تُلقّب موسيقى الراب بموسيقى "الشارع" أو موسيقى "المهمشين"، موسيقى المغضوب عليهم والمنسيين. وقد خرج هذا الفن "الثوري" من رحم معاناة سكان أمريكا "السود" –من أصول إفريقية- في أوائل السبعينيات في الأحياء الهامشية بالولايات المتحدة، ضد القمع والعنصرية التي يتعرضون لها من قبل "البيض".
فن الزنقة
ويعود تاريخ ولوج موسيقى وأغاني فن الراب إلى المغرب إلى بدايات التسعينيات من القرن الماضي، باعتباره فناً بديلاً وصوتاً لمن لا صوت له، لهذا سيتم نعته بفن "الزنقة" (الفن الهابط أو السوقي) لما أحدثه من صدمة وسط الساحة الفنية، وما أنتجه من خلخلة للذائقة الموسيقية المغربية التي كانت لا تزال متأثرة بالحركة الغيوانية (نسبة لناس الغيوان وباقي الفرق الموسيقية الأخرى) والموسيقى المغربية الشعبية بأنواعها.
فكان من الصعب تقبل هذا المد الشبابي الذي ركب موجة التغيير باحثاً عن إبراز صوته والجهر به، وقول ما يراه ويحسه عبر موسيقى مغايرة وجديدة، عبر إعلاء صوته وإحداث الجلبة والضجيج حتى يتم الانتباه لهمومه وأزماته.
لهذا سيتم ربطها وإلحاقها بمصطلح "حيحة" أو "نايضة"، حتى يتم "مغربة" هذه الموسيقى، إذ ستجمع بين العديد من إيقاعات الموسيقى المغربية التقليدية والراب الغربي، واستعمال خليط من اللغات واللهجات الموروثة من تاريخ البلد، كالدارجة المغربية واللهجة الأمازيغية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية. وكانت صيغة البدء، أو "التجريب"، مع مجموعة Les Dragons Blancs "التنانين البيض"، في مدينة سلا، سنة 1993، بقيادة الرابور Aminoffice.
يعود تاريخ موسيقى وأغاني الراب في المغرب إلى بدايات التسعينيات، باعتباره فناً بديلاً وصوتاً لمن لا صوت له، لهذا سيتم نعته بفن "الزنقة" (السوقي) لما أحدثه من صدمة وسط الساحة الفنية
غير أنه لا يمكننا أن نعتبر لحظة ميلاد الراب المغربي، بالشكل الفعلي، إلا في سنة 1996، إذ ستغني فرقة الراب "Double A"، بعضاً من أغانيها، بقيادة أمين-أوفيس، ليلة رأس السنة الجديدة 1997 على القناة الثانية المغربية M2.
وهذا العام سيشهد إطلاق الألبوم الثاني للفرقة: "الأرض بكات"، وسوف يليه الألبوم الثالث "معاك ديما معاك"، والذي سيعلن نهاية الفرقة الأسطورية "Double A" وبداية مسيرة أمين-أوفيس المنفردة، ما سيعطي الشعلة الرسمية لميلاد هذا الفن وخروجه إلى العلن في بلاد المغرب.
"المدرسة الجديدة" تتحرر من القيود
غير أن هذه "الظاهرة الموسيقية" الجديدة لم تلق رواجاً وقبولاً كبيرين، حتى مطلع الألفية الثالثة وبروز منصات لتشغيل مقاطع الفيديو على الإنترنيت، مثل اليوتيوب، وإنشاء "البولفار" (الشارع)، سنة 1999، هو مهرجان للموسيقى الحضرية في مدينة الدار البيضاء.
ليتم الالتفاف حولها من قبل جيل الشباب الجديد في المغرب المتحمس لكل جديد. وبالتحديد منذ سنة 2003 وما بعدها، ليصير هذا الفن جزءاً لا يتجزأ من الهوية الموسيقية المغربية المعاصرة.
إلا أنه قد بدأ "رجالياً"، إذ كانت كل الأسماء الغنائية بصيغة المذكر. وكان من الصعب على المرأة المغربية آنذاك أن تعبّر عن همومها ومشاكلها بصوت الشارع، بل كان من الصعب أن تلج الأنثى عالم الغناء في حد ذاته. فقد كانت ثقافة "حشومة" و"عار" و"عيب" هي التي تتحكم في الذائقة، رغم الثورة التي أقبل عليها الجيل الأول من هؤلاء الشباب المتحمسين للتغيير.
إذ كان من المستحيل إيجاد فتيات في مقدورهن الرقص أو التواجد في فيديو كليب غنائي للراب، فما بالك بالقدرة على الغناء من خلال هذه الموسيقى "الزنقوية"، كما كانت تُنعت.
"يكفي خوف، ارفعوا رؤوسكم أيها المغاربة الأحرار يكفي خوفاً/ ارفعوا أياديكم عالياً معي أيها الذين لا يتملك قلوبهم الخوف/ تخافون من الشرطة ومن السلطة ومن الذين أصحاب الأموال"
سوف تشكل قفزة الألفية الجديدة، مع بزوغ فجر الإنترنت داخل هذا البلد العربي الإفريقي، متنفساً نوعياً مكّن هذه "الموجة" الغنائية المعاصرة أن تجد لها موطئ قدم في عالم الغناء بالمغرب، وخاصة بفعل تحمّس جيل شباب المنتمي لعقد الثمانينيات إلى التحرر من قيود كل تلك التراكمات الفنية التي رأى أنها متقادمة ومتهالكة، باحثاً عن إعلاء صوته عبر ما هو جديد ويتماشى مع العصر.
فكان من بين أول الأسماء التي سوف تُعرف وتشتهر من خلال هذا اللون الموسيقي المعاصر، توفيق حازب المعروف بـ"البيغ" و"مسلم" إلى جانب مجموعة "عاود ليل"، التي بدأ معها أول مرة سماع الكلام "النابي" في الأغاني بالمغرب.
ومن ثم مجموعة "آش كاين" "وكازا كراو" وغيرهم من الأسماء والمجموعات، وصولاً إلى سنة 2010 ليبزغ فجر ما سُميَ بـ"المدرسة الجديدة"، مع "ديزي دروس" و"حليوا" و"ميستر كريزي" و"الحاقد" الذي اشتهر باعتباره الصوت الغناء الشاب لحركة 20 فبراير، وهو الآن لاجئ في هولندا.
وقد عُرفت كل هذه الأسماء منذ بداياتها بمواضيعها "الساخنة" المرتبطة بالحرية والكرامة وحقوق الإنسان والتسامح والعدالة الاجتماعية، وكل المشاكل التي يعاني منها الإنسان المهمش تحت وطأة القمع والاحتقار.
وإن اختلفت في إدراج الكلام النابي في أغانيها، فهذا عثمان بنحمي عضو فرقة "آش كاين" يقول بأن الراب الحقيقي يتمثل في الدفاع عن قضايا تهم المجتمع، بعيداً عن الكلمات النابية، وإذا أحب الشخص انتقاد زميل له في المجال، فيلزم، يشدد بنحمي، "أن يكون بطريقة احترافية دون المس بشرف العائلات، والدراري الله يهديهم".
هو موقف يبرز مدى الاختلاف بين نجوم هذا الفن في الساحة المغربية، رغم أنهم يشتركون في القضية عينها، الدفاع عن "الكرامة"، كما يقولون جميعاً.
من كلمات أغنية دون البيغ: "براكا من الخوف، هزو ريوسكم يا لي مغاربة حرار وبراكا من الخوف/ هزوا يديكم معيا يا لي في قلوبكم ما كاينش الخوف/ خاف من البوليس خاف من الجماعة وخاف من لي عندو الفلوس/ تخافو من كلشي ماتخافوش من الله...".
وهو ما يعني: "يكفي خوف، ارفعوا رؤوسكم أيها المغاربة الأحرار يكفي خوفاً/ ارفعوا أياديكم عالياً معي أيها الذين لا يتملك قلوبهم الخوف/ تخافون من الشرطة ومن السلطة ومن الذين أصحاب الأموال/ تخافون من الكل ولا تخافون الله...".
أصوات نسائية تحارب نظرة المجتمع
إلا أننا سننتظر سنوات أخرى قليلة، بعد غزو الإنترنت لبروز أسماء نسائية بشكل ملحوظ في ألوان غنائية متعددة، بفضل تلك البرامج الغنائية والتسابقية التي تم بثها في قنوات عديدة، ما مهّد لفجر مرحلة جديدة، وهي المرحلة التي سيتمكن فيها الصوت النسائي من البروز والكشف عن نفسه ومواهبه في هذا اللون الغنائي، بشكل ملحوظ وغير محتشم كما كان؛ بعدما استحوذ الذكور لما يقارب العقدين في المغرب على عالم الراب.
أسماء نسائية شابة مثل، "نوال" و"قرطاسة النساء" و"هدى أبوز" الملقبة بـ"اختك" وغيرهن.
لم يكن من اليسير أن تعتلي المرأة منصات المهرجانات والمسارح وتغني ضمن جنس الراب، الذي احتكره الذكور ونُظر إليه على أنه فن الشارع، فن "الزناقي". لهذا شكل ولوجهن لهذا العالم الفني ثورة وتمرداً. إنهن الجنس الناعم، فكيف يعقل أن يزاحمن الذكور في مجال "خشن" وذكوري بامتياز؟
ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل فعال في بروز الأسماء النسائية المنتمية للراب. رغم كل الانتقادات التي تطالهن من قبل البعض، الذي لا زالوا يعتبرون هذا اللون الغنائي حكراً على "الرجال"، وينظرون إلى الفتاة التي تنطق بالكلمات "النابية" نظرة الريبة والاحتقار.
في الوقت الذي يرى فيه مجموعة من الشباب، وخاصة الفتيات، أن ولوج النساء إلى موسيقى الراب هو قفزة نوعية في تاريخ الفن بالمغرب، وعلامة على منعرج تحرر وتحرير المرأة من كل القيود الذكورية التي سيطرت عليها. إلا أن الأمر بالنسبة لهن يظل غير كاف في ظل وجود تيار محافظ يحارب كل إمكانية التحرر الممكنة للمرأة في المغرب. إذ بالنسبة لهؤلاء يُعدّ فعل غناء المرأة لفن الراب "تسليعاً" لجسدها، لا يخدم الفن.
لم يكن من اليسير أن تغني المرأة "الراب" الذي احتكره الذكور ونُظر إليه على أنه فن الشارع، فن "الزناقي". لهذا شكل ولوجهن لهذا العالم الفني ثورة وتمرّداً، إنهن الجنس الناعم، فكيف يعقل أن يزاحمن الذكور في مجال "خشن" وذكوري بامتياز؟
لكن أغاني الراب النسائية استطاعت أن تبلغ ملايين المشاهدات على منصة اليوتيوب؛ أغنية "النية" للفنانة منال مثالاً، تجاوزت 35 مليون و900 ألف مشاهدة. ما يؤكد الإقبال الملحوظ على الصوت النسائي، وأيضاً يبرز مدى أثره وتنافسيته في الساحة الغنائية المغربية المعاصرة. ونلاحظ أن جلّ أغاني الراب التي تغنى بصيغة نون النسوة، تلامس قضايا الأنثى الاجتماعية والثقافية وتبتعد عن القضايا المجتمعية والسياسية والحقوقية.
وغالباً ما تكون أغانيهن تعبيراً عن الواقع المعيشي للنساء. وإن قالت مغنية الراب "هدى أبوز"، في إحدى حواراتها إنها تأثرت بالاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية التي هزت أنحاء المغرب عام 2011 خلال ما يعرف "بالربيع العربي"؛ إلا أنها تؤكد "مجال غناء الراب هو شغفي، وهو أداة الدفاع التي أستخدمها في مواجهة مجتمع ذكوري".
وهو عينه ما نلمسه في كلمات أغنية "النية"، مثلاً، والتي تتناول فيها موضوع الزواج وعلاقة الحب والتعارف بين الرجل والمرأة:
"بغيتي نكون لك تكون ليا/ جي لدارنا بلا مدور بيا/ غي لوقت لي ظايع ليا/ صحاب لك باقا مزالا نية".
أي: "هل تريد أن نكون لبعضنا البعض/ أطلب يدي من أهلي دون لف ودوران/ يكفيني ما أضعته من وقت معك/ هل تظني ما زلت غبية".
يتعلق الأمر بالنسبة لفنانات الراب، بشكل خاص، بمواجهة الذكورية، من أجل إعلاء صوتهن الذي ظل مقموعاً، صوت النساء، لهذا نجد المغنية منال قد تعاملت في فيديو كليب أغنيتها مع الفنانة النسوية الشابة المعاصرة "إناس بوعلو"، المعروفة بمواقفها الجريئة والمتحررة. إذ تتقاطع مواضيعها الفنية عن "العذرية" مع مقطع واضح في فيديو كليب أغنية "نية" لمنال.
صوت الراب النسائي في المغرب، هو صوت عالٍ واحد يرنو إلى إسماع قصص المرأة بالتحديد ومعاناتها، في ظل مجتمع مغربي يعج بالمتناقضات، بين الانفتاح والمحافظة، بمواجهة الذكورية
يتضح لنا من عدد المشاهدات لفيديو كليبات مغنيات الراب، على منصة اليوتيوب مدى الشعبية التي تعرفها هذه "الموجة النسوية" الجديدة، التي تتحدى الذكورية والمجتمع المغربي المحافظ معاً. أو كما تؤكد المغنية منال قائلة: "أحاول دائماً من خلال فني أن أضع المرأة المغربية خاصة والعربية عامة في المكانة التي تستحقها والتي تختلف عن النساء في باقي البلدان".
من أغنية "فتيلة" للمغنية اختك: "We back/ كنبغيو نزيدو القدام كيجورونا/ نوحلو معاهم وسط الزحام/ ادينا على ودنينا باش ما نسمعوش داك الكلام/ واحلا بين العيب والحراب، في قلبي/ العافيا وف ايدي lame".
أي: "عدنا/ كلما أردنا أن نتقدم أعادونا إلى الخلف/ لنظل عالقات معهم في الزحام/ نضع أيادينا على آذاننا كي لا نسمع نفس الكلام/ إني عالقة بين العيب والحرام، وفي قلبي النار وفي يدي المنشار".
صوت نساء الهامش: جرأة ونقد لاذع
إنهن عالقات إذن بين نيران المجتمع وعيوبه ومحرماته، إلا إنهن جئن يحملن منشاراً لفك القيود للخروج من الضيق والاختناق. غير أن عالم الراب في المغرب يظل صعباً على كل من الرجال والنساء على حد سواء، لما يتطلبه من شجاعة في ولوج متاهاته المعقدة، وما يبتغيه من استمرارية توازيها التضحية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
"هل تريد أن نكون لبعضنا البعض/ أطلب يدي من أهلي دون لف ودوران/ يكفيني ما أضعته من وقت معك/ هل تظني ما زلت غبية"
إذ يضطر المغني للتكفل بإنتاج عمله من ماله الخاص، إلى جانب مواجهة المجتمع وقيمه الثابتة، وأيضا تحمّل نتائج تلك "الصدمات" و"التصادمات" التي يخلقها العمل الفني، بفعل ما يحتويه من كلمات "غير مقبولة" بالنسبة للفئة المحافظة وهي الفئة العريضة. والأمر مُضَاعف بالنسبة للفتيات اللواتي يتحدين الكل من أجل اعتلاء المنصة ورفع صوتهن في وجه المجتمع، وقول ما يخالجهن والإفصاح عن همومهن النسائية.
في الوقت الذي يُنظر إليهن بعين الريبة من قبل المجتمع، الذي ما زال لم يتقبلهن بالشكل المرجو، كما يطمحن. وليس من السهل على المجتمع المغربي أن يتقبل فتاة تشتم في أغانيها. إذ تعرضت الفنانة إلهام بنت الستاتي لهجوم بقنانٍ بلاستيكية والشتم خلال صعودها منصة مهرجان "البولفار"، سنة 2018. بسبب احتواء أغانيها على "الكلام الفاحش" كما وُصفت.
لكن عالم الراب لم يكن أبداً مفروشاً بالورود، فهو وليد الشارع وصراعاته وخصوماته ومشاكله وأزماته، لهذا فالفنان الذي يطأ أرض هذا العالم عليه أن يتحصن بقابلية الاستمرار ومناعة التقبل.
والأمر مضاعف بالنسبة للفتيات اللواتي اخترن بشغف دخول هذا المعترك، الذي يعرف معارك طاحنة بين المغنين أنفسهم، كحرب "الكلاشات"؛ فعليهن إذن أن يكنّ على أتم استعداد لحمل سلاح "الكلاش" وارتداء عبادة التمرد ضد المجتمع الذي لا يزال ينظر إليهن بعين النقص، رغم كل هذا الحضور و"عدد المشاهدة" المرتفع على منصات الإنترنت.
وفي الأخير، فإن صوت الراب النسائي في المغرب، هو صوت عالٍ واحد يرنو إلى إسماع قصص المرأة بالتحديد ومعاناتها، في ظل مجتمع مغربي يعج بالمتناقضات، بين الانفتاح والمحافظة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...