شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"الدولة أهملتنا والصين غزتنا"… صناعة الفضَّة الأمازيغية تحتضر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 14 سبتمبر 201905:14 ص
لعل أهم شيء تلمسه وأنت تتجوّل في محلّات صناعة الأساور والحُلي التقليدية المصنوعة من الفضة والمرجان، المنتشرة في بلدة "بني يني" فوق أعلى قمة من قمم جبال جرجرة (سلسلة جبلية تقعُ شمال الجزائر)، هي علامات الحسرة البادية على محيّا أصحاب هذا الموروث الحضاري، بسبب إهمال الدولة لـ"الفضة الأمازيغية".

 من النَقود المُقلَّدة إلى الفضَّة

تعتبر حرفة صناعة "الفضة" من الحرف العتيقة، ويُروى أن جذورها تعود إلى الصراع الذي كان قائماً بين ملكة إسبانيا والذين رفضوا من مملكتها اعتناق الكاثوليكية من اليهود والمسلمين، ليتم نفيهم باستعمال القوة إلى دول المغرب العربي.

وشكلت بجاية (عاصمة القبائل الصغرى الجزائرية)، ملاذاً آمناً للمطرودين، وقَدِموا إليها حاملين في جعبتهم هذه الصناعة التقليدية، وعمدوا إلى تلقينها تدريجياً للسكان الأصليين.

وحسب الرواية التي يتداولها الأجداد، فقد عرفت منطقة القبائل في تلك الفترة، بصناعة "النقود المقلدة" وتداولها في الأسواق الوطنية بغية تحطيم الإمبراطورية العثمانية التي مدّت سلطتها على الجزائر، خلال الفترة الممتدة بين (1514- 1830)، وبمجرد اكتشاف الفضة الأمازيغية توقف السكان المحليين عن تقليد النقود وتوجّهوا نحو صناعة الحلي الأمازيغية.

واكتسبت قرية "بني يني" شهرة واسعة، حيث تتحول مع حلول شهر آب / أغسطس من كل عام، إلى قبلة لعشاق هذا النوع من الحلي، للمشاركة في مهرجان سنوي يقام احتفالاً بـ "الفضة الأمازيغية".

تقاليد أصيلة ومهنة فقيرة

تعمل داليا (35 عاماً) وتسكن في محافظة تيزي وزو، بصناعة الحلي التقليدية المصنوعة من الفضة والمرجان منذ عشر سنوات تقريباً، وتؤمن بأنها أحد أنواع الحرف الصعبة، ولا ينجح فيها إلا من يعشقها.

اخترقت داليا هذا العالم بعد زواجها، ويعمل زوجها في هذا المجال منذ 24 سنة، وهو من لقّنها أصول هذه الحرفة، وأتقنتها بعدما تدرّبت لمدة سنة كاملة بمركز التكوين المهني والتمهين، "بوخالفة" للمهن التقليدية، بمحافظة تيزي وزو.

"رغم أنني وزوجي نقضي ما يقارب اليوم الكامل لنكمل عملنا، بسبب صعوبة المهنة، إلا أن صناعة الفضة الصينية تُصنف ضمن المهن الفقيرة"

تقول داليا لرصيف22: أبدأ العمل رفقة زوجي من الساعة الثامنة صباحاً حتى الرابعة مساءً، ونضطر في غالب الأحيان إلى إكمال العمل في المنزل، لأن هذه الحرفة تتطلب الكثير من الوقت والمجهود في رسم الأشكال الهندسية التي تطغي عليها المثلثات والمربعات والدوائر والألوان الجاذبة، مثل الأحمر والأخضر والأصفر، وهناك أنواع أخرى من الحلي التي تلاحظ عليها الزركشة والزخرفة.

"الحرفيون يعانون بصمت بسبب الزحف الصيني"

ورغم الجهد المبذول في صناعة الحلي الفضية والتقليدية، إلا أن هذه المهنة تصنّف في خانة المهن الفقيرة عكس ما يدعيه الكثيرون الذين يجهلون أسرار هذا العالم.

تقول داليا إن الحرفي يجني أموالاً قليلة جداً مقارنة بالجهد المبذول لأسباب عديدة، أبرزها عزوف غير معلن للزبائن، فالطلب على الحلي الأمازيغية يكون بشكلٍ كبيرٍ في منطقة القبائل بسبب تمسّك المرأة القبائلية بهذا النوع من الحلي مقارنةً بالمحافظات الأخرى من الوطن، حيث يقلّ الطلب عليها من الجزائر وقسنطينة وعنابة، وغالباً ما تلجأ النسوة في هذه المناطق إلى اقتناء الحلي "الصينية" المقلدة، فالحرفيّون، كما تقول داليا، يعانون بصمت بسبب "الزحف الصيني".

