مبان مخروطية الشكل، يتراوح طولها بين 18 و 20 متراً، أعجب بها فلاحون في مصر فبنوها على أسطح منازلهم، إنها أبراج الحمام.
تذكر بعض المصادر إن تاريخها يعود للماضي البعيد، فقد ذكر ابن عبد الظاهر في كتابه "تمائم الحمائم" أن أبراج القلعة بالقاهرة، وأبراج البرقية في الفيوم كانت تحوي قرابة 1900 طائر، في تموز/ يوليو 1288، وهو ما تروجه مواقع مصرية محلية، وتعد مدينة الفيوم أشهر مدينة تهتم ببناء أبراج الحمام منذ القدم.
بناء الأبراج الطينية في محافظة البحيرة
وقد أرجع فخري الباز نائب مدير الإدارة الزراعية، ومدير إدارة الإرشاد الزراعى في الإدارة الزراعية بقطور، في تصريح له انتشار أبراج الحمام في محافظات مصر إلى ستينيات القرن المنصرم.
الحمام كنقود ومقايضة
بعض السيدات في قرى ونجوع مصر يحرصن على جمع الزغاليل، التي تترك في أبراج طينية، منصوبة خصيصاً لتربيتها، إما لبيعها كأحد المصادر البسيطة للدخل أو لاستخدامها في المقايضة، واستبدالها بأشياء أخرى من السوق كالخضراوات والأرز والبيض وغيرها.
الظروف المعيشية الصعبة، وارتفاع الأسعار دفعت بعض ربات البيوت إلى البحث عن بدائل للمال، لتلبية احتياجاتهم اليومية دون الاضطرار إلى إنفاق الكثير منه.
تقول أم إيمان، ربة منزل من قرية مجاورة لمدينة المحلة الكبرى، إن الطيور التي "نربيها في منازلنا، والماشية أيضاً تساعدنا بشكل كبير في توفير متطلباتنا المعيشية".
وتضيف: "نعتمد على الطيور في الأعراس والولائم. طير الحمام على وجه التحديد لا يشكل عبئاً على البيت في تربيته، فنحن نضع له الماء والقمح المتوفر لدينا، وفي بعض الأوقات يخرج من أبراجه لجلب رزقه".
تربية الحمام في البيت، وخاصة داخل البرج الطيني، يساعد أم إيمان في توفير دخل ثابت كل أسبوعين أو كل شهر على الأقل، إذ تستخدمه كنقود، تبيعه وتحصل على اللبن والخضروات والبيض والجبن مقابله، تقول: "سعر زوج الحمام في السوق 50 جنيهاً (ما يقارب 3 دولار) أي يمكن استبدالهما بستة كيلوغرامات أرز أو نصف كيلو غرام من اللحم".
تتذكر أم إيمان نظام المقايضة، الذي عايشته لما يزيد على 30 عاماً، تقول لرصيف22: "في الماضي لم يكن الناس يملكون أموالاً كثيرة مثل اليوم، وكانت الحياة أسهل، فحتى الحلاق وشيخ الكتاب "محفظ القرآن الكريم"، كانا يعملان بهذا النظام أيضاً، السلعة مقابل الخدمة".
تفضل أم إيمان تربية الحمام مقارنة بالطيور الأخرى، كالدجاج والبط، فبالإضافة إلى توفير كلفة التربية، فإنها تكبر وتنضج بعد عدة أيام، وليس بعد شهور من التربية، وكذلك سعر بيعها أغلى".
يشير إبراهيم محمود (34 عاماً) يعمل في مجال بناء أبراج الحمام، إلى رخص ثمن بناء تلك الأبراج، إذ تعتمد على الطمي الرطب بشكل أساسي، لثمنه الزهيد، وسهولة تشكيله، وخصائصه المميزة، مثل انخفاض درجة الحرارة بداخله، مما ينعكس بشكل إيجابي على حياة الطيور.
وتابع: "أول خطوة أقوم بها أثناء بناء تلك الأبراج هي إعداد عجينة أصنعها من الطين والماء، وبعض الحصى الصغيرة والقش أو التبن، لأضيف بعض الصلابة الي العجينة، ثم أبدأ ببناء القاعدة، ولا بد أن تكون صلبة حتى تتحمل البرج. بعدها أشرع ببناء أول ثلاثة أمتار من البرج، وأثبّت بها بعض الأواني الفخارية المصنوعة خصيصاً لأبراج الحمام، والتي تشبه الجرة إلا أن فوهتها أكثر اتساعاً، ثم أنتظر ثلاثة أيام إلى أن يجف الطمي تماماً، ثم أقوم ببناء الثلاثة أمتار التالية، وأظل أتبع هذا النمط حتى يصبح ارتفاع البرج بين 18 و 20 متراً".
بناء الأبراج الطينية في محافظة البحيرة
ويحدد ارتفاع البرج حسب عدد الأواني الفخارية المتوفرة، إذ تحتاج كل ثلاثة أمتار إلى 500 فخارة، وسعر الفخارة الواحدة ثمانية جنيهات (نصف دولار)، ويمكن أن يقوم صاحب المنزل ببناء البرج بنفسه بمساعدة أبنائه أو إخوته.
وقد تعلق الفلاحون بتلك الأبراج، يستطرد إبراهيم، فقاموا ببنائها على أسطح منازلهم الطينية بغرض تربية الحمام كمصدر دخل ثابت للأسرة أو للأكل، إذ يحظى لحم الحمام بسمعة طيبة، أو لاستخدام مخلفاتها مخصبات طبيعية للتربة.
"ذبحت أمي حماماتي وأنا صغير، فبكيت طويلاً، وعندما كبرت بقيت باقضي معظم يومي في غية الحمام، بأكلهم وأطيرهم وأستناهم يرجعوا"
وهناك من يبني هذه الأبراج ليسكنها الطير المهاجر من الدول الأوروبية الباردة، ويتكاثر فيها، وبالتالي يستفيد صاحب البرج من البيض والزغاليل، التي تخلفها هذه الطيور وراءها، كما يعمد بعض رجال الأعمال إلى بناء هذه الأبراج لتوسيع نشاطاتهم، وزيادة رؤوس أموالهم، إذ يضم البرج الواحد مئات الأزواج من الحمام، بحسب إبراهيم.
بناء الأبراج الطينية في محافظة البحيرة
تتذكر أم فاطمة، ربة منزل من قرية بمحافظة المنوفية، لحظة من أشد ظروف حياتها، عندما أصيب والدها بوعكة صحية شديدة، ولم يعد يقوى على العمل، ولم يكن في البيت سوى الطيور، تقول: "كنا وإخوتي نشعر بالجوع الشديد، ولم يكن في منزلنا شيء يؤكل سوى زوجين من الحمام، ودجاجتين صغيرتين، كانت تربيها أمي، أخذتها وباعتها، واشترت لنا 10 بيضات، ودواءً لأبي، وكيلو أرز، وابتسامة النصر على محياها، وقالت لي: "الطيور طول ما هما في البيت مش هتخرج منه البركة أبداً".
لذا، عاهدت أم فاطمة نفسها أنها لن تتوقف عن تربية الحمام والدجاج، وهو ما حدث، فلديها الآن عشرات الأزواج منها، مما يشعرها براحة بالغة.
بناء الأبراج الطينية في محافظة البحيرة
المكاسب العائدة من وراء تربية الحمام عديدة، هناك من يربي الحمام بغرض جني الأموال "التربح"، وآخرون لإشباع غريزة الفوز في مسابقات الحمام، وآخرون بدافع الحب وإشباع الشغف أو بغرض أكله كباقي الطيور التي تُربى منزلياً، وفي كل الحالات فإن عائدها النفسي على المربي إيجابي، ويشعره بالسعادة.
يحكي رمضان محمد (40 عاماً) أنه منذ اللحظة التي ذبحت فيها والدته طير الحمام الذي رباه بكى طويلاً، فاشترت له والدته زغاليل ليربيها.
"كنا جعانين أنا واخواتي لما بابا مرض، وما راحش الشغل، فماما باعت زوجين من الحمام، ودجاجتين، واشترت لنا بيض وأرز ودواء، وقالت لي: طول ما الطيور في البيت البركة مش حتخرج منه أبداً"
يقول رمضان، وهو من المحلة الكبرى: "بقيت بقضي معظم يومي في غية الحمام، وأنا في منتهى السعادة، باحسهم ولادي وبأكلهم وأطيرهم وأستناهم يرجعوا".
وقد جعل رمضان من تربية الحمام روتينه اليومي، فأصبح يمتلك ما يقرب من المئة زوج من مختلف السلالات.
"مسابقات الحمام تُشبع نشوة"
ياسر رمضان (35 عاماً)، يسكن في قرية بمدينة طنطا، ويعمل في مجال صيانة الهواتف المحمولة، مولع بسباق الحمام، الذي يقام تحت إشراف جمعيات الحمام الزاجل، ويكمن دور الجمعية في تحديد موعد السباقات، وبعض المحطات لإطلاق الحمام منها: مدينتي، العلمين الجديدة، وأسوان.
وتنقسم المسابقات إلى كبيرة (أي على مستوى الجمهورية) أو مباريات ودية بين المدن.
عن طرق المشاركة بتلك المسابقات، يقول: "المشترك يدفع 200 جنيه (ما يقارب 13 دولار) قبل بدء السباق بيوم، ويحصل على جهاز متصل بالإنترنت "ساعة إلكترونية"، وإسوارة يتم ربطها في إحدى قائمتي طير الحمام، ووظيفة تلك الإسوارة تحديد موعد وصول الطير إلى المحلة المستهدفة، وحساب السرعة التي طارت بها".
ولفت رمضان إلى أهمية المسابقات لمربي الحمام خاصة الزاجل، لأن الفوز بتلك المسابقات يرفع من سعر الحمام، ويميز السلالات الفضلى، بالإضافة إلى الجوائز التي يحصل عليها المربي عند الفوز في المسابقة، والتي قد تصل إلى سيارة موديل السنة للفائز بالمركز الأول على مستوى الجمهورية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...