شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
رسائل غيلان الدمشقي إذ تنكأ الجراح وتوقظ

رسائل غيلان الدمشقي إذ تنكأ الجراح وتوقظ" المسكوت عنه" في بلاد الشام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 19 مايو 202110:29 ص

زمنان وثلاثة أمكنة. الدولة الأموية في القرن الثاني الهجري وسوريا بعد عام 2011. جيرود، ستراسبورغ وتل أبيب. تتحرك رواية الكاتب والروائي السوري جابر بكر "باب الفراديس- الرسائل المفقودة لغيلان الدمشقي" في هذه الأحياز، من خلال عدد من المقاربات والإسقاطات الناجحة على مستوى العلاقة بين الأمس واليوم، وأيضاً العلاقة بين هذه البلدة أو تلك المدينة ضمن "التغريبة السورية" خلال السنوات العشر الماضية.

فصل أموي وفصل معاصر

تبدأ الرواية الصادرة عن "دار موزاييك للدراسات والنشر" عام 2020 بمشهد صلْب غيلان الدمشقي على أحد أبواب دمشق، بأمرٍ من الخليفة هشام بن عبد الملك، وليكون هذا المشهد مَدخلاً إلى شخصية عابدين، ابن بلدة جيرود، السوري الذي عايش بدايات الثورة في البلاد، و"الحفيد المفترض" لغيلان، وهذا الأخير هو أحد القائلين برفض الجبرية والقضاء والقدر في العصر الأموي، أسوةً بعدد من المتكلمين في ذلك العصر.

النظام البطريركي، الأبوي، الذكوري، الشرقي، الذات المهزومة والمنكسرة، النظام السوري وممارساته وارتدادات هذه على مستوى "الفرد" والمجتمع، هي ما يصوره الكاتب عبر شخصية بطل الرواية، عابدين، قبل هربه من بلاد القسوة والفقر والقهر، من سوريا، حيث "المرأة التي تربي أولادها على الكفاف، لا يقدر أي منهم على ارتياد جامعة أو حتى إكمال دراسة المرحلة الإعدادية.

 تتحرك رواية السوري جابر بكر "باب الفراديس- الرسائل المفقودة لغيلان الدمشقي" في أحياز زمنية ومكانية مختلفة، من خلال عدد من المقاربات والإسقاطات الناجحة على مستوى العلاقة بين الأمس واليوم، ضمن "التغريبة السورية"

ينضَحهم الفقر إلى سوق العمل بحثاً عن قوت يومهم. تضرب معاولهم جبال الذل البائسة بحثاً عن أمل بحياة كريمة، فتجيبهم المعاول بشرر الحقد والكراهية". يهتف عابدين من ملجأه الجديد في ستراسبورغ: "بلاد عاشت على القهر كيف لها أن تهدي أبناءها الكرامة؟ كل بلاد كُتب عمرها بحبر الدم لا سلام لها!".

ثمة وجاهة كبيرة تلوح في الترابط الذي أقامه الكاتب بين الزمنين. فالخضوع لسلطة "الحاكم بأمر الله"، خليفة الله على الأرض قبل قرون طويلة، والقول بـ "القضاء والقدر"، يجد معادلاً له في سوريا اليوم على أكثر من مستوى "قدَريّ" إن جاز التعبير. يتبدّى ذلك في الرواية، مثلاً، عبر زيارة عابدين إلى اللواء التاسع والعشرين في سلاح الجو السوري، وليجد نفسه وجهاً لوجه مع المقاتلين "الذين يرون في قائدهم قديساً، ومرات يرونه رباً، وإن لم يفصحوا بصريح العبارة. حظي هؤلاء، كالمرتزقة الأجانب، بالكثير من العناية المالية، فحوافزهم الاقتصادية كبيرة، إلا أن قلوبهم تحمل الكثير من الخوف من قادم الأيام.

أي تغيير يعتبرونه تهديداً لمصيرهم وسلامهم وأمنهم وأمن أحبابهم وأهلهم. خوفهم متجذر بأن بقاءهم مرتبط ببقاء الحاكم بأمر الله. ما أشبه اليوم بالأمس فكلهم يشربون من الكأس ذاتها. شرابهم ذلٌّ بلبوس قوةٍ وسلطةٍ ومال، إلا أن كل ما يملكون لا يدخل جيوبهم ولا يخرج منها إلا بأمره. هو صاحب الحق الأول والأخير والمعطي والمانع، بيده الملك".

"يا أهل الشام، تخيّروا وقع أقدامكم بين نار الجحيم وجنة النعيم. لا تتبعوا إمامة الطغاة، فكم من حق يميتونه وكم من باطل يحيونه. يا أهل الشام إني ميت وإنكم لميتون فاتقوا الله بأنفسكم وعيالكم"

يحرص بكر على تعاقُب فصول الرواية بالتساوي، فصلٌ أمويّ وآخر راهن، معاصر، لا يبخس أحدهما قدر الآخر ولا يتعالى عليه. فـ "هرطقات" يوحنا الدمشقي وتبرّمه من أحوال المسيحيين وسرده تفاصيل عن حيواتهم والظلم اللاحق بهم في زمن عمر بن الخطاب، لا بد أن يليه سردٌ لمعاناةٍ مقلوبة لعابدين وآخرين كثر غيره من "الشرقيين" بعد وصولهم إلى الغرب، والتنميط الذي قوبلوا به وواجهوه فيه.

وفي السياق ذاته، تتبدّى رابطة قوية بين شكوك يوحنا الدمشقي وتساؤلاته عن جدوى ومعاني وعدمية تعدد الأديان، وبين ارتباط عابدين بفتاة إسرائيلية، وما يثيره ذلك لدى الغربيين والإسرائيليين من تساؤلات من جهة، وبينه وبين ذاته من مونولوج داخلي.

ثلاثة أديان لإله واحد

يتساءل الدمشقي: "كيف لإله واحد أديان عدة؟ ألم يكن الإسلام مجرد هرطقة جديدة خرج بها نساطرة تلك الصحراء ليردوا على خسارتهم أمام الكنيسة الأم؟ ملامح نسطور تتجلى في القرآن الذي يرفض صلب المسيح. يقدّمه نبياً كحال محمد وإبراهيم وغيرهم من رسل الله إلى أهل الأرض. الإسلام قول لا يخرج عن قناعات ورقة بن نوفل عم زوجة النبي محمد ومعلمه. كيف صار ديناً؟".

غير أن عابدين، الذي يحلم بدولة تضم المسلمين والمسيحيين واليهود معاً، "قد يكون اسمها فلسطين أو غير ذلك"، يرتبط بتاليا، الفتاة اليهودية وابنة أحد اليهود التوانسة. تحمل تاليا من عابدين وتقرر الإنجاب في إسرائيل، بالتزامن مع ما أثير من كلام عن إمكانية اكتشاف حبيبها، عابدين، مخطوطات أصلية بخط جده المفترض، غيلان، في أحد الأديرة المسيحية هناك.

تستحق هذه الرحلة وقفة خاصة أجاد الروائي استغلالها وتوظيفها لسبر وسرد كل ما تحفل به تلك المنطقة من تناقضات وأسئلة وجودية، دينية وإثنية، سياسية وأمنية.

ذلك أن الضابط يهودا، الذي يحقق مع عابدين فور وصوله إلى مطار تل أبيب، يبدأ بالحديث عما يسميه "بلادنا"، معرباً عن تضامن الشعب الاسرائيلي مع الشعب السوري في محنته. تتدفق الأسئلة إلى رأس الشاب السوري: "كيف للقاتل أن يتضامن مع القتيل؟ بلادهم؟ ما أقسى قدر هذه الأرض! تسودها سيوف الروم فتصبح بلادهم، تسودها حوافر الفرس فتصير بلادهم، تسودها رماح المسلمين فتصير بلادهم، ثم الدبابة الإسرائيلية!".

في مستوى آخر، مضاد، من التناقضات والإشكاليات، يلتقي الرجل مع "الابراهيمي" وهو من عرب أراضي الـ 48، رجل متصالح مع الهوية الورقية الاسرائيلية ويحافظ في الوقت نفسه على هويته الفلسطينية كما يقول. "أنا إسرائيلي الجنسية، هذا صحيح، ولا أرى في هذا أمراً ضاراً، أم تريدني أن أتمنى كوني أردنياً أو سورياً أو لبنانياً؟". يقول الابراهيمي.

أخيراً، يقع عابدين على مخطوطات غيلان في دير القديس سابا، ويهربها من الدير في حقيبته، تمهيداً لتهريبها من اسرائيل. يصطدم بالأمر الواقع حين يصحو في إحدى الغرف، محاطاً بتاليا وعناصر أمن المطار.

صرف الرجل أيامه في البحث عن هذا الشخص المثالي الطوباوي الذي يقول إنه جده. يسهل على تاليا قول ذلك، فهي ابنة والدين من دين واحد وهوية واحدة، تحميها فرنسا وتستقبلها إسرائيل، فيما عابدين ابن دولة بالكاد ولدت منذ مئة عام، ولا هوية لها. وكونه يحمل أوراقاً فرنسية "فهذا لا يعني أنه فرنسي"، إن هي إلا أوراق تسهل عبوره في المطارات فقط.

رواية "باب الفراديس" للسوري جابر بكر: "أنا مسلم أُعرَف بالإرهابي قبل أن يُقرأ اسمي. أنا إرهابي في القول والفعل والموقف والرأي، إرهابي حتى وإن أكلت الخنزير وشربت الخمر وأنجبت بلا زواج"

"الأصل مكتوب عليها وعلى وجهي وملامحي، أنا مسلم أعرَف بالإرهابي قبل أن يُقرأ اسمي. أنا إرهابي في القول والفعل والموقف والرأي، إرهابي حتى وإن أكلت الخنزير وشربت الخمر وأنجبت بلا زواج. أريد الحرية للمسلمين ليكونوا أحراراً، لا يجرّون أعناقهم إلى حبال المشانق وأزرار الأحزمة الناسفة. كي لا يقتلوا تاليا وجدها، أريد لهم ما للآخرين من حق المصير".

تبدو صرخات وانفعالات عابدين أشبه بكلمات غيلان الأخيرة قبل موته في عام 106 هـ / 724 م:

"يا أهل الشام، تخيروا وقع أقدامكم بين نار الجحيم وجنة النعيم. لا تتبعوا إمامة الطغاة، فكم من حق يميتونه وكم من باطل يحيونه، وكم من ذليل في دين الله يعزونه، وكم من عزيز في دين الله يذلونه. يا أهل الشام إني ميت وإنكم لميتون فاتقوا الله بأنفسكم وعيالكم".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard