مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في سوريا، والمقرّرة في السادس والعشرين من أيار/ مايو الجاري، قد لا يبدو المشهد داخل البلاد مختلفاً بشكل كبير عن أي انتخابات أو "استحقاقات" رئاسية سابقة، وآخرها كان عام 2014، سواء من حيث التحضيرات لها، أو الاحتفاء بها على أنها "عرس وطني"، كما تسميها وسائل الإعلام المؤيدة للنظام.
لكن تضييق زاوية الرؤية والاقتراب أكثر من تفاصيل المشهد، والحديث مع سوريين يعيشون في مدن ومحافظات مختلفة، تكشف عمّا يشبّهه كثيرون بأنه "ممارسة ديمقراطية لا تتوفر لها أي من شروط الديمقراطية"، أو "مسرحية لا تشبه بهزليتها أي شيء عشناه من قبل". وكأنها انتخابات تجري داخل سجن يسيطر عليه واحد من المرشحين، وجلادوه واقفون فوق رؤوس السجناء وهم يدلون بأصواتهم، لكنهم غير مرئيين لكاميرات التصوير التي تلتقط ما يحدث من زاوية واحدة، فلا يظهر سوى أناس يحتفلون وهم يصوّتون بكامل قناعتهم وإرادتهم.
حملات انتخابية
في منتصف نيسان/ أبريل الفائت، أعلن مجلس الشعب السوري موعد الانتخابات، وفُتح باب الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، وهو إجراء تشهده البلاد للمرة الثانية منذ استلام حافظ الأسد سدة الحكم عام 1971، والأولى كانت عام 2014، ولم يسبقها أي انتخابات بمعناها الفعلي، ولو أن العملية كانت شكلية، وإنما كان يوجد ما اصطلح على تسميته "تجديد البيعة" لمرشح واحد هو الرئيس ذاته. إلا أن الدستور الذي أُقرّ عام 2012 نصَّ على "انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة".
كأنها انتخابات تجري داخل سجن يسيطر عليه واحد من المرشحين، وجلادوه واقفون فوق رؤوس السجناء وهم يدلون بأصواتهم.
تلقى مجلس الشعب 51 طلب ترشح للمنصب مع نهاية نيسان، معظمها لأشخاص لا ثقل أو حضور واضحاً لهم في الحياة السياسية. وبعد إتمام الإجراءات التي ينصّ عليها الدستور، من منح أعضاء مجلس الشعب تأييدات خطّية للمرشحين، ثم دراسة طلبات الترشّح من قبل المحكمة الدستورية العليا، أُعلنت أسماء المتنافسين النهائيين، وهم عبد الله سلوم عبد الله (عضو المكتب السياسي لحزب الوحدويين الاشتراكيين)، بشار الأسد (رئيس البلاد منذ عام 2000)، ومحمود مرعي (يعرّف عن نفسه بأنه معارض ومحامٍ).
بعد ذلك بأيام، بدأت الحملات الانتخابية للمرشحين الثلاثة تغزو شوارع المدن السورية ومختلف وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تحت عنوان "الأمل بالعمل" لبشار الأسد، و"معاً" لمحمود مرعي، و"قوتنا بوحدتنا" لعبد الله، إلا أنها لم تكن حملات متكافئة على الإطلاق، بحسب وصف كثيرين ممن يعيشون في مناطق سيطرة الحكومة السورية.
من شوارع دمشق - المصدر: صفحة صوت العاصمة
يقول صحافي وناشط يعيش في دمشق، وفضّل الحديث بدون اسم لرصيف22: "بمقارنة الحملات الانتخابية الثلاث كمّاً ونوعاً، نلاحظ وبكل سهولة الفروق بينها. بينما نرى صوراً هائلة الحجم لبشار الأسد، سواء تلك المتعلّقة بحملته أو التي يقدمها تجّار ومسؤولون ومتنفّذون، وكثر منهم أسماء علا شأنها فقط خلال سنوات الحرب، نرى صوراً صغيرة للغاية ومجرد لوحات متناثرة هنا وهناك للمرشحين الآخرين، ما دفع كثيرين للتهكم والتساؤل: أليس لهم على الأقل عائلة وأصدقاء؟ لكن الجواب جاهز على الفور: فهل هناك مَن يتجرّأ على دعم مرشح آخر عدا الأسد؟".
من شوارع دمشق - المصدر صفحة عدسة شاب دمشقي
علاوة على ذلك، وكما هو الحال في كافة الانتخابات والاستفتاءات السابقة خلال العقود الخمسة الأخيرة، انتشرت خلال الأيام الفائتة مهرجانات وخيم انتخابية لدعم المرشحين، لكن الملفت للنظر فيها، كما هو متوقع على الأغلب، اقتصارها على دعم بشار الأسد دون المرشحين الباقين.وينوّه الصحفي أيضاً إلى الفرق الكبير في الترويج للمرشحين على مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام، فصفحة حملة بشار الأسد على فيسبوك تستقطب أكثر من 130 ألف متابع، بينما لا يتجاوز عدد متابعي الصفحتين الأخريتين بضع مئات أو آلاف بأحسن الأحوال. ومن باب الخجل ربما، تستضيف المحطات السورية الرسمية كلاً من مرعي وعبد الله للحديث عن برنامجيهما الانتخابيين، "في حين لا يحتاج الأسد للتصريح عن شيء، فهو حاضر في أذهان السوريين ليل نهار".
"خيمة انتخابية" في دمشق - المصدر: صفحة صوت العاصمة
فهم خاطئ للديمقراطية
في لقاء مع التلفزيون السوري بتاريخ 19 أيار/ مايو، تحدث المرشح عبد الله عبد الله عن ترشّحه باعتباره "تكليفاً من حزبه" وبموافقة "أصدقائه" من أعضاء مجلس الشعب، وعن مشاركة أعضاء من حزبه في القتال إلى جانب الجيش العربي السوري في حربه على "الإرهاب" حسب وصفه، وعن أهمية تطوير "الجبهة الوطنية التقدمية"، وهي ائتلاف من مجموعة أحزاب يقودها حزب البعث الذي حكم سوريا لعقود، وعن أهمية أن يتوحّد السوريون وينسوا خلافاتهم لمواجهة العدو الخارجي، وعن عدم رغبته بتحميل الدولة السورية أكثر مما تتحمّل في ما يخصّ تأمين الخدمات الأساسية للسوريين، خاصة المهجّرين من منازلهم."عن أي تطوير وأي جبهة يتحدث، والجبهة بحد ذاتها أصدرت بياناً منذ أيام تدعم فيه بشار الأسد لحكم سوريا سبع سنوات أخرى؟ كأننا أمام فهم خاطئ تماماً للديمقراطية والانتخابات والتعددية. يا ليتنا نعود إلى أيام المرشح الواحد والحزب الأوحد، على الأقل كانوا حينذاك أكثر مصداقية"، تقول أمل، وهي ناشطة مدنية تعيش في مدينة طرطوس، فضّلت الحديث لرصيف22 باسم مستعار، وتضيف بأن واحدة من أكثر النكات انتشاراً الآن في سوريا هي أن كلاً من عبد الله ومرعي سينتخبان بشار الأسد دون شك: "لن يتجرّؤوا على عكس ذلك".
من ساحة الأمويين بدمشق - المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية
هذا الفهم الخاطئ أو "الممسوخ" لفكرة الديمقراطية والانتخابات كما يصفه البعض، يتجلّى في العديد من المظاهر الأخرى. على سبيل المثال، نشرت نقابة الفنانين منذ حوالي أسبوعين بياناً تدعم فيه الانتخابات التي قالت إن محامي سوريا سيخوضونها بكل حرية وجرأة وسيقولون نعم لبشار الأسد. وبالشكل ذاته دعمت نقابات أخرى مثل نقابة المهندسين والأطباء وحتى اتحاد الصحفيين ترشح الرئيس الحالي، الأمر الذي دفع بسوريين للتساؤل حول مدى التطبيق الحقيقي والفعلي لفكرة "النقابة" التي يفترض أن تكون جزءاً من مجتمع مدني داعم لكل السوريين دون استثناء، وليس شريكاً في أي استقطاب سياسي.