 "الدولة الجزائرية عاجزة عن توفير المرجان بسبب السرقة والنهب التي يتعرّض لها من طرف عصابات عابرة للقارات، ويضطر الكثير من هؤلاء الحرفيين اللجوء إلى السوق السوداء"

إضافة إلى ذلك، تشدد داليا على أنّ ندرة المواد الأولية تُشكّل عائقاً كبيراً في نشاط حرفيي الحلي الأمازيغية، بسبب عدم توفر الفضة والمرجان، وتشير إلى أن الدولة عاجزة عن توفير المرجان بسبب السرقة والنهب التي يتعرّض لها من طرف عصابات عابرة للقارات، ويضطر الكثير من هؤلاء الحرفيين للجوء إلى السوق السوداء للتزود بالمادة الأولية، وهنا تتفاقم معاناتهم بسبب غلاء الأسعار، والترويج لمرجانٍ مغشوش يسود قطاع عريض منه، "مجرد غبار يتناثر في الهواء بمجرد الشروع في تحويله إلى قطع صغيرة".

ويتفق معها صاحب محل لبيع وتشكيل الفضة في قرية "بني يني"، في تراجع مبيعات الحلي المصنوعة من الفضة والمرجان، فهو تاجر فضة وحلي تقليدية في هذه القرية منذ سنوات طويلة، كما يقول عن نفسه، ولاحظ تراجع إقبال الشباب على تعلم هذه الحرفة، وأرجع ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها ندرة المادة الأولية، وغياب الدعم من الدولة الجزائرية.

" الذهب الأحمر " يتعرض للتهريب

يقول فادي تميم، عضو بارز في المنظمة الجزائرية لحماية المستهلك الجزائرية، لرصيف22 إن مادة المرجان، أو ما يعرف بـ "الذهب الأحمر"، تعاني من الندرة والاضطراب، وحتى عدم التقنين، بسبب تعرضه للاستنزاف على السواحل الجزائرية، كالطارف وسكيكدة وعنابة والقالة، وهذا من خلال نزعه بطرق غير قانونية من طرف شبكاتٍ استولت على الشريط الساحلي، حيث يتم تهريبه إلى الدول المُجاورة مثل تونس، ورغم محاولة السلطات الرقابية تضييق الخناق عليها إلا أنها تعود إلى الواجهة كل مرة.

ويشدِّد تميم على أنَّ الوكالة الوطنية لتحويل وتوزيع الذهب والمواد الثمينة أصبحت اليوم عاجزةً عن تلبية طلبات الحرفيين، بسبب التهريب الذي طال هذه المادة الثانية، وأشار إلى أنَّ النوعية الجيدة من المرجان يتم تهريبها إلى تونس، والنوعية الرديئة والأقل جودة تضخ في السوق السوداء، ويبلغ سعر المرجان المتوفر في السوق السوداء الألف دولار، بعدما كان لا يتعدى سقف 500 دولار للكيلوغرام.

موروث ثقافي يقاوم للبقاء

أرجع رئيس غرفة الصناعة التقليدية بمحافظة بومرداس (شرق العاصمة الجزائر) رضوان يماني، أسباب تراجع حرفة الفضة الأمازيغية إلى تناقص عدد الراغبين في تعلّم هذه الحرفة، وبقي اكتسابها منحصراً في منطقة القبائل، على غرار محافظة بجاية، وقرية "بني يني"، حيث توارثت هذه الحرفة أباً عن جد.

ويرى يماني في تصريح لرصيف22 أن الزحف التركي والصيني من أهم الأسباب التي تقف خلف تراجع هذه الحرفة، فالنسوة يفضلن اقتناء الحلي التركية والصينية المقلّدة، بسبب انخفاض أسعارها مقارنةً بالأصلية.

إضافة إلى ذلك، يشير يماني إلى سيطرة "البارونات" على سوق الفضة في الجزائر، وتقلص ورشات صناعتها، حيث لم يتبق منها سوى عدد قليل، بينما تعمل المتبقية في ظروف خانقة، في حال عدم تدخل السلطات المعنية ، مثل وزارة التجارة والصناعة، كتشجيع الحرفيين على التكوين في هذا المجال، ومنحهم الإمكانيات المادية اللازمة لتطويرها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard