لماذا تبدو المرأة النسوية، أو كما أحب أن أقول، المرأة التي تحاول اكتشاف حدود نفسها، أو معارفها، غير لطيفة؟ لم يكن العالم معها لطيفاً لتكون لطيفة. سيسخر أحمق ويقول إن الكلب لطيف. ولكن هل سبق ورأيت كلباً يعض ابنه، أو يذبح ابنته؟ لا يحدث هذا في عالم الحيوان الحسي الغرائزي، ولكنه يحصل في عالم الإنسان، أو على الأقل في أجزاء من هذه البقعة التي نسميها العالم.
لا يزال الكثير من الرجال العرب، ولا سيما المثقفون منهم، ومن يدور في فلكهم، حين يتعاملون مع المرأة عموماً، والنسوية خصوصاً، لا يسمحون لها بأن تعبر عن نفسها من دون أن يكونوا أوصياء عليها، إذ إن شرط عدم الاعتداء اللفظي، أو النفسي على المرأة النسوية في مجتمعاتنا، هو أن تكون "تحت". وحين أقول تحت، أقصد تحت مظلة الرجل المعرفية والفكرية والعلمية والنقاشية والاقتصادية والسياسية، وكذلك النسوية.
في أحد النقاشات مع أحد المثقفين، وصل الحوار إلى فكرة النسوية. كان عليه أن يقول لي منوّهاً: "لا تفكري أنك في قضية النسوية، وحقوق المرأة، نسوية أكثر مني لأنك امرأة". قلت: ليس فقط لأني امرأة، بل لأني دفعت ثمن نسويتي يوماً، ولكنك قبل دقائق قلت لي: "هل تهيمنين على الحديث لأنك أنثى؟"، مستخدماً تعبير أنثى لوصف هيمنتي، بدل وصفي بامرأة نديدة له. من بين النساء والرجال جميعهم على الفيسبوك، اختار مثقف صفحتي ليعتدي عليّ بطلبه أن أشرح له ما كتبت، إن كان ما كتبت يحمل أي معنى من عند أبي محمود، أبي المعاني. أما قبلها بأيام فقط، فقد فضل أحد الأصدقاء إنهاء الحوار معي لأنني انتقدت قولاً لعلي الوردي تناول فيه المرأة بطريقة غير جيدة كمثال، متهماً إياي بأنني لم أفهم المقصود من الكتاب. كان عليّ أن أوافق على المثال، كي أفهم المقصود من الكلام، إذ لا يمكنني أن أفهم المطلوب من دون أن أنتقد التمثيل. أما الصديق الآخر، فرأى أن الله حين وزع اللطف، لم يمنحني منه شيئاً. كما لا أتحدث عن تعليقات جنسية أو جسدية لرجال آخرين؛ ماذا يجب أن أرتدي كسراويل داخلية، أو أن أضع على وجهي من مساحيق. الأمثلة السابقة كلها لرجال عرب مثقفين، متعلمين، وديمقراطيين، وليبراليين، ونسويين، يعيش بعضهم في أوروبا جسدياً.
حين يتعاملون مع المرأة عموماً، والنسوية خصوصاً، لا يسمحون لها بأن تعبر عن نفسها من دون أن يكونوا أوصياء عليها
هل هذه الأمثلة ذات قيمة، أم أن تجاربنا هي مقياس للواقع؟ وهل يمكن تعميمها؟ بالتأكيد لا، ليست مقياساً، ولا يمكن أن تعمم إلا حين إجراء استطلاع عن الأمر. لكنها دفعتني إلى أن أسأل نفسي أسئلة خاصة يمكن أن تعمم؛ كم هو حجم اللطف الذي كبرنا فيه؟ ولن أستثني الرجال هنا. لماذا يفترض الرجال أننا يجب أن نكون نساء لطيفات نمنح اللطف طوال الوقت كمهمة أنثوية مقدسة، بينما هم يجب أن يتلقوه فحسب؟ متناسين أننا أبناء البيئة نفسها، والوجع نفسه، والأمهات والآباء والأخوات والأخوة أنفسهم. هذا الافتراض الدائم للرجال؛ أننا جئنا من رحم آخر، وتربية أخرى، يحطم صورة كلينا -نساءً ورجالاً- أمام الآخر. لماذا في الوقت الذي يبحثون فيه عن اللطف لا يحاولون صنعه؟ بينما على المرأة أن تصنعه طوال الوقت.
حين تكبر، بوصفك فرداً، في بيئة تفتقد إلى أبسط الشروط الموضوعية للعطف والكرامة الإنسانية، يصبح اللطف مهمة قاسية، ولذلك فإننا نتصنعه. وكي لا أقول كلنا، أقول: بعضنا يتصنعنه. نحن نضحك لنصل إلى ما نريد. نلوّن صوتنا حين نريد شيئاً. لم يعلمونا شيئاً آخر أبداً. نضع الألوان، والكثير غيرها من الادعاءات الزائفة، فندّعي التواضع، واللطف، والمحبة، كفخاخ. في المقابل، يدّعي الرجال الكرم والحب والعطاء والتسامح. ما يجيد فعله الرجال والنساء في المجتمعات العربية، كله نصب للفخاخ العاطفية، للوصول إلى مآربهم الجسدية، ولإشباع عواطفهم التي لا يجيدون التعبير عنها. وأنا لا أستثني نفسي منهم أحياناً.
أما سؤالي الثاني: كم مرة اعتُدي علينا بوصفنا نساء، في البيت، وفي الشارع، وفي المدرسة، وفي موقف الباص، وفي الجامعة، وفي كل بيئة يُفترض أن تحمينا، وتمنحنا الأمان؟ أذكر أن أحد أساتذتي في قسم اللغة العربية، عندما رأى فتاة تتكلم مع زميلتها، لم يخرجها من القاعة بلطف، أو يوجه إليها ملاحظة، بل قال لها بالفم الملآن: "أدوسك بصباطي هون مثل ذبابة". كان من الممكن أن يكون الشخص المتعرض لهذا الموقف شاباً ذكراً. وليس المثال إلا لغاية وصف الثقافة الأمنية والإذلالية السائدة التي نكبر فيها، نساءً ورجالاً. لكن، بوصفنا نساء، فإننا مشبعات بها أكثر. هذه الثقافة الاجتماعية التي ترافقنا طوال حياتنا؛ منذ اليوم الأول الذي نخرج فيه من رحم أمهاتنا، إلى اليوم الذي نموت فيه، ولا تمنحنا خياراً آخر أبداً.
كم مرة اعتُدي علينا بوصفنا نساء، في البيت، وفي الشارع، وفي المدرسة، وفي موقف الباص، وفي الجامعة، وفي كل بيئة يُفترض أن تحمينا، وتمنحنا الأمان؟
هل يحق لنا أن نفتح أفواهنا؟ بوصفنا نساء في العالم العربي، من حقنا أن نفتح ساقينا فحسب، هذا ما تُعلمنا إياه أمهاتنا، وأسرنا، ومجتمعاتنا، وحكوماتنا. نفتح ساقينا "من فم ساكت"، لأي قضيب سيأتي، لا يهم أمن الخلف، أم من الأمام، تحرشاً أم اغتصاباً أم زواجاً، أم أم... ولكن لا أحد يطلب من الرجل أن يمسك ما بين فخذيه "من فم ساكت"، بالطريقة ذاتها. ولأستبق أي تعليق من الرجال عن واقع الرأي في العالم العربي، نحن متفقون تماماً أن أفراد المجتمع كلهم، رجالاً ونساءً، ممسوحو الكرامة، ومكمومو الأفواه من قبل السلطة القائمة، سواء أكانت سياسية، أم عسكرية، أم دينية. لكن السلطة الدينية بالتحديد، التي اختار الأفراد اتّباعها تماماً، مثلها مثل العرف الاجتماعي المهيمن. وهنا، من الناحيتين الدينية والاجتماعية، فالدور والوجود للرجل. أما الزوجة، أو الأم، أو الابنة، فهن كائنات لا وجود لهن في المجتمعات العربية. لا رأي للفتاة بزواجها، أو جامعتها، أو لباسها، أو حياتها. خذوا مثالاً حوادث النساء اللواتي قتلن في مصر من قبل أبناء الحي، أو الفتاة التي قتلت مع أمها في إدلب من قبل ابن خالها. أما الرجال في العائلة، فلهم جميعهم رأي في حياتها. وإذا تحدثت، تكون العبارة جاهزة دائما: "إنت ما خصك، إنت شو بفهمك، المرأة قد ما تتعلم محلها المطبخ، وبيت زوجها، إلخ...". فلا المرأة لديها إدراك لذاتها، أو قيمتها، أو وجودها، ولا الرجل، خارج هذه الثقافة، قادر على رؤية أن هناك كائناً آخر اسمه المرأة يرغب بفتح فمه قبل ساقيه، في محاولة للخروج من القهر التاريخي له، علمياً، وسياسياً، واقتصادياً، ووجودياً.
بالتأكيد، الحوار ليس أساساً، أو جزءاً أصيلاً من ثقافتنا؛ الثقافة القائمة على العنف والقمع. وهنا يمكنني أن أتفهم أن الحوار الذي قد ينتهي بيني وبين رجل، بشتمي، أو بالإعراض عن الكلام، أو بقول: "مفكرة حالك بتفهمي"، قد ينتهي بين رجلين بالعنف الجسدي أحياناً. وهو ما يشكل جزءاً من هوية الـ"نحن" التي يعيش فيها أبناء المجتمع؛ عاداتنا، تقاليدنا، حكومتنا، طائفتنا، ديننا، شرفنا. هذه الـ"نا" الفضفاضة، لا تسمح لأي فرد بالتنفس خارجها، أو الكلام بغيرها، أو حتى التمايز عنها. وتالياً. فإن أي هوية مخالفة للفرد تُعدّ تهديداً، وتصبح هوية امرأة، أو رجل مختلف، خطراً يجب قمعه وإنهاؤه.
لماذا يجب أن تتوقف النساء والرجال عن الكذب؟ يجب أن يتوقفوا عن الكذب وادعاء اللطف المزيف. وأسميه اللطف المزيف لأنه يحتمل الكثير من الامتهان لكليهما. فاللطف الحقيقي هو في احترام الكائن الإنساني بما هو عليه، من دون تزييف. تقول فرجينيا وولف في كتابها "غرفة تخص المرء وحده": "لو أن المرأة بدأت بقول الحقيقة، لترتب على ذلك أن تنكمش صورة الرجل في المرآة، ولانتقص ذلك من لياقته مدى الحياة، كيف يتسنى له بعدها أن يستمر في إصدار الأحكام، وتهذيب البرابرة، ووضع القوانين، وكتابة الكتب، والتفاخر بملابسه، وإلقاء الخطب في الحفلات والمآدب، إلا إذا كان في استطاعته رؤية نفسه على الإفطار كل صباح، وكل مساء عند العشاء أكبر من حجمه الحقيقي مرتين على الأقل؟".
هل يقبل أحد بهذا الكلام؟ ربما نعم، وربما سيعدّ البعض أن ما قالته فرجينيا اعتداء على الرجل، ودعوة إلى تحطيمه. في الواقع، الكلام الوارد هنا دعوة حقيقية إلى المساواة، واحترام الكرامة الإنسانية للآخر. فالصدق هو التعبير الحقيقي عن أننا نقيم للكائن الآخر الإنساني اعتباراً، فلا نجعله فوقنا، ولا تحتنا، بل متكافئاً معنا تماماً، بما يسمح لنا بمعرفته، وتقديره، وتقدير أنفسنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه