شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أدافع عن

أدافع عن "أيام الذكرى" في وجه الظلم والكراهية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 20 أبريل 202101:44 م


ترجمة من الإيطالية: ديانثوس

لطالما أذهلني لغز الذاكرة، وطريقة عمل أدمغتنا، وتأثير الذاكرة الكبير على نظرتنا للعالم الخارجي. يسود الاعتقاد أن أصحاب الذاكرة الجيدة يملكون مهارات تساعدهم على فهم العالم الخارجي والأحداث المحيطة بهم بشكل أفضل، الذاكرة أداة مذهلة قادرة على تسجيل ومعالجة التوليد من أفكار مختلفة وأحاسيس عدة في وقت واحد.

أحياناً ما تشكل الصور ذاكرتنا، أحياناً أخرى تشكلها الروائح، وأخرى تشكلها تجربة قوية مدفوعة بالحب أو الخوف أو المتعة أو ربما الأحداث المأساوية. أؤمن أن استعادة الذكريات وترتيبها ووصفها في عقولنا يساعدنا على إدراك التاريخ وبصمته علينا وعلى مجتمعاتنا. فالرواية التاريخية المسؤولة والحقيقية شرط أساسي لنعيش بكرامة واستقامة خصوصاً في أوقات الكذب والبروباغندا واختلاق كبش الفداء. تلك الأوقات التي ساهمت في تشكيل التصورات الجماعية عن طريق وسائل الإعلام الكبيرة والتقنيات التكنولوجية الأخرى. وسواء أعجبنا ذلك أم لا، فالتاريخ يقدم حقائق تتداخل مع الأحداث العظيمة.

عندما أنظر إلى تاريخ عائلتي، تتبادر إلى ذهني صورة جدتي خلال الحرب العالمية الثانية، عندما كانت تدير فندقاً مملوكاً لعائلة والدتي على بحيرة غاردا Garda، حيث كان يُخدم ضباط الجيش الألماني في قاعة المطعم في حين يختبئ أنصار مناهضة الفاشية من وقت لآخر تحت سقف نفس المبنى. صاغ هذا المشهد فهمي لتلك الأوقات، وتعاطفي السياسي، وسمح لي بفهم الماضي وإغلاق الحسابات مع ماضي عائلتي والقوى الصعبة في تلك الحقبة.

أؤمن أن استعادة الذكريات وترتيبها ووصفها في عقولنا يساعدنا على إدراك التاريخ وبصمته علينا وعلى مجتمعاتنا

كالعديد من البلدان، تخصص إيطاليا يوماً للذكرى؛ وهو السابع والعشرين من يناير. تعترف الجمهورية الإيطالية بالتاريخ الذي هدمت فيه أبواب "أوشفيتز "، وتسميه "يوم الذكرى"، حتى لا ننسى التصفية العرقية لليهود والقوانين العنصرية والاضطهاد الإيطالي للمواطنين اليهود، والإيطاليين اللذين عانوا من الترحيل والسجن والموت، ومن عارضوا مشروع الإبادة وعرضوا حياتهم للخطر لإنقاذ أرواح أخرى وحموا المضطهدين.

بالإضافة إلى ذلك، يعتبر يوم العاشر من شباط/ فبراير في تاريخنا الوطني يوماً لإحياء ذكرى "مذابح فويب (Foibe)" وهجرة جوليان الدالماسيا Julia Dalmatian، التي تضيء على أحداث القتل والعنف الذي حصل في إستريا ومدينة فيوم (رييكا) ودالماسيا بين أعوام 1943 و1947، عندما انتقمت يوغوسلافيا بعد سيطرتها على تلك المناطق من العديد من المواطنين الإيطاليين الأبرياء، بالسجن ومعسكرات الاعتقال والموت في "فويب" (كهوف عمودية طبيعية، ثقوب السنونو- شائعة جداً في مناطق كارست، حيث تم إلقاء الضحايا وهم على قيد الحياة) الذين اعتبروا ضمنياً مذنبين لعيشهم في ظل النظام الفاشي، حيث قُمع ما بين 4000 و5000 شخص.  واليوم تبذل إيطاليا جهوداً كبيرة في تكريم ضحايا جرائم التاريخ وأنا فخور بذلك. للأسف لا تجري الأمور هكذا دائماً، فحين يتم تجاهل الذاكرة فلا تُستخدم لشفاء الجروح، تنتشر الكراهية والخلاف، وتحافظ الدعاية على قبضتها القوية على أرواح البشر.

تفاجأت عندما سَمعتُ في فبراير الماضي عن مجموعة فاشية إسبانية تجمعت في الشوارع بحرية وهم يصرخون (اليهود هم العدو) محتفلين بالفاشية، ومتجمعين لإحياء ذكرى المقاتلين الإسبان الذين قُتلوا خلال الحرب العالمية الثانية إلى جانب هتلر. لكن لم ذلك ممكن؟ لأن إسبانيا لم تتصالح أبداً مع ماضيها الفرانكوي، ولايزال عدد كبير جداً من ضحايا الحرب الأهلية مدفونين في 1200 مقبرة جماعية، حيث تم على الأرجح دفن مقاتلي فرانكو بدون اسم أيضاً، تاركين كل منهم جرحاً نابضاً في مجتمع ذلك البلد.

يمكننا أن نقول أشياء مماثلة لدول مثل روسيا؛ حيث اختفى الملايين في عهد الاتحاد السوفيتي ولا يزال القمع حتى اليوم يمنع رواية الحقيقة، أو مثل سوريا؛ التي لا يقل عدد المختفين فيها  عن مائة ألف، ومعظمهم تم إخفاؤهم على يد النظام السوري وداع.  أما عن الذين لقوا مصرعهم في الحرب الأهلية الأخيرة في محاولة الصمود ضد الدكتاتورية، فيتم للأسف تمثيلهم الآن من قبل أولئك الذين سادوا كإرهابيين تافهين.

حين يتم تجاهل الذاكرة فلا تُستخدم لشفاء الجروح، تنتشر الكراهية والخلاف، وتحافظ الدعاية على قبضتها القوية على أرواح البشر

وماذا عن أراضي يوغوسلافيا السابقة، أو اليمن الحالية حيث العديد من العائلات التي عانت من الحرب الأهلية لم تجد لها صوتاً بعد. أو ماذا عن ضحايا "العشرة السوداء" الجزائرية (1991-2002)، حيث قُتل الآلاف في حرب قذرة بين الجيش والمسلحين الإسلاميين بدون السماح لأهالي الضحايا بأي دعوة للعدالة أو إحياء الذكرى حتى بعد عشرين سنة مرت. تطول القائمة لكنها لا تتعلق فقط بالمآسي كالحروب والقوانين الدكتاتورية.

يمكن للذاكرة أن تُسحق حتى من الإجراءات العادية. لننظر إلى النكبة، حيث يعتبر إحياء الفلسطينيين الأصليين لذكرى خسارة قراهم مع وصول الدولة الصهيونية جريمة يعاقب عليها القانون. تعرقل إسرائيل اليوم عمل تلك المنظمات الإسرائيلية، حتى تلك التي أسسها مواطنون يهود مثل "ذاكرات Zochrot" التي تشيد بالجانب العربي في التاريخ الحديث وتحضر للمصالحة. يتم اتهامها من قبل الحكومة وأي حركة مثلها بمعاداة الوطن.

الاعتراف بجرائم الماضي في تاريخنا الوطني هو شرط أساسي لإحلال السلام والتماسك المجتمعي، وهو مطلب يسمح للعائلات ضمن نفس المجتمع تقبل بعضها وتعويض آلام الكثيرين، وتكريم للحزن بغض النظر عمن يشعر به.

للأسف، يخدم تشويه الذاكرة القوى المستعدة لسحق الآخرين لأسباب تتعلق بالسلطة، بدون أن يأخذوا أي اعتبار للإنسانية أو إعطاء أي قيمة للحياة البشرية. نرى ذلك في مثال يثير الدهشة في مصر لتطهير ذاكرة 25 يناير 2021، الذكرى العاشرة للثورة الشعبية التي أطاحت مبارك من السلطة. كان 25 يناير عطلة وطنية للاحتفال بإنجازات الربيع العربي في مصر. لكن الطاغية المصري الحالي والجيش ألغوا هذا اليوم ليحيوا احتفالات عيد الشرطة بدلاً منه، والأسوأ من ذلك أنهم جعلوا من يوم 25 كانون الثاني/ يناير 2021 يوم عمل، ونقلوا يوم الإجازة إلى يوم الخميس 28 كانون الثاني/ يناير لمنح المواطنين عطلة نهاية أسبوع أطول. جعل العمل في يوم 25 يناير احتمالات التجمعات الاحتجاجية تنحسر، كما لم يتم قبول أي نشاط احتفالي أو حدث في يومي 28 أو 25. وفرض حكام البلاد تعتيماً اجتماعياً وفكرياً كاملاً. بدا الأمر كما لو أُعطي لتسعين مليون شخص أدوية لمحو السنوات العشر الأخيرة من حياتهم. لكن يبدو أن التذكر عملية صعبة ومتقطعة عند بعض الحكام، لأن يوم الشرطة يحيي ذكرى مقتل خمسين ضابط شرطة مصري بعد رفض المطالب البريطانية بتسليم الأسلحة وإخلاء قسم شرطة الإسماعيلية في يناير 25 عام 1952 وهو أحد الأحداث الهامة في تاريخ مصر الحديث.

ضحايا الاحتلال الأجنبي الذين عوملوا بوحشية يستحقون التكريم الوطني، أما وحشية الحكومات العربية ضد مواطنيهم كما حدث في 2011 ويستمر بالحدوث إلى وقتنا الحاضر هي وحشية تستحق النسيان؟

ما الذي يتعلمه المرء من ذلك؟  أن ضحايا الاحتلال الأجنبي الذين عوملوا بوحشية يستحقون التكريم الوطني، أما وحشية الحكومات العربية ضد مواطنيهم كما حدث في 2011 ويستمر بالحدوث إلى وقتنا الحاضر هي وحشية تستحق النسيان؟

يغضبني أيضاً الاستخدام المشوه للأحداث التاريخية الذي يتجاهل التاريخ لخلق كبش فداء، وهو بالضبط ما يحدث للمهاجرين. إنه لأمر لا يطاق عندما نسمع سياسيين إيطاليين يطالبون بإغلاق الحدود بسبب زيادة تدفق المهاجرين، مانعين عليهم دخول أراضينا، وزاعمين أن عليهم جني ثرواتهم في بلدهم.

بالطبع سيؤدي إغلاق الحدود إلى جعل أي محاولة للوصول إلى أرضنا غير قانونية، وسيؤدي مفهوم " اللا شرعية " إلى خنق أي إجراء يستجيب لمبدأ الإنسانية. وبمجرد إغلاق الحدود، سيصبح رفض إنقاذ الناس في البحر مجرد خطوة إدارية يبررها القانون.

حسنًا، أين يكمن "الاستخدام المشوه للأحداث التاريخية"؟ أين تزييف التاريخ الوطني؟ ربما تكون إيطاليا البلد الأكثر تحولاً بسبب تدفقات الهجرة، حيث سجلت بين 1860 – 1970 حوالي 25 مليون مغادر، أي ما يعادل نصف سكانها في عام 1960. ترك الإيطاليون بلادهم متحدين قوانين الهجرة لأنهم لم يتمكنوا من جني ثروتهم، فكيف يمكن لأمة من المهاجرين أن تتظاهر بتجاهل السمة الإنسانية للهجرة؟ يمكن لذلك أن يحدث بالإنكار المنهجي لماضينا وقصصنا وسيرنا الذاتية ومذكراتنا العائلية.

فجوات الذاكرة خطيرة كتغير المناخ، فجوات الذاكرة خطوة نحو الاغتراب، وخدمة لتلفيق القصص التي تدمر علاقتنا الحميمة وحكايات جداتنا والتراث الروحي المحفوظ في قبورنا.

لهذا السبب أدافع عن "أيام الذكرى" ضد أي محاولة أيديولوجية لاستعادة سرد الظالمين، أو إضفاء الشرعية على جريمة، أو تغذية كراهية المتنمر.

احمِ ذكرياتك، دافع عن الحق في صقلها، يوماً ما سوف تخدم قضايا العدالة التي لم تتحقق بعد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image