حسنًا، فيروز بخير. قادرة على الوقوف في منزلها إلى جانب ابنتها ريما الرحباني والابتسام أمام الكاميرا لتعطينا صورة ستمدّنا بالسعادة أو ستحرّك حس النقد لدينا. فيروز أيضًا كما يبان لنا مهتمّة بعدم إظهار التجاعيد على وجهها البالغ من العمر 85 عامًا، ومهتمّة أيضًا بتسريحة شعرها عبر إبراز غرّتها الخفيفة.
إذًا فيروز لم تزل بعد كل هذا العمر مهتمّة بمعايير الجمال، ولم يقتصر الأمر فقط على عملية تجميل أنفها التي أجرتها في صباها وعلى أزيائها.
فيروز تبتسم وهذا أمر كاف، وهي ليست مدينة لنا بشيء. فهذه المرأة التي صنعت تجارب خصبة في الموسيقى والأغنيات بإمكانها أن تظهر كما تشاء. أفكّر أنها بسبب الدقة العالية التي تملكها والتي يتحدّث عنها ابنها زياد في مقابلاته، كحين احتفظت بأغنية “كيفك إنت” لمدّة أربع سنوات قبل أن تقتنع بإطلاقها، لا بدّ أنها ليلة أمس نظرت مطوّلًا إلى الصورة قبل أن تعطي الإذن لريما بنشرها.
ربّما من المؤلم أن نرى فنّانة نحبّها تصير امرأة عجوزًا. ربّما السنوات التي مرّت عليها تذكّرنا أنها تمر علينا أيضًا. وأن صورتها التي ظهرت علينا في طفولتنا لم تعد موجودة، وبالتالي طفولتنا نحن ذهبت
ونُشرت الصورة، وفرح الجمهور وشكر ريما على هذه المفاجأة في ظل الانهيار الشامل في لبنان، وانقسم الجمهور أيَضَا بين من ألّه فيروز وبين من انتقد شكلها وإطلالتها ووصفها بالقبيحة، وطالب بالاستعانة بمصوّر محترف لأن الأيقونة التي حُفرت بذاكرتنا من خلال أعمالها ومسرحياتها يجب أن لا تظهر بهذا الشكل.
ماذا نريد من فيروز؟
لسنوات طويلة تمّت مقارنة فيروز بصباح، فالأخيرة تحدّثت عن حياتها الشخصية بأسلوب واضح. رقصت على المسرح. جاهرت بأسرارها وكانت بكل بساطة الصبّوحة. بينما فيروز تقوقعت في منزلها وفضّلت الوقوف أمام الجمهور بجسد جامد مكتفية بصوتها.
في إحدى مقابلاتها النادرة كشفت فيروز أن زوجها الراحل عاصي الرحباني لم يكن يسمح لها بالارتجال على المسرح، وأنه كان يفضّل أن تتّبع تعليماته الدقيقة. في المقابلة نفسها التي جرت ضمن وثائقي “قصّة عمر” تحكي أنه في رحلتهما الأولى إلى أميركا، خافت كثيرًا وأرادت أن تبكي قبل العرض لأنها ظنّت أن أحدًا لن يأتي لسماعها، فطلب منها عاصي أن تصعد إلى خشبة المسرح وتغنّى حتى لو كانت الصالة فارغة. تقول فيروز أيضًا إن كل الأعمال التي قدّمتها بعد وفاة عاصي قدّمتها كما يحبها هو، وأنه دائم الحضور معها على المسرح.
ننتقد جمودها وعدم كشفها عن الإنسانة نهاد حدّاد وحين تتنحّى عن دور الأسطورة، وتظهر كامرأة عادية من داخل منزلها تتعرّض أيَضًا للنقد
تكشف لنا فيروز بوضوح ولو خلال مقابلات قليلة عن رأيها الشخصي بأعمالها وبمسيرتها الفنية، وعن الطريق التي فضّلت أن تسلكه هي والذي أدّى في نهاية المطاف إلى نجاحها وإلى تتويجها كأيقونة، إلا أن الجمهور لا يقبل ويصر على اعتبارها امرأة خاضعة لم تملك رأيًا خاصًا. لكن أليست هذه الخيارات هي نفسها قراراتها؟
ننتقد جمودها وغيابها الدائم وعدم كشفها عن الإنسانة نهاد حدّاد وحين تتنحّى كما فعلت ليلة أمس عن دور الأسطورة، وتظهر كامرأة عادية من داخل منزلها تتعرّض أيَضًا للنقد، لأن المتلقي لا يريد أن تتغيّر أسطورتها.
في سنواتها الأخيرة، حين كانت صباح تعيش حياتها بالأسلوب الذي لطالما اتبعته، تعرّضت للسخرية وطالبها الجمهور بأن تحترم عمرها وأن تغيب عن الشاشة كي تبقى صورتها الجميلة في ذهن كل من أحبها. ليلة أمس حين كسرت فيروز حاجز الجمود الذي لطالما أراد الجمهور أن يخترقه، طالبها فريق من المعجبين بأن تحافظ أيَضَا على صورتها التي حفرتها في ذهن كل من يحبها. وبالتالي لا يوجد حل مع هذا النوع من الجمهور الذي لا يريد للأساطير التي كبر عليها أن تكبر معه، فهو يريد صباح كما كانت في صباها، ويريد فيروز كما كانت في صباها أيضًا، ويريد للفنّانات اللواتي من قماشة صباح وفيروز أن يبقين كما ألِفهم، كما أحبّهم وأن لا تتغيّر صورتم في ذاكرته.
للمفارقة هذه الانتقادات لا تطال إلا الفنانات، فصباح فخري حين تعرّض للانتقاد، كان النقد موجّهًا نحو أدائه وتاريخه الفني وليس شكله، وبالتالي لم تتم محاسبته بحسب معايير الجمال مثلما يحصل للفتيات والنساء ابتداءًا من الجسد وصولًا إلى ما يجب قوله أو فعله. ما حصل مع فيروز لم يوجّه نحو فنّها، كما حصل حين أطلقت ألبوم “ببالي” الذي تمّ اعتباره عملًا فنيًا لا يرقى لقدراتها وتاريخها، وهذا انتقاد عادي ومحق من قبل الجمهور لعمل فنيّ تلقّاه، وليس للشخص. ليلة أمس كان الانتقاد شخصيًا لسيدة يريدها الناس أن تكون جميلة بشكلها كما بأعمالها.
فيروز الأسطور فيروز السيدة المسنّة
ربّما من المؤلم ومن الغرابة أن نرى فنّانة نحبّها تصير امرأة عجوزًا. ربّما السنوات التي مرّت عليها وعلى شكلها تذكّرنا أنها تمر علينا أيضًا. وأن صورتها التي ظهرت علينا في طفولتنا لم تعد موجودة، وبالتالي طفولتنا نحن ذهبت. ولكي يبقى هذا الرابط يجب أن تبقى فيروز كما أدركناها في المرّة الأولى، صوتًا جميلًا خاليًا من الشوائب، وجهًا جامدًا لا تجاعيد عليه، وشعرًا طويلًا حريريًا بإمكاننا الشعور بثقله. أظنّ أن الخوف من صورة فيروز المسنّة هو خوف شخصي وذاتي، فصورتها دليل واضح على الوقت الذي مر علينا من خلالها.
هذه الانتقادات لا تطال إلا الفنانات، فصباح فخري حين تعرّض للانتقاد، كان النقد موجّهًا نحو أدائه وتاريخه الفني وليس شكله، وبالتالي لم تتم محاسبته بحسب معايير الجمال
في اختصار، فيروز امرأة عادية قدّمت أعمالًا استثنائية، بإمكاننا أن نحبها أو أن لا نحبّها، أن ننتقد كيفية صنع هذه الأعمال، لكنّها في النهاية وصلتنا ونجحت وشكّلت جزءًا من ذاكرتنا الجماعية التي نرفض أن تتغيّر أو أن تكبر بتغيّر مصدرها، وهذه الفكرة بصلبها ذاتية. فنحن نحب أن نحيك الأساطير وأن نحافظ عليها، وفيروز في ذهننا أسطورة صنعتها الأجيال، لكنها مجرّد امرأة قدّمت الكثير وأحبّت أن تقدّم لنا ليلة أمس، صورة تم عنونتها: “سيلفي والماضي خلفي”، ونحن فقط الذين لا نريد أن يكون الماضي الذي ألفناه معها خلفنا، ولا نزال نطالبها بأسلوب غير منطقي بأن تحافظ على الأسطورة عبر ظهورها في الحاضر كما ظهرت في الماضي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...