تقاوم العديد من الحرف الدمشقية القديمة رياح الحرب، وترفض قطع جذورها الضاربة في القدم، وسط محاولات بإنعاشها عبر إلحاقها بالعصرنة كوسيلة للبقاء، ومن هذه الحرف صناعة كراسي القشّ، والتي تشتهر بها دمشق منذ عقود طويلة.
في سوق القباقبية بدمشق القديمة، ووسط أكوام متناثرة من الكراسي الخشبية مختلفة الأطوال والأحجام وسلال القشّ الملونة، يجلس عبد الوهاب المالح، أبو طارق، بشعره الأبيض المختبئ تحت وشاح مطرّز، حانياً ظهره وهو يلفّ حبال القشّ حول أضلاع الكرسي بحركة اعتيادية ألفتها يداه الخشنتان، وتوحدتا معها لأربعين عاماً.
تشتهر دمشق بصناعة كراسي القش منذ عقود.
يقول الرجل الستيني لرصيف22: "ورثت الحرفة عن خالي، وبدأت بتعلمها حين كنت يافعاً في مقتبل العمر، آنذاك كانت المنازل والمحال وحمامات السوق تكتظّ بكراسي القشّ، ولم يكن هناك وجود للكراسي البلاستيكية والمعدنية".
يوضّح المحترف طريقة صنع كرسي القشّ، وتبدأ بخطوة جمع الأخشاب من أغصان الأشجار ووضعها في آلة لتقطيعها وإعدادها حسب المقاس المطلوب للكراسي، ومنها الصغير أو الكبير ذو أعمدة الظهر، ويقول: "أسنّن أطراف الخشب لتتشابك في شكل زوايا قائمة حسب الشكل والمسافات المطلوبة، ثم أضمّ حبال القشّ حول أضلاع الكرسي لتنتهي بشكل متصالب".
أحد صانعي كراسي القش في دمشق القديمة - تصوير الحسناء عدره
للقشّ المستخدم في صناعة الكراسي ميزة خاصة وهي الطعم المر، لذلك يطلق عليه اسم "قش الحلفا"، وهو ينمو على ضفاف الأنهار وأطراف المستنقعات، وبسبب طعمه المرّ لا تأكله الحيوانات، فهو غير ملائم لها. يضيف الرجل: "ينقع القشّ في المياه لمدة تقارب خمس ساعات ليختمر جيداً ويجفّ، ويكتسب بذلك بعض الطراوة والليونة حتى يسهل لفّه وتشبيكه، ثم تمشيطه بمشط ذي أسنان شبيهة بالمسامير، وتجديله مثل شعر الفتيات وشدّه بقوة".
وهناك طريقة أخرى لصنع الكراسي وهي إدخال مادة السلوفان البراق كبديل اقتصادي عن القش. يقول الحرفي: "نجمع السلوفان من نفايات المطابع التي تتخلص منه، فألمّه وأجدّله بمتانة، لكن الناس يميلون أكثر إلى القش، كونه يتميز بالراحة ومناسب في فصل الصيف، إذ يحتوي على فراغات للتهوية، كما أن كرسي القشّ يدوم لعشر سنوات شريطة ألا يتعرض للبلل".
وتتنوع تصاميم كراسي القش السورية كما يشرح أبو طارق: "من هذه التصاميم، الأبيض والهزاز والكعكة وقرن الغزال والمدور، وتصلح جميع أنواع الخشب، كالزان والحور والسنديان والصنوبر، لصناعتها".
مواكبة للتطور
تطوّرت حرفة صناعة كراسي القشّ، بحسب حديث أبو طارق، رغبة من صنّاعها في التفنن بها وتوسيعها، ثم تحصيل مصدر رزق آخر، مع الإبقاء عليها حية وعصية على النسيان قدر المستطاع.يكمل حديثه: "امتدت حرفتنا لاحقاً إلى صنع مجسمات وهياكل صغيرة كمحاكاة لكل ما هو قديم ولم يعد له وجود أو قلّ استخدامه وبات تراثاً، كآلات الخياطة الحديدية والطربوش والنافورة والمذياع ومكنسة القشّ والقبقاب الخشبي وبابور الكاز وجرر الفخار وأسطوانة بث الموسيقى وسواها، وجميعها تستخدم لتزيين غرف الضيوف والمطاعم ذات الطابع الدمشقي القديم".
يوضح أبو طارق آلية صناعة هذه المجسمات الصغيرة التي بدأ بها قبل 15 عاماً: "تصمم الرسوم على الحاسب، لتطبع ليزرياً قطعة تلو قطعة ثم تجمع وفق الشكل المطلوب".
بعض منتجات كراسي القش في أحد أسواق دمشق القديمة - تصوير الحسناء عدره
مصلحة الدراويش
يصف أبو طارق تقشيش الكراسي بمصلحة "الدراويش"، وذلك للمردود المادي القليل الذي يحصّله العاملون بها، ويضيف: "إذا ما غنت، بتستر (إن لم تغنِ، فهي كافية للعيش بحال مقبول)".أما عن زبائنها فيقول: "كان السياح يقبلون عليها بكثافة قبل الحرب، أما الآن فيشتريها أصحاب الفنادق والمنتجعات والمطاعم الشعبية وورشات الخياطة، نظراً للراحة التي تمنحها للعمال، إلى جانب شركات إنتاج مسلسلات البيئة الشامية، كما يأتي بعض المغتربين لشرائها وشحنها للخارج واستخدامها كأثاث في منازلهم، بالإضافة إلى فرق الرقص والفلكلور الشعبي".
