نشعل بعض الجمر، لكنه كان ينطفئ بسرعة- كان من الطبيعي أن ينقطع الوقود والغاز لفترة، فنصبر إلى أن يتوفر، وعندما تنقطع المياه، نجلبها من أماكن أخرى. أما الكهرباء، فحللنا مشكلتها بطرقنا الخاصة، إذ أصبحت الأسلاك الشعشبونية زينة أسقف غالبية البيوت الغزّية. تلك الأسلاك التي تومض بضوء ضعيف يكاد يعمي بضعفه الأبصار، موصولة ببطارية صغيرة، عندما تتلف، أو تنتهي، تعيش العائلة أياماً بلا إنارة قبل الحصول على شيء آخر.
عندما أقول غزة، أتذكر ملح البحر، الشبيه بملح الأعين، وصوت الموج الذي تكسرت عنده آمال الآلاف من الشباب، والرمل الذهبي الذي حمل آثار الآلاف من أقدام الصبايا، والطائرات الحربية التي تنسف كل شيء، والدمار الذي لا يخلو منه شارع، ثم القوة الجبروتية لحب الحياة، وكأن شيئاً لم يكن بالأمس. لا وجع، ولا حزن، ولا فقد.
بعد ستين يوماً أمضيتها في شقة عابسة، نزلت بقلب قوي إلى ساحات إسطنبول. وكنت قد انتقلت إلى منطقة الفاتح، وأصبحت أخرج بعد أن تجاوزت صدمة المكان. أصبحت أقيس كل شيء بمقياس غزة؛ أحوّل الأسعار في ذهني سريعاً من الليرة إلى الشيكل، لأرى هل ما أشتريه كان غالياً أم رخيصاً. أشبّه الأماكن بغزة؛ فأسميت المناطق المتعارف عليها في إسطنبول بالمتعارف عليها في غزة. تكلمني صديقتي، وتسألني: "وين إنت". فأجيبها: "في الساحة"، بدلاً من السوق المصري، ومرة أخرى أقول لها إنني في الميناء بدلاً من "أمنينو". وأصف الترام، والمترو، كما أصف ملاهي السندباد "القديمة" في غزة، لكن "على أكبر حبتين". فجولة القطار هنا لا تنتهي في ظرف خمس دقائق، وقد تمتد لساعات. أقيس الأشياء كلها بمقياس غزة، ومسطرتها، وشوارعها، وأماكنها، وأكلاتها، وأسواقها، وحكاياتها، وذكرياتها، لأدرك أنها تسير في دمي، والخلاص منها مستحيل. إنها علاقة أمومة أبدية. تسأم صديقتي وتقول لي: "إنتِ مش بغزة، إنسي إمها لغزة، هاي بلد ثانية"!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع