"قصرٌ منيفٌ تبرّع به أحد باشوات المدينة، مرصعة سقوفه بالزجاج الملون والمرايا وجدرانه بالفسيفساء، يطل على نهر، النهر الذي ورد في قصيدة السياب 'شناشيل ابنة الجلبي'، فوقه جسرٌ، في مجتمع أنهار، يخوض فيه الصغار برفقة قوارب صغيرة محمّلة بالتمر والعنب، وفي المساء يغلقون النهر بالشَّبَاك، ويصطادون السمك متتبعين لعبة المد والجزر"...
عندما تتأمّل وصف سعدي يوسف (1934- 2021) لمدرسته الأولى في أبي الخصيب، تعرف لماذا ظل قرابة ستة عقود يعتبر العراق فردوسه المفقود، رمّزه في خريطة تتدلى من قلادة على صدره، لازمته حتى آخر حياته.
فردوسٌ بردت معه قسوة الفقر، ومرارة اليتم دون الخامسة، واقتصاد الكلمات والمشاعر بين أفراد عائلة تؤويها أرملة صغيرة، في بيت أبيها العسكري بأحد سجون البصرة، وأخ أكبر يعادي الحكم الملكي ويطارده الأخير، في زمان كان يمكن للتلبس بالعاطفة بين الأشقاء فيه أن يودي إلى السجن الذي يخفره الجَدُّ نفسه.
"كان للبيتِ نهرٌ... وللنهرِ بيتٌ، وكنتُ سعيداً مع النهر: أدخُلُهُ... لا مِسَنّاةَ...
أدخلُ في النهرِ، مثلَ الضفادعِ أو حيّةِ الماءِ، أو مثل تلك السلاحفِ...
قد كانت التمرةُ الطُّعْمَ، وهي الطّعامُ لنا، نحن، أطفالَ ذاكَ العراقِ الذي غابَ
مَنْ جاءَ، في غفلة، لِيُشَيِّدَ هذا الخرابَ؟".
كانت الأيام، يقول يوسف في إحدى مقابلاته الصحفية أواخر التسعينيات، "هانئةً" رغم كل شيء، إلى أن قامت الحرب العالمية الثانية؛ وجيء بالضنك إلى العراق، فشحَّ حتى الخبز، وزاد المرض والجوع، واكتظت الزنازن.
عندما نتأمّل وصف سعدي يوسف لمدرسته الأولى في أبي الخصيب، نعرف لماذا ظل قرابة ستة عقود يعتبر العراق فردوسه المفقود، رمّزه في خريطة تتدلى من قلادة على صدره، لازمته حتى آخر حياته
ربما لذلك ظلّ سعدي يكره الحرب طوال حياته، ويتوجس من كل غريب يرتدي الكاكي على أرض العراق، منذ أن كان في العاشرة منتصف حقبة الأربعينيات أو كهلاً في التسعينيات، أو في مفتتح خريفه، أوائل الألفية الثالثة، حين استعرّ جحيم العراق ولم ينطفئ حتى اكتمال خريف سعدي يوسف ورحيله قبل أيام، إلى وطن لا يرغب عنه:
"اتَّئدْ... ثم قم، وافتح الباب، أغلقه خلفك، وامض بعيداً إلى النهر، وادخل سماواته:
ليس ثمةَ من لا يطيقون لونك، أو لا يطيقون قولك.
قد حانت الساعة الآن... حان الرحيل!".
نهاية المسافة القصيرة بين بيت جده لأمه بحمَدان، والبقيع حيث بيت جده لأبيه، بالقرب من قرية جيكور، موطن السيَّاب، كان موعد سعدي مع الشعر والفن بصيغته الملموسة، حيث إحدى زوجات الجد تنشد في الموالد "بردة البصيري"، وحيث الأعراس التي سيلتقي فيها بدراً أول مرة، وقت كان الأخير شاعراً مشهوراً يستنسخ سعدي ورفاقه، ذوو الاثني عشر عاماً، قصائده على أكياس البقالة.
بمرور السنوات صار الشاعران صديقين ورفيقين في الحزب الشيوعي، تؤيهما المقاهي، ويفرقها السجن تارةً والمرض تارةً، قبل أن يتغرَّبا كلٌ إلى طريقه: بدر إلى موته المبكر وسعدي إلى منفاه الطويل:
"أيّوبُ في المستشفياتِ يهيمُ، تسبقُهُ عصاهُ/ بين القرى المتهيّباتِ خُطاه، والمدنِ الغريبة.
وهو المسيحُ يجرُّ في المنفى صليبَه/ أنهارُ جيكورَ التي اندثرتْ تُفَجِّرُها عصاهُ
وبيوتُها تنشَقُّ عن لبَن إذا مرّتْ يداهُ/ عبْرَ الجبينِ
وأورقتْ في السرِّ أغنيةٌ وآه"...
والمنفى بالنسبة لسعدي يوسف مفهوم مركب وعلاقة متحركة، بشكل قد لا يكون دقيقاً معه تصويره بوصفه نقيضاً للوطن؛ قد يلتقي المفهومان أو يتقابلان أو يفتقدان أحياناً لأية علاقة، تبعاً لمزاج الشاعر وتصوراته عبر المراحل المختلفة لحياته، تلك المتصلة بحبل سريّ بالانقلابات الدراماتيكية لوطنه الجريح. لكن أكثر ما يمكن لمسه بجلاء، هو أن تلك العلاقة لم تعد بعد غزو العراق الأخير عام 2003 كما كانت قبلها.
العراق القديم الذي كان يرغب سعدي يوسف أن يقايض لأجله بكل شي مقابل غرفتين على شط العرب بالبصرة، لم يعد هناك، وبات أكبر عدو للشاعر هو الحنين الذي لم يستقم ظهره إلا بعدما تخلص منه
قبل هذا التاريخ، كان سعدي لا يتوقف عن تشبيه منفاه، كمثقف عراقي، باللعنة، وأنه الأشد قسوةً بين المنافي، حيث فكرة العجز عن العودة للوطن، تجعل الراحة والطمأنينة سراب تتبعه الشاعر في عديد المنافي بين قارات العالم، التي كتب قصائد ودواوين باسمها وفيها.
من موسكو إلى بيروت، ومن الجزائر منتصف الستينيات، إلى العراق ثانيةً في السبعينات، حتى وصول صدام حسين إلى الحكم ورحيل الشاعر متنقلاً بين دمشق وبيروت وقبرص واليمن وتونس ثمّ باريس وعمَّان، وأخيراً إلى لندن عام 1999 حيث استقرّ به المقام، وتواترت أعماله الشعرية حتى رحيله بعدها بأكثر من عقدين.
"ولكنني أتحدثُ عن سيد اسمه سعدي يوسف، إذ يرتقي التلَّ، يمضي مع العصويْن ويقطع شارعه، نحو ممشى الكنيسةِ، حيث المراقيَ إلى التَّل...
يصعد سعدي ويصعد. في بغتة سوف يبلغُ قمَّته:
الآن، تبدو سطوحُ المنازل، والقرية المطمئنة.
والآن يعرف أن المراقي تليق"
دخول الأمريكيين للعراق بترحيب من بعض من وصفهم الشاعر بالمثقفين الوسطاء أو السماسرة، وما تلا ذلك من دمار مقيم، جعل صورة الوطن بالنسبة لسعدي يوسف تستحيل إلى لوحة غائمة في الذاكرة، فالعراق القديم الذي كان يرغب الشاعر أن يقايض لأجله بكل شي مقابل غرفتين على شط العرب بالبصرة، لم يعد هناك، وبات أكبر عدو للشاعر هو الحنين، هذا الذي لم يستقم ظهره إلا بعدما تخلص منه:
"أنتَ تعرفُ ـــــ رُبما الآنَ ــــ أنّ البلادَ التي نتداولُها في الأغاني الفصيحةِ ليستْ بلاداً...
لقدْ بَعُدَ العهدُ بي، وبكَ؛ الآنَ قد نتفاهَمُ:
نحن انتهَينا إلى أنّ ما كان بيتاً لنا، صارَ مأوى سِوانا،
ونحن انتهَينا إلى أننا لن نعودَ إلى بيتِنا لاجِئَينِ".
هذا عن الوطن، أما المنفى فقد استحال بالنسبة لسعدي من لعنة إلى "نعمة ورحمة"؛ إذ منحه حياة جديدة، بالمعنيين الحرفي والمجازي. فلو بقي بالعراق لكان ميتاً منذ عقود؛ هو الذي ضاق به الحكام منذ بواكير شبابه.
"عندما يذهب الوطن يذهب المنفى"؛ يقول سعدي يوسف وكأنه استطاع أخيراً فض اشتباك تلك العلاقة المرتبكة وكأنها رمحين معقودين على صدره، لكن هذه المعادلة، وإن بدت في ظاهرها مريحةً، إلا أنها اكتنزت بما لا يمكن ستره من الغضب والمرارة والأسى العميق، بدليل أن العراق ظلّ في القلب من شعر سعدي يوسف حتى آخر حياته:
"جاورتُ قوماً يُمسَخُونَ، بمُشتَهىً منهم، أفاعيَ...
هكذا!/ وَهُمُ العراقيّون من بلَدي (لقد باعوا العراقَ)/ همُ السَّراةُ الإنجليزُ (ثلاثَ مرّات أتَوْنا فاتحينَ)
وهُمْ، وهُمْ، ... منْ عافَهم حتى الإلهُ".
أما فنياً، فإن المنفى بالنسبة لسعدي كان "مدخلاً للحياة"، "ملازم للشاعر ولصيق بالفن نفسه"؛ الفن بحسب ما ذكر يوسف قبل سنوات قليلة، "دعوة لأن نكون في أرض أخرى أجمل وأكثر أمناً وسلاماً". وبما أن فنّ سعدي يوسف الأثير هو الشعر، على كثرة ما مارس وأبدع في فنون أدبية أخرى، كالقصة القصيرة والرواية والمقالات، والترجمات الهامة التي أثرت المكتبة العربية بأعمال منتخبة لأسماء لامعة، كوالت ويتمان، ريتسوس، كفافيس، لوركا، أونغاريتي، وولي سوينكا، آنا إخماتوفا، سارا مجواير وغيرهم.
امتد نتاجه الشعري بامتداد سنوات حياته، وكأنه مدونة لهذه الحياة وتأويل لها، ومُعين عليها. فيما كانت حياته الثرية وارتحالاته الدائرية وتأملاته ومواقفه من الكون والفن والإيديولوجيا مَعيناً لا ينضب لعوالم وموضوعات شعرية، تراكمت عبر سبعة عقود، مشيدةً بناءً شعرياً، أبرز ما يميزه ألا غرفة فيه تشبه الأخرى.
على امتداد تجربته الشعرية، التي تلا بزوغها فترةً استثنائيةً في تاريخ الشعر العربي، حيث استقرار جيل رواد القصيدة التفعيلة، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، البياتي، الجواهري وصلاح عبد الصبور، وحيث الإيديولوجيا، وفي القلب منها الفكر الشيوعي، مدخلٌ مهيمنٌ على كافة الفنون، لم يعرف سعدي يوسف الاستقرار الفني أو الإقامة الطويلة عند زاوية نظر ما.
كان يتخلى بالكامل عن مرحلة جمالية معينة منتقلاً لأخرى، مجرباً كافة ألوان الشعر ومتمرّداً عليها، وغير متوقف عن الاشتغال على اللغة وتقشيرها من كل فخامتها وزوائدها المعلبة، واستخراج حمولتها الشعرية، من اليومي والهامشي والحسي والملموس.
لم يعرف سعدي يوسف الاستقرار الفني أو الإقامة الطويلة عند زاوية نظر ما. كان يتخلى بالكامل عن مرحلة جمالية معينة منتقلاً لأخرى، مجرباً كافة ألوان الشعر ومتمرّداً عليها
كتب سعدي يوسف القصيدة العمودية، ثم قصيدة التفعيلة على غرار الرواد، وكتب قصيدة النثر، والتفعيلة بروح وقاموس قصيدة النثر، كما جرب في أشكال شعرية عربية وأجنبية قديمة، وتوزعت أعماله على ثمانية مجلدات، صدر أحدثها عام 2017، ضمت أكثر من أربعين مجموعةً شعرية، بخلاف الترجمات وفنون السرد، راكمت له مكانةً إبداعيةً وإنسانيةً لم يبلغها شاعر معاصرٌ، ولم تتشوش بالزوابع التي كانت تثيرها آراؤه حول رجال الدين والسياسة ويثيرونها حوله.
وقد يظن المرء أن هذا الشاعر منح عمره كاملاً للشعر؛ حتى هو اعترف في إحدى مقابلاته الصحفية بأنه أحياناً ينظر إلى منجزه الشعري الكبير بوصف "ضرباً من الجنون"، لكنه أكّد في نفس المقابلة أن الشعر هو ما منح حياته قيمةً وجمالاً:
"الشعر منحني السعادة المطلقة، والحرية المطلقة، أنا سعيد لأنني شاعر، وحر لأنني شاعر، وحتى مواقفي في الشؤون العامة التي تبدو أحياناً متطرفة تستمد قسوتها تلك من حريتي كشاعر... الحياة بالشعر هي الأجمل؛ أن تسيري في الحياة وأنت تتمثلين قيم الشعر: الجمال والموسيقى والرهافة".
لقد كان سعدي يوسف أستاذاً للعديد من الأجيال الشعرية بمختلف أقطار الوطن العربي، كان ملهماً في نهجه الحياتي مثلما في نهجه الفني، مواكبٌ لعصره وسابق عليه أكثر الأحيان، لا يشبه أياً من مجايليه، ولا يشبهه أحد في بساطته واستغنائه ومحبته للحياة دون التورط بصغائرها، كما يليق بحفيد لأمير صعلوك كامرئ القيس، أو بشيوعي أخير.
لذا كان نبأ رحيله -غير المفاجئ- صدمةً أليمةً، تقاسمتها العديد من المدن العربية التي عرف الشاعر أغلبها، لاجئاً ومقيماً؛ فالمحبون عادةً لا يتهيؤون للفقد مهما لاحت علاماته.
أما سعدي الذي اختبره الموت أكثر من مرة في أقرب من لديه، فلم يكن أمامه سوى النظر إليه بوصفه "حياة بملمس آخر"، سماء أوسع، عندما تعلن الأرض أن "لا سماء لتخفق فيها جناحاك"، أو هي قمة التَّل التي وردت في إحد أواخر قصائد الشاعر الراحل، المنشورة بمجلة "إبداع" بالقاهرة "رباعيات":
"ولكنني أتحدثُ عن سيد اسمه سعدي يوسف، إذ يرتقي التلَّ، يمضي مع العصويْن ويقطع شارعه، نحو ممشى الكنيسةِ، حيث المراقيَ إلى التَّل...
يصعد سعدي ويصعد. في بغتة سوف يبلغُ قمَّته:
الآن، تبدو سطوحُ المنازل، والقرية المطمئنة.
والآن يعرف أن المراقي تليق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...