شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الموت المجاني في بلادنا... لا نختلف عليه بل على صورته

الموت المجاني في بلادنا... لا نختلف عليه بل على صورته

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 18 يونيو 202103:30 م

خلال سنوات الحرب في سوريا، أصبح كل شيء مرتبطاً بمفهومي الحياة والموت. أصبح الحديث فيهما يومياً، ويأخذ من تفكيرنا الحيز الأكبر، مثله مثل أي حديث عن العمل والشؤون اليومية. لكن ما الذي يختلف في بلادنا العربية عن بقية أنحاء العالم، في مسألة الحياة والموت؟

انطلقت منذ أيام عدة بطولة كأس الأمم الأوروبية المؤجلة بسبب كورونا. شهدت هذه البطولة عودة قسم من الجماهير إلى الملاعب، لمتابعة منتخباتها في البطولة التي تلقى اهتماماً كبيراً من الجمهور الرياضي في مختلف أنحاء العالم. في ثالث مباريات البطولة، والتي جمعت بين منتخبي الدنمارك وفنلندا، وبعد مرور ما يقارب 40 دقيقة على المباراة، سقط أحد لاعبي منتخب الدنمارك، وهو كريستيان إريكسن، على أرض الملعب فاقداً وعيه. لم أكن أتابع المباراة في هذه اللحظات، ولكن عندما سمعت الخبر، قمت على الفور لمشاهدة المباراة، وكأن إريكسن أحد أفراد عائلتي. المشهد الأول الذي ظهر أمامي كان وجوه الجماهير، والتي كان مخرجو المباراة قد وجدوا إليها طريقاً، كيلا ينتهكوا خصوصية اللاعب الملقى على الأرض. مضت فترة طويلة مذ رأيت تعابير كهذه؛ تعابير الحزن المخيم على وجوههم على شخص لا يمت إليهم بصلة، سوى أنه لاعب في منتخب بلادهم. تنتقل الكاميرا إلى لاعبي المنتخب الخصم لترصد مشهداً آخر لهول الصدمة. الحكام، والفنيّون، والمنظمون، يتشاركون جميعهم مشاعر واحدة تجاه حادثة تُعدّ من أسوء ما حدث في عالم الرياضة: أن يسقط لاعب وهو يمارس طريقته في إمتاع الجمهور.

كأن السباق على التصوير أصبح أمراً خالياً من الإنسانية، وما يهمنا كله هو الصورة. يبدو الموت، عندها، غير مختلف عن افتتاح دار للسينما

أعادت إليّ هذه التفاصيل، والمشاهد، الهالة التي ترتبط بالموت، والسلوك الإنساني المرافق له. عدت بذاكرتي إلى آخر مرة كان الموت يدخل إلينا بهذا الشكل الفجائي، لكنني للأسف لم أستطع أن أتذكر.

مرت بلادنا بحروب عديدة، وحوادث كثيرة، جعلت منها مسرحاً للصراع العالمي، ولمدة طويلة ظهرت خلالها قنوات ومنصات إخبارية كثيرة، تُسارع عند كل حادثة يقع فيها قتلى، أو جرحى، لترصد الجثث. وكأن السباق على التصوير أصبح أمراً خالياً من الإنسانية، وما يهمنا كله هو الصورة. يبدو الموت، عندها، غير مختلف عن افتتاح دار للسينما. حروب كثيرة جعلت منا أشخاصاً غير آبهين بالموت. نعيش يومنا على أن الموت هو أحد تفاصيله، منذ الحرب الأهلية في لبنان، والفيديوهات المصورة، والوثائقيات الدموية التي وردتنا منها وعنها، حتى اجتياح الكويت، واجتياح بيروت عام 1982، وصولاً إلى غزو العراق، وحرب تموز، ثم الحروب التي شهدتها الساحة العربية بين الأنظمة والشعوب، والتي جعلت احتمال تعرضك للخبر المأساوي، أكبر من احتمال حصولك على حاجة بشرية بسيطة. تفتح المواقع، ومنصات التواصل الاجتماعي، لتكتشف أن الصفحة الرئيسة أمامك عبارة عن صفحة وفيات.

نحن اليوم نتعامل مع الموت، وكأنه الحقيقة الوحيدة في يومنا. نتسابق لمعرفة تفاصيل موت أي شخص يصلنا خبر وفاته. عندها يكون اهتمامنا منصبّاً على معرفة من كان يدعم، وما هي ميوله، وننسى أن الموت هو الفاجعة الكبيرة التي من المحتمل أن تسرق منا أي شخص.

وقف الناس جميعهم مع إريكسن في حادثته. توقف الحديث عن أي موضوع آخر، وأصبح إريكسن، وحالته الصحية الحرجة، هما الهمّ الوحيد لدينا. هذه الحادثة قدّمت لنا درساً في ما يسمى "حرمة الموت"، أو حرمة التعامل مع الحوادث المأساوية بشكل خاص. فقد سارع أفراد الفريق لإحاطة اللاعب بستار بشري، لحفظ خصوصيته أثناء معالجته من قِبل الطواقم الطبية الموجودة في الملعب. أُلغي التصوير الجوي كيلا يقدَّم اللاعب بصورته الضعيفة، في تلك اللحظات. وفي ذلك سلوك مهني يتوافق والميثاق الأخلاقي للصحافة. في العودة إلى منصاتنا، فإن حادثة بلع اللسان التي من الممكن أن تحدث في الملاعب، نرى أي مصور يركض ليصبح أقرب من الأشخاص كلهم إليها، وكأنه الدرس الوحيد الذي تلقاه في المجال الإعلامي.

لم نعد نختلف على الموت بل على شكله. كأن نحمد الله إن كان سبب الموت أزمة قلبية، أو مرضاً، وليس رصاصة، أو سلاحاً آخر من أسلحة الحرب

مشهد يجعلنا نتساءل عن حرمة الموت في بلادنا، حيث أرقام الوفيات المهولة جعلت بعض الأفراد يخططون للموت؛ منهم من حجز لنفسه قبراً، ومنهم من كتب وصيته، أو شاهدة قبره، واختار الشكل الذي سيُدفن فيه.  

لم نعد نختلف على الموت بل على شكله. كأن نحمد الله إن كان سبب الموت أزمة قلبية، أو مرضاً، وليس رصاصة، أو سلاحاً آخر من أسلحة الحرب. حتى احتفالاتنا لم تعد تكتمل من دون استخدام الرصاص، ولم تمنع الوفيات الناتجة عنه استخدامه. في أحد أحياء حمص، توفيت فتاة برصاص طائش في احتفال كبير. لم تكن كلمات المواساة حاضرة بقدر ما كانت الأحاديث عن حسن حظها أنها ماتت في احتفالية مثل هذه. كذلك أصبحت بعض العائلات تتلقى خبر وفاة أحد أفرادها بشكل هادئ، بسبب ثقل الحرب، وما فرضته. ومن العبث أن أصبح من الممكن أن يعود الشخص الميت إلى الحياة بسبب كثرة المعارك التي فُقدت خلالها الاتصالات. فعند عدم إيجاد جثة للميت، يظل الأمل معلقاً بعودته إلى الحياة. حدث عجيب كهذا فقد دهشته أيضاً.  

حادثة إريكسن جعلتنا نعيد التفكير في خصوصية الموت، الأمر الذي ساهمت حوادث أخرى في حياتنا في جعلنا نفكر فيه. وربما نتعلم أنه من الضروري أن يعود كل شخص في مهنته، ليدرس الميثاق الخاص بها، لعله يستطيع أن يُبعد عن هذا الحادث أو ذاك شكلاً مأساوياً، بعيداً عن التفكير في مكتسبات ما سيفعله. من الجميل للحظة ما أن نتأكد من جديد أن الخوف هو الشعور الوحيد الذي سيتكون لدينا عند ذكر الموت، أو الحديث عنه. من الجميل أن تعيش حياتك كإنسان بشكل طبيعي، وتتعامل مع ما تفزره الحياة كله بالشكل الطبيعي الذي قامت من أجله. لكن ليس من الجميل أن يكون الموت تفصيلاً من تفاصيل حياتنا اليومية. هذا الشعور ستكون نتيجته الحتمية موت شخصيتنا الإنسانية.

شكراً كريستيان إريكسن على الدرس الذي قدمته لنا. ومثلما تحققت أمنيتنا بنجاتك، نتمنى أن تتحقق أمنياتنا بأن نحفظ خصوصية حوادثنا، وأن نبقى قادرين على العودة إلى الحياة بشكلها الطبيعي.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard