في سنوات سبقت الحرب السورية، دخل الفنان السوري خالد تاجا إحدى مدافن دمشق وتحدث مع حفّار القبور، قائلاً إنه يُريد إنشاء قبر أنيق وحوله سور للحماية. سأله الحفّار: "لمن القبر أستاذ خالد؟"، ضحك الفنان الكبير وقال: "إلي أنا!".
استهجن الحفّار كلام خالد تاجا، وقال له: "الله يطوّل عمرك أستاذ خالد". قاطعه خالد تاجا بالقول: "طوّل وخلص يا أبني... بس هاد مو لهلق، هاد لبعدين. أنا جددت إقامتي بالأرض ولسّا عندي شغل كثير". وعندما وافاه الأجل يوم 4 نيسان/إبريل 2012، كان قبر خالد تاجا جاهزاً، وقد أصرّ على تسميته "المنزل الأخير".
وكان قد كتب على رخامه كلاماً يُعبر عن مسيرته في الحياة: "مسيرتي حِلمٌ من الجنون كومضة شهابٍ، زرع النور بقلب من رآها لحظة... ثم مضت". وخلافاً لكل القبور المجاورة لـ"منزل" خالد تاجا الأخير، خلت شاهدة قبره، أو "داره،" من أية آيات قرآنية، ولا حتى سورة الفاتحة. هكذا كان خالد تاجا في حياته ومماته، ثائراً، مختلفاً، ومجدداً في كل شيء.
البداية
وُلد خالد تاجا في مدينة دمشق يوم 6 تشرين الثاني/نوفمبر 1939، أي بعد أشهر قليلة من اندلاع الحرب العالمية الثانية. عاش في بيت متواضع ليس فيه إلا نسخة قديمة من القرآن الكريم، وكانت عائلته فقيرة ومُعدمة. لم يفلح في دراسته وكان شقياً في صباه، يعشق السينما وشخصية فتى الأدغال "طرزان" الذي طالما كان يحاول تقليد مغامراته.
كتب خالد تاجا على رخامة قبره ، المعدّ مسبقاً، كلاماً يُعبر عن مسيرته في الحياة: "مسيرتي حِلمٌ من الجنون كومضة شهابٍ، زرع النور بقلب من رآها لحظة... ثم مضت"
وعندما كان يتذكر مرحلة الطفولة، كان خالد تاجا يقول: "كنت ولد غريب عجيب، وكدت أن أُدخل أمي العصفورية (مشفى الأمراض العقلية)". بدلاً من الصفوف المدرسية، صار من رواد دور السينما ومن عشاق الأفلام الصامتة، وقد راقب عروض "كراكوز وعيواظ" (خيال الظلّ) في مقاهي دمشق الأربعينيات، وعاد إلى داره ليصنع عرضاً بنفسه من قصاصات ورقية، يُلقيه على أطفال حارته البسطاء.
مع عبد اللطيف فتحي
ترك بعدها الدراسة والتحق بفرقة المسرح الحرّ مع النجم عبد اللطيف فتحي (1916-1986)، أحد روّاد المسرح في سورية، الذي تعلم منه الكثير الكثير، وشارك معه في عدّة عروض مسرحية، كان أشهرها "مرتي قمر صناعي" و"بيت للإيجار" للقاص الشعبي حكمت محسن. معظم تلك المسرحيات كانت تُعرض على خشبة سينما النصر في مدخل سوق الحميدية (الذي تمّت إزالته سنة 1983)، ومنه انتقل خالد تاجا إلى فرقة المسرح العسكري سنة 1965.
ومن على خشبة المسرح العسكري اختاره المخرج اليوغسلافي بوشكو فوتونوفيتش للقيام ببطولة الفيلم "سائق الشاحنة" سنة 1966. كان هذا الفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سورية، وقد جمعه على الشاشة الفضية مع ربيبه وصديقه، عبد اللطيف فتحي، بعد سنوات من العمل المشترك على خشبة المسرح.
وفي سنة 1972، شارك خالد تاجا بفيلم "الفهد" من إخراج الراحل نبيل المالح، الذي نال جائزة مهرجان دمشق السينمائي وجائزة تقديرية من مهرجان لوكارنو السينمائي، وأخرى من مهرجان كارلو فيفاري الدولي.
نصير الإنسانية
الشهرة التدريجية التي بدأ خالد تاجا يُشعر بها لم تفقده توازنه ولم تسلخه عن إنسانيته. فقد ظلّ منذ البداية نصيراً للمستضعفين والفقراء والمسحوقين، ليس فقط في سورية بل في كل أنحاء العالم. وعندما جاءه خبر مقتل مارتن لوثر كينغ سنة 1968، زعيم ثورة أمريكا ضد التمييز العنصري، حزن خالد تاجا ونظم قصيدة، باتت اليوم مفقودة، جاء فيها:
أمريكا تُنظم الوجود وتدبغ الجلود، أمريكا تصنّف البشر وتصنع الحدود
وتمنع الزنوج من رؤية النصب الذي أُقيم في طرف المُحيط (تمثال الحرية)، لمن دُفن هناك وفقد الحياة
يا أخوتي الزنوج، يا شركائي في الدخول إلى الحياة وفي الخروج
يا شركائي في الهواء والمياه وفي الشجر
سألوا خالد تاجا ذات يوم: "ماذا قدمت لك دمشق؟" فأجاب: "الحب". وعن أصوله الكردية، قال إنه لا ينتمي إلى أي عصبية، ولا يتحدث اللغة الكردية، "أنا مع الإنسان ولا أنتمي إلى سواه، وإن وجدت إنساناً على كوكب المريخ أنا معه، بغضّ النظر عن عرقه ودينه"
قفوا معي ورددوا هذا القسم:
باسم الدموع الهامرة على اللّحوم الضامرة، سنُحطم هذا الحجر، ونصنع ابتسامة تغمر البشر
وسنركب حصاناً مثل ذلك البراق، حصاناً مجنّحاً له ألف ساق
ونطوي التلال، ونطوي الجبال، ونطوي الصحارى بلمح البصر
لنسأل عن بشرٍ تائهين، ونحملهم معنا إلى ظفر
ونحتضنهم لتنحتضنهم لأنهم بشر...
ثم يختم بالقول: "يا أيها الزنوج... صيفكم أتي ولن تبقى الثلوج!".
النجومية المتأخرة
ابتعد خالد تاجا عن الحياة الفنية من سنة 1978، بسبب إصابته بمرض السرطان في إحدى رئتيه، ما أدى لاستئصالها، ومقتل زوجته الأولى سحر، وهي مغنية قتلت في ملهى السميراميس مطلع الثمانينيات، على يد عاشق مجنون فجر قنبله في صالة العرض، ما آلم خالد تاجا كثيراً وترك جرحاً نازفاً في صدره، بالرغم من زواجه مرة ثانية من الكاتبة والمخرجة نائلة الأطرش.
عاد بعدها إلى الأضواء عبر "مسلسل أيام شامية" الشهير سنة 1992، مع المخرج بسّام الملّا. كان هذا العمل نقطة تحول في تاريخ الدراما السورية، وقد قال عنه النقّاد إنه "خلّد كل من شارك به من ممثلين".
لعب خالد تاجا دور التاجر الدمشقي أبو عبده، المتزوج من سيدتين (وفاء موصللي وسامية الجزائري). أضحك الملايين بصراعاته مع زوجاته، وضربه المتكرر لهنّ، ومع ذلك لم تثر تلك المشاهد اعتراض الجمعيات النسائية، نظراً لأسلوب خالد تاجا الفكاهي والبسيط. كان خالد تاجا يومها في العقد الخامس من عمره، أي أنه وصل إلى الشهرة العربية في وقت كان أبناء جيله من النجوم كانوا قد بدأوا بالتقاعد أو الغياب.
وفي ونفس المفترة، ظهر خالد تاجا في مسلسلين كوميديين شهيرين، أولهم "الدغري" (1992) مع النجم دريد لحّام والمخرج هيثم حقّي، والثاني "يوميات مدير عام" (1995) مع النجم أيمن زيدان والمخرج هشام شربتجي.
وبعدها انتقل إلى الأعمال التاريخية وظهر مع المخرج الراحل حاتم علي في أشهر أعماله "الزير سالم" (2000) و"صلاح الدين الأيوبي" (2001)، حيث لعب دور إمبراطور بيزنطة، و"صقر قريش" (2002) الذي لعب فيه دور عبد الملك بن مروان، و"ربيع قرطبة" (2003) و"التغريبة الفلسطينية" (2004)، و"ملوك الطوائف" (2005).
فمثله مثل النجم العالمي أنطوني كوين، كان خالد تاجا قد وصل إلى النجومية متأخراً بعد تجاوزه عمر الخمسين، ومثله مثل كوين، برع في أداء الأدوار المعقدة والمركبة غير النمطية والمتنوّعة
ولكنه كان يقول إن أحب الأدوار التاريخية على قلبه كان دوره في مسلسل "الزير سالم" الذي لعب فيه دور الحارث بن عباد. وعندما قرأ نص المسلسل للكاتب الراحل ممدوح عدوان، اتصل به تاجا وقال: "ممدوح، هذا نص لشيكسبير".
كان هذا المديح نابعاً عن محبة خالد تاجا لوليم شيكسبير، وحلمه الدائم بتجسيد أدوار هاملت وعُطيل والملك لير، ولكن هذا الحُلم لم يتحقق. وعندما شاهد الشاعر الفلسطيني محمود درويش أداء خالد تاجا في الزير سالم، أطلق عليه لقب "أنطوني كوين العرب".
فمثله مثل النجم العالمي أنطوني كوين، كان خالد تاجا قد وصل إلى النجومية متأخراً بعد تجاوزه عمر الخمسين، ومثله مثل كوين، برع في أداء الأدوار المعقدة والمركبة غير النمطية والمتنوّعة. ومثله مثل كوين كان لخالد تاجا وجهاً آخر غير وجه الممثل، لا يعرفه كثيرون، فكلاهما كان بارعاً في الرسم والفنون اليدوية.
سألوه ذات يوم: "ماذا قدمت لك دمشق؟" فأجاب: "الحب". سألوه عن أصوله الكردية، فأجاب أنه لا ينتمي إلى أي عصبية، ولا يتحدث اللغة الكردية، "أنا مع الإنسان ولا أنتمي إلى سواه، وإن وجدت إنساناً على كوكب المريخ أنا معه، بغضّ النظر عن عرقه ودينه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...