شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
مات من تحرش بي، وأنا لا أسامحه

مات من تحرش بي، وأنا لا أسامحه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 9 يونيو 202111:50 ص


هل تسامحين من تحرش بك حين يموت؟ طرحت هذا السؤال على صديقتي أثناء حديثنا عن التحرش، وكانت المرة الأولى التي أراها تتحدث عن قصة مؤلمة تعرضت لها، كما كانت المرة الأولى التي أراها تغالب دموعها، وتحبسها، فيخنقها صوتها. تقول صديقتي الصحافية من جنسية عربية إنها كانت مضطرة إلى أن تلتقط صوراً فوتوغرافية لها لتقديمها إلى أحد المؤتمرات. فذهبت بصحبة ابنة شقيقها، الطفلة، إلى شخص كانت تحسبه زميلاً محترماً ونزيهاً. عقب التقاط الصور -وكأن الحاسة السادسة لديها أنبأتها، فجعلت ابنة شقيقها تتقدم الخطوات إلى باب الخروج لتلحقها هي- تحجج المصوّر أنه يرشدها إلى الباب، ووضع يده على خصرها، ففزعت صديقتي، ونبهته بامتعاض، وجحظت عيناها. فتراجع معتذراً، لكن اللمسة تلك جعلتها تكتم الأذى النفسي الذي ألمّ بها.

تقول صديقتي إنها لا تدري كيف نظر إليها، وكيف استباح لنفسه تلك الفعلة، وهل تصوّر أنها فتاة تحب أن يضع الرجال أيديهم على خصرها؟ اللافت أنها لم تصدر رد فعل قوي حتى لا تنتبه ابنة شقيقها لما يحدث، وترى إلى مهنة على أنها سيئة السمعة، أو أن الانتهاكات الجنسية أمر معتاد، أو أن عمتها تسمح بانتهاكها، وخوفاً أيضاً من أن يطال الصغيرة ضرر من أي رد فعل غير محسوب من المصور، كأن يغلق الباب، ويمنعهم من الخروج.

لم أكن أتصور أن يكون التسامح مع المنتهكين لأجسادنا وارداً، حتى وإن ماتوا

تقول إنهما التقيا بعد هذا الموقف في اجتماع، وأدارت له ظهرها. تنبه المدير لذلك، فقالت إن هناك أناساً لا يستحقون أن نعطيهم وجوهنا، فوصلته الرسالة. راح يعتذر لها في كل مناسبة يجتمعان فيها، وعبر رسائل نصية، لكنها كانت تخبره أنها لن تسامحه. ثم تنهدت، وقالت إنه مات على كل حال، وهو الآن بين يدي الله، ولا أملك إلا أن أسامحه، وأن أقول: الله يرحمه. دُهشت بدوري، إذ لم أكن أتصور أن يكون التسامح مع المنتهكين لأجسادنا وارداً، حتى وإن ماتوا.

ثم قصصت عليها قصتي: كنت أعمل عام 2014 مع أحد المواقع الصحافية العربية التي كان لها مقر في القاهرة. لم أشكّ يوماً في رئيس التحرير السبعيني، فبالكاد كان يتكلم، ويتحرك. وكان مريضاً إلى درجة غريبة. كنت أشكو إليه الحسم الذي لحق براتبي ظلماً، بينما كنا بمفردنا في مكتبه. لم أظن أن ثمة مشكلة في أن تتواجد صحافية ورئيس التحرير المسؤول عن عملها في مكتب بمفردهما في وضح النهار، أو أنه سيكون أمراً يستدعي منه التحرش بها، إلى أن طلب مني الاقتراب منه لأخذ مرتبي كاملاً، فاقتربت منه، وتناولت الظرف، لكنه أمسك بيدي بقوة، فأفلتّها، وتجمدت في مكاني لثوانٍ، ثم عدت إلى الكرسي. وبعد لحظات استأذنته بالانصراف. ولأيام عديدة كنت أقسو على نفسي وألومها بشدة على أنني السبب، وأشكك في ما حدث، وأقول إني ربما أتوهم.

لم أجب على مكالمات رئيس التحرير الهاتفية بعد ذلك، واعتذرت عن إكمال العمل. لكن بعد أشهر قليلة، جاءتني من رقمه رسالة تطلب له الرحمة، والحضور إلى سرادق عزائه. لم أشعر بالحزن، ولا بالفرح، ولا حتى تمنيت له الرحمة. قلت هو بين يدي خالقه الآن، وسيحاسبه.

وعبر مجموعة فيسبوكية تضم نحو 1600 فتاة من ذوات الفكر النسوي، طرحت السؤال التالي: "هل تسامحون المتحرش، أو المغتصب، أو المعتدي جنسياً، إذا مات؟". 99% من التعليقات أجابت بـ"لا"، وتعليقات قليلة كانت محايدة، وتقول: لا يهم التسامح إن مات.

حينما أفكر بقائمة الرجال الذين ارتكبوا أفعالاً خاطئة وشنيعة، وماتوا، أتساءل: هل يجب أن نسامحهم أم لا؟ الأمر لا يخص هؤلاء الذين انتهكوا أجسادنا. لكني أفكر من منظور اجتماعي وسياسي أيضاً. فحين مات مبارك، كان التراند الأشهر: "له ما له، وعليه ما عليه". ثم توالت الترحمات من معارضين له سابقين، الأمر الذي جعل معارضين له آخرين في حيرة.

كيف يمكن لأحدهم أن يسامح مغتصباً، أو معتدياً جنسياً، لأنه وسيم فحسب، أو لأنه ثري، وهو لم يكلّف نفسه عناء طلب العفو، أو إبداء الندم

تعبر عن ذلك الصحافية جينيفر رايت في مقال لها، عارضة ما يدور في أذهاننا كنساء، وهي النتيجة التي حصلت عليها أنا أيضاً، من مجموعة الفيسبوك السرية الخاصة بالفتيات حينما سألتهن. "هل سنسامح من أفزعنا من السير بمفردنا في الطرقات، أو الرجل الذي أمسك صدرنا في الباص، أو من وضع يده على مؤخرتنا في الشارع، أو المدير الذي طلب ممارسة الجنس معنا لنحصل على ترقية، أو علاوة على الراتب؟ أو الحبيب الذي خان ثقتنا ومارس الجنس بالإكراه معنا؟ ما حصلنا عليه من الرجال كان كبيراً مقارنة بما حصلوا عليه منا. كما أن الرجال لديهم امتيازات كبيرة جداً على مدار عقود طويلة إلى درجة تجعلني أشك، هل حقاً يعاني الرجل من شيء ما"، تقول رايت.

في المسلسل الرمضاني "الطاووس" للنجمة سهر الصايغ وجمال سليمان، والذي يحكي عن فتاة من بيئة فقيرة تعرضت للاغتصاب من قبل أربعة رجال أثرياء، تصدّر مشهد اغتصابٍ مواقع التواصل الاجتماعي، ترددت نغمة على الآذان تقول "إن أحد المغتصبين وسيم، سنسامحه". التعليق الذي انتشر على مجموعات نسوية مغلقة في فيسبوك، لاقى امتعاضاً شديداً. إذ كيف يمكن لأحدهم أن يسامح مغتصباً، أو معتدياً جنسياً، لأنه وسيم فحسب، أو لأنه ثري، وهو لم يكلّف نفسه عناء طلب العفو، أو إبداء الندم عما فعل.

ذلك هو الرأي الذي تريد النسويات الحاليات توريثه للجيل القادم من النسويات الصغار: "لا تسامُح قط مع المعتدين"، وأفعالهم جرائم أخلاقية تميت صاحبتها وهي على قيد الحياة، من الخوف. الخوف الذي لن يعرفه الرجال أبداً، ولن يعيشوه. وإن عاشوه، فلن يجعل حياتهم تنهار كحيوات النساء.

فيليسيا سنوميز صحافية ومراسلة في "واشنطن بوست"، نشرت تغريدة عقب وفاة أسطورة كرة السلة الأمريكي، كوبي براينت، في تحطم طائرة العام الماضي، تشير إلى حادثة وقعت عام 2003، حينما اتُّهم باغتصاب فتاة تبلغ 19 عاماً، فأوقفتها الصحيفة عن العمل، وتلقت أكثر من عشرة آلاف إساءة وتهديد بالقتل، لأن براينت نجم محبوب، ولا داعي لتذكير الناس بقضية اغتصابه الفتاة.

الحب والثقة والاحترام، هي الشروط الواجب توافرها ليتحقق التسامح، مع ضرورة أن يقدّم الطرف المخطئ طلباً صادقاً ليُسامَح عن الخطأ الذي ارتكبه، وهو ما لن يحدث مع شخص ميت

ليست سنوميز وحيدة، فهناك ناثان ماكديرموت مراسل "سي إن إن" الذي نشر تغريدة عقب وفاة براينت يقول "كان كوبي براينت أحد أعظم لاعبي كرة السلة في العصور كلها، لكنه واجه أيضاً اتهاماً ذا مصداقية بالاغتصاب، إذ خنق امرأة خضعت للفحص الذي كشف عن إصابات لا تتفق مع ممارسة الجنس بالتراضي". وتلقى ناثان رد فعل عنيف بسبب ذلك، فأضاف: "فكر في كل ما تريد عنه. ولكن إذا كنت تعتقد أن هذا غير مهم، ولا ينبغي التحدث عنه عقب وفاته، حسناً، أعتقد أنك مخطئ".

وبحسب موقع "فيمنست إن إنديا" الذي نشر مقالاً في أيلول/ سبتمبر عام 2019 عقب وفاة المؤلف والأديب الهندي "كيران نجاركار"، الذي ضجت السوشال ميديا بعد وفاته بتعليقات من محبي الأدب ومناصريه عن مساهماته، وكيف سيفتقدونه، تقول فيه كاتبته إن ذلك لم ينفِ أنه قبل وفاته بعام اتُّهم من قِبل ثلاث نساء مختلفات بالتحرش بهن، وندرة التحدث عن ذلك تجعل السؤال يقفز إلى الأذهان: "هل الموت يعفي الشخص من أخطائه؟".

وإذا تطرقنا إلى فعل التسامح نفسه، فهو بحسب "سايكولوجي توداي"، فضيلة أخلاقية أقرب ما تكون إلى العدالة والصبر والعطف. وكي يتحقق الكمال في المسامحة، على المظلوم أن يتفهم أنه ظُلم، وأن يستعد للتخلي عن استيائه، وأن يتخذ خطوات للحد منه، وأن يحب من كان غير عادل تجاهه من دون قيد أو شرط. يصل عرض المغفرة إلى الكمال عندما يقبل الشخص الآخر ذلك بسهولة، ويصبح جديراً بالثقة، وتكون بين الشخصين (أو أكثر) مصالحة حقيقية، ويجتمعان مرة أخرى باحترام وثقة ومحبة متبادلة.

وإذا نظرنا إلى الجملة السابقة، وبنظرة رجولية، سنجد من يسأل "هل النساء فارغات إلى درجة أن ينظرن إلى أمور لا تشغل سوى بالهن فحسب؟ هل هن فارغات حتى يفكرن في ما بعد موت أحد المتحرشين بهن أو أحد مغتصبيهن؟". سنجد أنه من الصعب أن تنظر النساء باحترام إلى من آذاهن، أو انتهك أجسادهن، وأن تصل إلى مرحلة تمام الغفران. الحب والثقة والاحترام، هي الشروط الواجب توافرها ليتحقق التسامح، مع ضرورة أن يقدّم الطرف المخطئ طلباً صادقاً ليُسامَح عن الخطأ الذي ارتكبه، وهو ما لن يحدث مع شخص ميت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image