"عن أي تطوير يتحدث، والجبهة بحد ذاتها أصدرت بياناً منذ أيام تدعم فيه بشار الأسد لحكم سوريا سبع سنوات أخرى؟ كأننا أمام فهم خاطئ تماماً للديمقراطية والانتخابات والتعددية. يا ليتنا نعود إلى أيام المرشح الواحد والحزب الأوحد، على الأقل كانوا حينذاك أكثر مصداقية"
"ليش مانك معلق صورة الرئيس؟"
في جولة على شوارع وأسواق مختلف المدن السورية، لا تصعب ملاحظة انتشار ملصقات موحّدة الحجم والشكل، عليها صورة لبشار الأسد وعبارة "كلنا معك". في حديث مع بعض أصحاب المحال والمقاهي، أشاروا إلى وجود حملة منظمة للأمر، من قبل دوريات تابعة لمختلف الأفرع الأمنية والبلديات."جاؤوا إلى محلي منذ أيام وسألوني لماذا لم أعلق صورة بشار الأسد على الواجهة؟ استدركت الأمر سريعاً وأحضرت صورة قديمة كانت موضوعة في أحد الأدراج، لكن لم يعجبهم الأمر، وفي اليوم التالي وزّعوا على كافة المحلات في الشارع نفس الصورة وطلبوا منا تعليقها. مَن سيجرؤ على أن يعارض الأمر؟"، يقول صاحب أحد محال بيع الخضار في منطقة المزة-شيخ سعد في دمشق لرصيف22.
بشكل مشابه، تحدث صاحب أحد المقاهي الواقعة وسط دمشق لرصيف22، قائلاً إنه استبق الأمر وعلق صورة للأسد على واجهة المقهى، لكنه لم ينجُ من حملة توزيع الصور الموحدة. أضاف بلهجة ساخرة: "صحيح أنني لن أنتخب لكني علقت الصورة ولم أشعر بأي ذنب. هي اليوم مجرد إجراء لدرء الخطر والشبهة، ولا أعتبرها إعلاناً عن أي موقف سياسي أو فكري".
هذه الحملة الممنهجة لإجبار أصحاب المحال والمقاهي على وضع صور بشار الأسد دفعت بالبعض للقول بسخرية إن الخطوة التالية ستكون إجبار أصحاب السيارات على ذات الأمر، وربما إلزام كل عائلة على وضع صورة على الأقل في غرفة المعيشة، حتى لو كانت غرفة مدمرة في واحدة من المدن المنكوبة، فالصورة أهم من كل شيء.
"جاؤوا إلى محلي منذ أيام وسألوني لماذا لم أعلق صورة بشار الأسد على الواجهة؟ استدركت الأمر سريعاً وأحضرت صورة قديمة كانت موضوعة في أحد الأدراج، لكن لم يعجبهم الأمر، وفي اليوم التالي وزّعوا على كافة المحلات في الشارع نفس الصورة وطلبوا منا تعليقها"
ولم تقتصر حملة الصور والتأييد الإجباري على ذلك، بل طالت العديد من المؤثرين والعاملين في الشأن العام. يتحدّث لرصيف22 شخص من داخل الوسط الفني، فضل عدم الكشف عن اسمه، حول مطالبات مباشرة وغير مباشرة من الأفرع الأمنية للفنانين على اختلافهم بأن يعلنوا تأييدهم لبشار الأسد في الانتخابات. يضيف: "يطلبون من الجميع، عن طريق زيارات واتصالات وحتى رسائل على تطبيقات التواصل، أن ينشروا صوراً أو مقاطع فيديو حول الانتخابات. البعض من الأساس مؤيدون فعلاً للرئيس الحالي، لكن بشكل تلقائي سيلجأ الجميع للتصريح بأنهم يدعمون الأسد، فلا خيار لهم، ومَن رفضوا الأمر برمته قلائل للغاية، فهو يتطلب جرأة كبيرة".
المناطق المدمرة
لا يختلف الحال كثيراً في المناطق التي خرجت عن سيطرة الحكومة السورية لصالح فصائل المعارضة خلال سنوات الحرب، ثم عادت بعد معارك عنيفة أسفرت عن خسائر بشرية ومادية هائلة، تمثلت في قتل وجرح ونزوح الآلاف ودمار واسع للمنازل والبنى التحتية.
يجبرون أهالي الغوطة الشرقية على إلصاق صور لبشار الأسد، وهناك شعور عام بالخوف من عدم الخروج في مسيرات مؤيدة له.
منذ بدء الحملات الانتخابية، يبدو واضحاً إصرار النظام السوري على إظهار حالة مبالغ بها من التأييد له من داخل المناطق التي خرجت ضده عام 2011، مع نشر صور ومقاطع من المهرجانات والاحتفالات من غوطتي دمشق الشرقية والغربية، وحلب وحمص وغيرها، مع عبارات رنانة مثل "سننتخب رغم الأصوات الحاقدة" أو "فرحة الأهالي بمشاركتهم في إعادة إعمار سوريا" أو "سننتخب لمستقبل أفضل يجمع كل السوريين".
تحدث لرصيف22 شاب عشريني مقيم في مدينة دوما، كبرى مدن الغوطة الشرقية والتي كانت معقلاً أساسياً للثورة ثم للحراك المسلح، شارحاً الوضع: "هناك غضب عارم في عموم مناطق الغوطة. يجبرون الجميع على إلصاق صور لبشار الأسد، وهناك شعور عام بالخوف من عدم الخروج في مسيرات مؤيدة له. نتمنى لو كان بإمكاننا أن نرفع صوتنا ونقول للجميع بأننا لم ننسَ كل مَن دفعوا أرواحهم ثمناً لحلمنا بمستقبل أفضل، لكن ما باليد حيلة"، يختتم حديثه بصوت منكسر.
في المقابل، نشرت العديد من الصفحات المحلية أنباء عن كتابات وشعارات رافضة للانتخابات ومناهضة للأسد، انتشرت مؤخراً في عدد من المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة في السنوات السابقة، مثل بعض مناطق دمشق وريفها. ورغم محدوديتها، تبقى مؤشراً على وجود رفض واستنكار لفكرة الانتخابات بهذه الطريقة وضمن الظرف الاستثنائي الذي يعيشه السوريون اليوم.
صورة متداولة من ريف دمشق - المصدر: صفحة صوت العاصمة
ويبقى السؤال: هل نشارك أم لا؟
في بلد يرزح تسعون بالمئة من سكانه تحت خط الفقر، وتنعدم مقومات الحياة فيه، ويستمر حكمه بعقلية أمنية لم تتغير منذ عقود، يبدو سؤال "هل نتوجه لصناديق الاقتراع يوم الأربعاء أم لا؟"، سهلاً وصعباً للغاية في آن واحد.يقول صاحب مكتبة صغيرة في واحد من أحياء دمشق الشعبية، إن هذا السؤال يؤرّقه منذ أيام. يضيف لرصيف22: "لست مقتنعاً بكل العملية الانتخابية، فكل ما يحدث هو مسرحية لم يتقنوا حتى إخراجها، ولست مؤيداً لبشار الأسد بطبيعة الحال، لكنني أفكر بتبعات عدم الانتخاب. هل يعقل أن يسجلوا بيانات كل المنتخبين، ويحاسبوننا يوماً ما على عدم مشاركتنا؟".
"كأننا في السجن"، تصف ناشطة ثلاثينية من مدينة حمص الأمر لرصيف22، مستذكرة ما حصل معها عندما كانت في السجن المركزي عام 2014، بسبب مشاركتها في الحراك ضد النظام: "في يوم الانتخابات، بداية شهر حزيران/ يونيو 2014، أخرجونا من غرفنا في الصباح الباكر، وجلبوا صناديق اقتراع وأوراقاً، وأمسكوا بأصابعنا وغطسوها بالحبر الأزرق ووجهوها نحو صورة بشار الأسد على ورقة الاقتراع. مارسنا حينها حقنا الدستوري بالانتخاب بكل ديمقراطية، لكنها ديمقراطية الجلاد الواقف فوق رؤوسنا، وهو يحمل بيده اليمنى ورقة الاقتراع، وباليسرى سوطاً ينهال به على أجسادنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.