يحرص عدد لا بأس به من الناس على أن يحفظوا أولادهم القرآن، بل وتُقام لهذا الحدث مسابقات وتكريمات واحتفالات، وما إن يتم الشخص حفظ القرآن حتى يبدأ في التلميح أينما ذهب وحلّ بأنه "حافظ للقرآن"، لدرجة أن فلاناً قد يتقدم لخطبة إحدى الفتيات، فحين يسأل عنه يرد: "يكفي حافظ المصحف".
إلى هنا ولم تكتمل الرواية، فعلى قدسية وروحانية ما سبق، إلا أن هناك من يعترض على أن يُحفَظ القرآن في الصغر، فقد تحدث رصيف22 لمجموعة من حفظة القرآن في الصغر، عبروا عن معاناة نفسية واجتماعية، والسبب أنهم أجبروا على حفظه في سن صغيرة، كانوا فيها أطفالاً، لديهم الكثير من المغامرات ليعيشوها بعيداً عن أجواء تتسم أحياناً بالشدة والغلظة من قبل المحفّظين.
"تعرضت لكذبة وخديعة"
"أرسلتني والدتي لحفظ القرآن في الكتاتيب "مكان صغير لتعليم الصغار حفظ القرآن، مبادئ القراءة، الكتابة، الخط والحساب" ويشرف عليها شخص يسمى "المعلم"، وكنت في الخامسة من عمري، وهناك تم تحفيظي القرآن بالضرب بالعصا، وفي سن العاشرة كنت قد أتممت حفظه، وكنت أعتاش من قراءة القرآن في المقابر، وكان مصدر رزق عائلتي الوحيد"، يقول خليل شملالي (49 عاماً)، وهو مدرس يسكن في القاهرة.
أشرف على تحفيظ خليل شيخ كفيف وصفه بـ"المتسلط"، يقول: "كان لا يتورّع عن استخدام العصا عند أقل حركة نبديها أو خطأ نرتكبه بقصد أو بدون قصد، كانت تجربة سيئة ومؤلمة".
أثرت تجربة خليل على مشاعره الدينية طوال حياته، بدأ يحس بوجود "ارتباط وثيق بين الدين والتعذيب، لدرجة أنني أصبحت أخشى كل شيء له علاقة بالدين مثل الاقتراب من المسجد".
أثرت تجربة خليل في حفظ القرآن صغيراً على مشاعره الدينية طوال حياته، بدأ يحس بوجود "ارتباط وثيق بين الدين والتعذيب، لدرجة أنني أصبحت أخشى كل شيء له علاقة بالدين"
"ما إن بلغت العشرين حتى أصبحت متشدّداً، إلا أنني بعد إكمال دراستي تبين لي أن حقيقة الدين لا علاقة لها بضرورة حفظ القرآن، وأشعر الآن أني تعرضت لكذبة وخدعة كبيرة، ونصيحتي لا تلزموا أطفالكم بحفظه في سن صغيرة، فهو حمل أكبر من طاقتهم".
ولايزال القرآن حاضراً في حياة خليل، يذكر مرة أنه تعرض لضيق في التنفس، وصادف طبيباً، فسأله: "طالما أن القرآن شافٍ لماذا أعاني من ضيق في التنفس"، فأجابه: "لو هذا الكلام صحيح لما اكتشف العرب الأعشاب والعلاج".
أما محمد الشرش (22 عاماً) وهو خريج جامعي من غزة، فقد حفظ القرآن في سن صغيرة، لم يستغرق منه أكثر من عشر سنوات، ولكن بعد أن دخل مرحلة الشباب أحس بأن حفظ القرآن تحول إلى "وصمة عار اجتماعية، كلما بدر مني موقف ما، قالوا لي: معقول أنت حافظ القرآن، وكأن حافظ القرآن يتحول لنبي".
ويضيف: "في يوم كنت أسير برفقة صديقي وأنا مراهق، وما إن مرت أمامي فتاة جميلة وفاتنة حتى طار عقلي، وحاولت مغازلتها مثل سائر الشباب في سني، وفي كل مرة كان يزجرني صديقي بالقول: إنت حافظ قرآن، عيب عليك".
ويشعر محمد بالندم على طفولته التي حُرم منها وهو يحفظ القرآن، فأقرانه الآن لديهم ذكريات أكثر جمالاً وتشويقاً مما اختبره في بواكير حياته، يقول: "حرمني من طفولتي، واستنزف طاقتي العقلية والعصبية بشكل مبكر جداً".
"فعلياً لم أكن مخيّراً، فعائلتي هي من صمّم على ذلك، وكان لا حول لي ولا قوة سوى الإذعان"، ينهي محمد حديثه لرصيف22.
"خدعنا بحفظه القرآن"
تقدم رجل حافظ للقرآن لخطبة إيمان ذات السبعة عشر ربيعاً، تسكن في الأردن، في بلاد لا زالت تطبع مع زواج القاصرات بدعوى الحفاظ على التماسك المجتمعي والتقاليد، وغالباً ما تقع فتيات الفئات المتواضعة مادياً ضحية هذا النوع من الارتباط.
"والدي اعتقد أن شخصاً حافظاً لكتاب الله سيحفظني".
تقول إيمان: "أنا من عائلة بسيطة، وقبل سنة تقدم لخطبتي شخص، ووافق والدي عليه، لأنه مثلنا ليس بميسور الحال، ولم يكن قادراً على أن يدفع المهر، وما شفع له عند والدي هو أنه حافظ لكتاب الله، فوالدي اعتقد أن شخصاً حافظاً لكتاب الله سيحفظني، ويخاف الله".
"انخدعنا فيه، فقد كان شخصاً متزمتاً، سيئ الخلق، ولا يتمتع بأي من الأخلاق، وفي كل مرة كنت أقول له: أين القرآن الذي تحفظه، أم أن الأمر مجرد استعراض اجتماعي؟!".
تنصح إيمان قريباتها، وصديقاتها بعدم التعويل على حفظ الرجال للقرآن، وبات يداخلها شعور أن حافظي القرآن يشبهون زوجها، يحاولون خداعها، تقول ضاحكة: "ذهبت في يوم للبقالة أشتري بعض الأغراض، وما إن دخلت المحل حتى وجدت صاحب البقالة يقرأ القرآن، فما كان مني إلا أن غادرت المكان فوراً، خوفاً من أن يقوم هو الآخر بخداعي".
يدافع الدكتور عبد العزيز عودة، خطيب وإمام مسجد في غزة، عن حفظ القرآن في الصغر، ويرى أنه تقليد إسلامي أصيل، أخرج مفكرين ومشايخ وأدباء كثر، يقول لرصيف22: "كل علماء الدين النوابغ من المجتهدين، حفظوا القرآن صغاراً، كأبي الزهراء والغزالي، وكثير من الأدباء، مثل طه حسين والرافعي وغيرهما".
يشعر محمد بالندم لحفظ القرآن في سن صغيرة جداً، فأقرانه الآن لديهم ذكريات أكثر تشويقاً، يقول: "حرمني من طفولتي، واستنزف طاقتي العقلية والعصبية مبكراً، ولكني لم أكن مخيراً"
ويشدد عودة على أن حفظ القرآن في الصغر مستحسن، و"ليس فرضاً دينياً أو إلزاماً"، منتقداً أسلوب بعض المحفّظين القساة، مشيراً إلى أن "الأسلوب الليّن" هو الأفضل.
ولا يرى عودة في حفظ القرآن كاملاً استنزافاً لقدرات الطفل العقلية، يقول: "ربما كان تعليم بعض اللغات الأجنبية للطلاب الصغار فيه استنزاف أكبر، وكذلك بعض المقررات الدراسية التي ينوء بها الأطفال هذه الأيام".
وكانت الكاتبة المصرية والناشطة النسوية، نوال السعداوي قد حذرت في مقال لها من أضرار تحفيظ القرآن للأطفال، كتبت: "سنوات العمر الأولى هي فترة التكوين العقلي والنفسي، حيث ما ينغرس في النفس يبقى، وما يتشكل عليه العقل يدوم، وعادة يبدأ تحفيظ القرآن للأطفال من سن الرابعة، ولا أصل لهذا في الدين".
وشددت على رفضها لتحفيظ القرآن لأنه "مدمر للعقل والنفس، وضرره على الشخصية الإنسانية دائم وعميق".
من وجهة نظر تخصصية، يقول الأخصائي النفسي للأطفال عمر شلال (37 عاماً) من غزة إنه "لا ضير من تحفيظ القرآن للطفل في سن صغيرة، لكن أنبّه لضرورة أن تكون مدة الحفظ مناسبة لسن الطفل؛ لأنه من الظلم للطفل الصغير أن يجلس ساعات طويلة في مكان واحد؛ فإن ذلك قد يجلب له الملل، ويعطل قدرته على الحفظ والفهم".
ويحذر شلال من التأثير النفسي لاستخدام العنف في تحفيظ الأطفال القرآن، يقول لرصيف22: "إذا تم استخدام العنف مع الطفل في تحفيظ القرآن فإن ذلك يدمر النفسية، ويجعل الطفل يربط بين العذاب والقرآن، وهو ما لا نريده (كمسلمين)".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...