شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
فيلم الأسئلة الوجودية

فيلم الأسئلة الوجودية "روح"... ظلمَه السّود وأنصفته الأوسكار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 18 مايو 202105:51 م

فيلم "Soul" الذي اقتنص جائزتي أوسكار 2021 لأفضل فيلم رسوم متحركة وأفضل موسيقى تصويرية، أقل أفلام شركة "بيكسار" حظاً، لعرضه في عام سيطر عليه الفزع من وباء كورونا الذي أغلق، للمرة الأولى، دورَ العرض الأمريكية طوال عام 2020، فلم يحظَ الفيلم بنسبة مشاهدة عالية، كأفلام بيكسار السابقة. في هذا العمل غير التقليدي، يأخذنا المخرج بيتر دوكتير إلى عوالم مختلفة، تفاجئ خيال جمهوره الرئيسي من الأطفال.

لكن "Soul" ليس غريباً على شركة بيكسار، رائدة الابتكار والإبداع والمفاجآت. انتهت مشاهدتي الأولى للفيلم، ولازمتني حالة الدهشة إلى حدّ السيطرة عليّ. أُدرك أن بيتر دوكتير يهوى الغوص في النفس البشرية بعمق لا يناسب الأطفال كما نعتقد، يضعهم ونحن قبلهم في حالة جدال ذاتي، نطرح أسئلة متعددة اجتنبناها، وقد يصدمنا ألا تكون لها إجابات.

هذه المرة لا يبحر المخرج في شواطئ المشاعر والأحاسيس والأفكار كما في فيلمه "Inside Out"، ولكنه ينتقل إلى مستوى آخر، أكثر عمقاً وتعقيداً، عن الوجود والحياة والروح والجسد وأشياء أخرى، إذ يطرح "Soul" أفكاراً فلسفية وجودية، ويخوض مناطق ميتافيزيقية قد تكون محرمة عند البعض ليفاجئنا من جديد، ويضيف دوكتير جائزة أوسكار ثالثة له كمخرج، والثامنة عشرة لبيكسار صائدة الجوائز.

بعدما أبكانا، رغم الجمال والبهجة، في فيلمه الرائع "UP"، عن رجل مسنّ، يخوض رحلة طويلة ليحقق حلم زوجته الحبيبة الراحلة، وضعَنا المخرج أمام أنفسنا بتأملاته الفلسفية في فيلمه الأروع "Inside Out"، حول فتاة فقدت الشغف بالحياة، وتتصادم بداخلها أفكار ومشاعر متضاربة متقلبة، بين الحزن والفرح والرغبة واليأس، قال إنه استوحاه من حياة ابنته المراهقة التي لم تعد سعيدة كما كانت. ويقول دوكتير، في أحد حواراته، إن فيلمه المدهش "Soul" مستوحى من حياة ابنه الشاب!\

دوكتير يهوى الغوص في النفس البشرية بعمق لا يناسب الأطفال كما نعتقد، يضعهم ونحن قبلهم في حالة جدال ذاتي، نطرح أسئلة متعددة اجتنبناها، وقد يصدمنا ألا تكون لها إجابات

الفيلم من بطولة أمريكي من أصل أفريقي، وهو أمر جيد يحسب لبيكسار، رغم هجوم حادّ من السّود في أمريكا على الفيلم، وهو هجوم غير مبرر إلا لحساسية مفرطة نتاج حقبة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وما ترتب عليها من احتقان خفي ومعلن بين طوائف الشعب الأمريكي، وفي اختلافها يكمن سرّ تفوق أمريكا. لكن لترامب وحساباته المختلّة رأياً آخر، وقد عرض الفيلم بعد تنصيب جو بايدن ونائبته السمراء المنتمية إلى الأقليات كاميلا هاريس، ومحاولات مبكرة تهدف إلى لمّ الشمل. دوكتير اختار المخرج المؤلف الأسود كيمب باورز ـ مؤلف فيلم "ليلة واحدة في ميامي" ـ ليشاركه التأليف والإخراج، اتقاءً للشبهات على ما اعتقد فلم يجتمعا في عمل سابق، ورغم ذلك فلا تزال النار تحت الرماد، ولم يرضَ السّود عن هذا الفيلم.

تدور الأحداث حول "جو غاردنر" مدرس موسيقي في منتصف العمر (يؤديه صوتا جيمي فوكس). "جو" يعشق موسيقي الجاز، وتأتيه فرصة للتعيين بالمدرسة بدوام كامل وتأمين اجتماعي، وهو ما انتظرته أمُّه المكافحة التي تمتلك محلاً للخياطة، وفي الوقت نفسه تأتيه مكالمة من أحد تلاميذه القدامى يزف إليه خبر ترشيحه، ليصبح عازفاً للبيانو بفرقة دوروثي ويليامز عازفة الساكس السمراء الشهيرة، فيطير من السعادة. هكذا ستتحقق أحلامه، ويصبح عازفاً بفرقة جاز كأبيه الراحل. تختبره دوروثي التي تناديه متهكمة بالمدرس، فتُفتن بعزفه بعد حوار موسيقي مبهر بين الساكس والبيانو.

يخرج "جو" من الملهى، ويكاد يجنّ من فرط النشوة، طائراً في عالم آخر، لا يرى أمامه، فيقع في بالوعة للصرف الصحي من دون غطاء بأحد شوارع نيويورك، وينتقل مع الفيلم إلى عالم آخر. يبدو "جو" بهيئة هلامية مضيئة يسير في بهو مظلم على الصراط في السماء، متجهاً في صف مع الأرواح إلى دائرة ضوئية شاسعة يطلق عليها "Great Beyond"، لا يصل إليها، وإنما يفرّ في اتجاه عكسي، فيسقط من الصراط ليجد نفسه في منطقة بألوان زاهية مبهجة، كما لو كانت مدينة ساحرة للملاهي، يطلق عليها "The great before" بمعنى "ما قبل العظيم".

ندرك أننا قبل النهاية، أرواح بلا أسماء، تميزها الأرقام، ويتم إعدادها للحياة واكتشاف الذات، بمساعدة مرشدين مجرّدين يطلق عليهم "جيري"، فيصرخ "جو": "لست مستعداً للموت الآن وقد أصبت هدفي". ويشرح له المرشدون أنه في مرحلة الإعداد للحياة، ولكن لا بدّ لمن يهبط إليها أن يجد "شرارته"، وتقع عينه على روح مضيئة متمردة تحمل رقم 22 تؤديها صوتياً تينا فاي، وهو ما أغضب السّود، لتصريحات سابقة مسيئة ومهينة للسّود من النجمة ذات التوجهات العنصرية.

ويعرف "جو" أن "22" منذ زمن بعيد في مرحلة "قبل الوجود"، لأنها لم تجد شرارتها بعد، ولم تفلح معها كل محاولات الإرشاد، حتى من مشاهير مثل الأم تريزا أو الملاكم محمد علي وغيرهما. المتمردة 22 لا تريد الدنيا، وليس لديها أي شغف بها، وتبدو في غاية الدهشة من تمسك "جو" بالعودة إلى جسده واستئناف حياته رغم بؤسها! ومن أجل أن تكتشف السرّ وراء ذلك، تعلن أنها وجدت شرارتها وتهبط معه إلى الأرض، لكن المفاجأة أنها تحتل جسد "جو" النائم على فراش الرعاية بأحد المستشفيات، في الوقت نفسه تحلّ روح "جو" في القط الملازم له في السرير نفسه، وتبدأ المغامرات بحثاً عن إجابات لأسئلة ستظل تلحّ علينا طوال الفيلم وبعد الانتهاء من مشاهدته: من أنا؟ ولماذا أتيت إلى الحياة؟ وما ماهية الحياة أصلاً؟ ماذا كنت قبل الوجود؟ وماذا أريد؟ وما السعادة الحقيقية؟ وماذا وماذا وماذا؟!

أسئلة وجودية مستوحاة من سارتر، يلقيها الفيلم في وجوهنا، إلا أنه بسلاسة مثيرة يخاطب الأطفال، بلغة الصورة المبهجة التي يحبونها، وبروح كوميدية شائقة ومرحة

أسئلة وجودية مستوحاة من سارتر، يلقيها الفيلم في وجوهنا، إلا أنه بسلاسة مثيرة يخاطب الأطفال، بلغة الصورة المبهجة التي يحبونها، وبروح كوميدية شائقة ومرحة تلازم الفيلم متعدد المستويات. وبحوار عميق يبدو بسيطاً يطرح المخرج/المؤلف تساؤلاته عن الوجود والحريّة والحماس والسعادة؛ وجودك وسعادتك ثمرة خياراتك. لو كانت اختياراتك خطأ فسوف تظلّ روحك عالقة، ضائعة. ماهيتك ستتحدَّد عندما تكتشف/ين ذاتك وما تريد/ين أن تكون/ي. عندما تكتشف/ين شرارتك، سوف تتحد روحك مع الجسد، وتجد/ين نفسك.

تجسد هذه المعاني شخصياتٍ سوداً، جديرة بالاحترام والتقدير: المدرس الفنان "جو" المخلص لعمله وتلاميذه وفنّه رغم افتقاده للشغف، علاقته الرائعة بالروح المتمردة "22" ومحاولاته الصادقة لحثها على أن تجد شرارتها وتبدأ حياتها، علاقتهما على قدم المساواة، فكلاهما أعان الآخر على اكتشاف ذاته، وعلم الآخر ماهية الوجود والحياة والهدف منها، وإن عادت هي متمردة. وأم "جو" تدعم ابنها، وتحاول أن تعلمه الاعتماد على النفس، وتحلم بمستقبل مضمون أفضل له، ورغم رغبتها التي تصطدم بإرادة "جو" إلا أنها أم مضحية وواعية، احترمت إرادته في النهاية، وعبرت عن فخرها به. هناك أيضاً أصدقاؤه، منهم تلميذه الذي قدم له الفرصة تقديراً وامتناناً، والفنانة المخضرمة عازفة الساكس بشخصيتها الأخاذة. حتى الحلاق البسيط ـ الذي تنازل عن حلمه بدراسة الطب البيطري ـ يشعر بالرضا عن نفسه، لأنه يحقق السعادة للآخرين بمهنة تجعلهم أكثر وسامة.

لم نرَ في الفيلم تحقيراً من شأن السود. يوجد حرص مبالغ فيه على ظهور مشرّف لهم، وفخر بنجومهم، أمثال الملاكم محمد علي، ومكتشف بلازما الدم الطبيب الشهير تشارلز درو وهو أمريكي من أصل أفريقي.

أسئلة تظل تلحّ علينا طوال الفيلم: من أنا؟ ولماذا أتيت إلى الحياة؟

وباختياره لموسيقي الجاز، أصدق وأخلص تعبير عن الحرية والانطلاق، يقدم الفليم احترامه لفنّ السّود وإبداعهم. كانت الجاز موسيقاهم المرتجلة تعبيراً عن الحرية والتمرد والأصالة، وكما قال جو غاردنر عن والده بفخر: "الجاز إحدى أعظم مساهمات الأمريكيين الأفارقة في الثقافة العالمية". واستعان دوكتير بجو باتيست أحد عباقرة الجاز السود بنيويورك، عازف البيانو والمدير الفني لمتحف الجاز الوطني بهارلِم والقادم من نيو أورلينز التي نشأت فيها موسيقى الجاز، لينضمّ إلى ترينت ريزنور وأتيكوس روس فريق الموسيقى التصويرية. ورغم فوزهم بالأوسكار، إلا أنني افتقدت حضوراً فريداً لموسيقى الجاز تخيلته قبل مشاهدة الفيلم.

غضب السود لاحتلال روح متمردة لامرأة بيضاء جسد "جو" الأسود، فأعادته إلى الحياة واكتشف ذاته، ثم تركت الأرض في النهاية رغم سعادتها بالتجربة، لتترك له جسده ليعود هو إلى الحياة من جديد، ولذلك معنى يرفضونه خاصة عندما يأتي من الممثلة الأمريكية "تينا فاي" التي أثار وجود وجه أسود في برنامجها التلفزيوني " Rock 30" الرأي العام. ورغم اعتذارها إلا أن ذلك لم يغفر لها عند البعض.

في الفيلم يذهب شخص للبحث عن "جو" فقصد رجلاً أسود آخر، فاعتبر السودُ هذا الخلط، وعدم التمييز بينهما بسبب اللون، نوعاً من الإهانة، بل رأوا في ضمّ المخرج كيمب باورز للمشاركة في تأليف وإخراج الفيلم محاولة لاستغلال فنان أسود، إنقاذاً بيكسار من تهمة العنصرية!

ميراث ثقيل وتاريخ طويل من العبودية والعنصرية والظلم سيظل يطارد الشعب الأمريكي، ولا يترك للسّود فرصةً لتقبل حسن النيات، فالاتهامات قائمة وجاهزة قبل المشاهدة، ولم يغفر لمخرج الفيلم دوكتير كلّ محاولاته للتعبير عن تقدير مجتمع السّود بمشاهد وتفاصيل مقصودة.

ربما ينتهي الجدل، ولكن "Soul" سيظل أنشودة للخيال، وعشق الجمال والجاز وصخب نيويورك وقد أبدع المخرج تصويرها ونقل روحها التي تجسدها تفاصيلها المعمارية، سكانها البيض والسود وشوارعها وبيوتها وناطحات السّحب، كل هذا لخصه فيلم رائع يستحق المشاهدة والتأمل وإعادة الاكتشاف، وبالتأكيد يستحق الجوائز.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image