وعن أسعارها فهي تتراوح بين 10 و12 ألف ليرة سورية (3-4 دولارات وفق سعر الصرف غير الرسمي)، ما يجعلها مرغوبة للشريحة متوسطة الحال، لكن تبقى الغلبة للكراسي البلاستيكية الملونة، فهي أقل سعراً.
كان السياح يقبلون عليها بكثافة قبل الحرب، أما الآن فيشتريها أصحاب الفنادق والمنتجعات والمطاعم الشعبية وورشات الخياطة، نظراً للراحة التي تمنحها للعمال، إلى جانب شركات إنتاج مسلسلات البيئة الشامية
وتعد أسر "المالح"، "العواني" و"الموحد" من العوائل الرائدة التي اشتهرت بمهنة تقشيش الكراسي في سوريا، لكن انصرف العديد منهم إلى التجارة بها وتصديرها إلى الخارج، ولم يبق إلا القليل ممن يزاولونها، فكان عدد الورشات المتخصصة بهذه الحرفة قبل الحرب 40 ورشة، وفق تقديرات الحرفي، لكنه تقلص تدريجياً، ويضيف: "قليلون من يعملون بها اليوم، ويمكن عدهم على أصابع اليد الواحدة، فقد انصرفوا إلى المتاجرة بها".
ويرفض أولاد أبو طارق تعلم الحرفة، لكنهم يساعدونه في حال وجود طلبات كثيرة. ويقضي يومياً أكثر من ثلاث ساعات وهو يقشّش الكراسي، ويعتبرها تسليته المفضلة التي اعتاد ممارستها منذ عقود، ما يدعو أسرته لوصفه بأنه "دقة قديمة".
نقص واضح في اليد العاملة
بعد عدة ساعات من البحث عن شبان يعملون في حرفة تقشيش الكراسي، لم تقع عيناي على أحد، ما يضع الحرفة في مرمى الانقراض ويشي باختفائها، كما أن الحرب تسببت بنقص في المواد الأولية وصعوبة توفير مستلزماتها.يقول أحمد قضماني، وهو يعمل بالمهنة في منطقة العمارة بدمشق القديمة منذ اثني عشرة سنة: "كان والدي يحثني دوماً على مزاولة هذه المهنة، واستمريت بها بعد وفاته. كنا نجلب القشّ من ضفاف نهر الفرات في دير الزور شرق سوريا، لكن بسبب ظروف الحرب وصعوبة التنقل نحو تلك المنطقة الساخنة بات الحصول على المواد الأولية صعباً، وأصبحنا نحضرها من وادي الملوك في اللاذقية، ووادي النصارى بريف حمص الغربي، وأحيانا نستبدلها بالسلوفان، هذا إلى جانب ارتفاع أجور الشحن لأكثر من ضعفين، كما أن هامش الربح بسيط، لا يتجاوز 4 آلاف ليرة للكرسي الواحد".
لا نستطيع أن نجد عاملاً جديداً واحداً لتعليمه الحرفة، فمعظمهم هاجر أو يبحث عن مهنة سهلة تدر المال بسرعة كبيرة، كالتسويق عبر الإنترنت. نعاني حقاً من جيل فقد شغفه بتعلم الحرف التراثية، فمعظم الحرفيين هم كبار في السن ويعملون لوحدهم بدون عمال
يضيف الرجل الأربعيني بأن الإقبال على كراسي القش بات محدوداً جداً، "فقبل الحرب كنا نبيع في اليوم الواحد ما لا يقل عن ثلاثين كرسياً، أما الآن فكرسي واحد بشق الأنفس، باستثناء طلبيات المطاعم والفنادق، إذ يلجأ إلى شرائها محبو التراث الشعبي من أصحاب البيوت الدمشقية القديمة، كما يقبل عليها من يرغب بترميم كرسي ورثه عن والده أو جده، ويرغب بالاحتفاظ به كنوع من الذكرى والتخليد".
بعض منتجات صانعي كراسي القش في أحد أسواق دمشق القديمة - تصوير الحسناء عدره
وعن مدى توفر الأيدي العاملة، يجيب عربش: "لا نستطيع أن نجد عاملاً جديداً واحداً لتعليمه الحرفة، فمعظمهم هاجر أو يبحث عن مهنة سهلة تدر المال بسرعة كبيرة، كالتسويق عبر الإنترنت. نعاني حقاً من جيل فقد شغفه بتعلم الحرف التراثية، فمعظم الحرفيين هم كبار في السن ويعملون لوحدهم بدون عمال"، وينوه إلى أن "اتحاد الحرفيين يسعى جاهداً لتشجيع الحرفيين الذين هاجروا خارج البلاد على العودة، عبر تأمين مراكز مخدمة وورشات عمل تستوعب أكبر عدد منهم، لإعادة إحياء الحرف التقليدية على اختلافها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه