يكاد المرء لا يعرفها في صورها الجديدة. بنظاراتها الشمسية وملابسها الشبابية العصرية وشعرها المصبوغ والمصفف بعناية، تبدو مثل أيّة فتاة لندنية... لكنها شميمة بيغوم، تلك الفتاة التي كانت قبل فترة وجيزة ترتدي الشادور الطويل، والتي وصفتها بعض الصحف البريطانية بـ"عروس داعش"، وبـ"الحمقاء الصغيرة" لأنها لم تكن تتجاوز الـ15 عاماً عندما خاضت مغامرة الالتحاق بتنظيم داعش.
اسم شميمة بيغوم ما زال يثير الجدل في قاعة البرلمان البريطاني وردهات المحاكم العليا وغرف الأخبار وشوارع شرق لندن، بل وحتى في ساحات التدريب على الرماية بالأسلحة النارية إذ وُضعت صورها بحجابها الأسود على ألواح الأهداف، بناء على طلبات الزبائن.
وافقت بيغوم على أن تُلتقط لها الصور الجديدة في مخيم روج، شمال شرق سوريا، حيث تُحتجز. وتناقلت وسائل إعلام بريطانية أخباراً عن أنها تفضّل حالياً أن تختلط بدائرة ضيّقة من صديقاتها الأوروبيات والأمريكيات اللواتي تخلّين بدورهنّ عن ارتداء الملابس السوداء.
وتنقل تقارير أن المخيّم الذي تسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية بدأ يشهد اتجاهاً رافضاً لأفكار داعش، رغم وجود متشددين فيه، حسبما صرحّت مديرة المخيم، نورا عبده، لصحيفة "ديلي تلغراف"، مضيفة أن "كثيرات غيّرن ملابسهن ولا يُردن الآن إلا الرجوع إلى أوطانهن، وبعضهن لا يفكّرن إلا في مستقبل أطفالهن".
وعرض تقرير نشرته صحيفة "دايلي مايل" رأي بعض مَن يعشن بالقرب من بيغوم حالياً فقالوا إنها تقضي يومها في متابعة برامج وأفلام بريطانية أو الرقص على أنغام موسيقى شاكيرا.
لكن بعض البريطانيين يعتقدون أن هذا التغيير في الشكل لا يعدو كونه جزءاً من حيلة كي تكسب الشابة مزيداً من التعاطف، ولا سيما أنها تطالب بفرصة ثانية للقدوم إلى لندن بعد قرار المحكمة العليا، قبل بضعة أسابيع، برفض السماح لها بالعودة، وتأكيد الحكومة رسمياً أنها لن تسمح لها بوضع قدمها في أي مطار بريطاني.
وكانت محكمة الاستئناف قد أصدرت، في صيف العام الماضي، حكماً يقضي بالسماح لها بالقدوم إلى بريطانيا كي تمثل أمام القضاء.
تذكرة ذهاب "إلى الجحيم"
لعلّ زي بيغوم الجديد صادمٌ بالنظر إلى أنها كانت مكلّفة، خلال عملها في شرطة داعش للأخلاق، بتطبيق قيود التنظيم على النساء في ما يخص قواعد اللباس، وقد سُمح لها بحمل بندقية كلاشينكوف لمساعدتها في القيام بتلك المهمة، كما ذكرت صحيفة "ديلي تلغراف".
لكن الأكثر خطورة كان ما صرّح به ناشط مناهض لداعش لصحيفة "الإندبندنت" عن تكليفها بخياطة السترات الناسفة كي لا يتمكن الانتحاريون من خلعها قبل تفجيرها.
قصة بيغوم بدأت ذات شتاء قارس من عام 2015 عندما تركت أبويها البنغاليين في لندن وهجرت مدرستها وسافرت عبر تركيا مع صديقاتها للانضمام إلى تنظيم داعش.
لقطة من كاميرا مراقبة نشرتها الشرطة البريطانية تُظهر مغادرة بيغوم وصديقاتها لندن من مطار غاتويك في شباط/ فبراير 2015.
بعد وقت قصير من مغادرتها، أعربت شقيقتها عن أملها في أن تكون هي وصديقاتُها في المدرسة قد سافرن إلى أراضي داعش فقط لإعادة صديقتهن التي سافرت إلى هناك في مطلع عام 2015.
لكن بعد عشرة أيام من وصولها إلى سوريا، تغيّرت حياة شميمة جذرياً وعقدت قرانها على الهولندي ياغو ريديك، الذي اعتنق الإسلام ووصل إلى سوريا بدوره في خريف عام 2014.
بقيت هذه الزيجة بدون توثيق رسمي، إذ لا يعترف القانونان البريطاني والهولندي بها لأن شميمة كانت دون السن القانونية عندما تزوّجت.
وفي سوريا، أنجبت شميمة ثلاثة أطفال ماتوا جميعاً وهم في المهد.
"هول" من مخيم الهول
بالصدفة، وبعد أربع سنوات من رحيلها، عثرت صحيفة "التايمز" على شميمة في مخيم الهول للاجئين في شمال شرق سوريا، وأجرت مقابلة معها، أكدت فيها أنها ليست نادمة على قرار الانضمام إلى داعش، وأنها حامل في شهرها التاسع وتأمل في العودة إلى بريطانيا كي تضع طفلها هناك وتربّيه.
كما قالت إنها لا تنزعج من رؤية رأس رجل مبتور إذا كان "عدواً للإسلام".
بعد ثلاثة أيام من تلك المقابلة، أنجبت بيغوم طفلها، ثم أجرت "بي بي سي" مقابلة أخرى معها أكدت فيها أن "مشاهدتها مقاطع فيديو لمقاتلين يقطعون رؤوس رهائن هي ما ألهمها للانضمام إلى داعش"، ثم طلبت الصفح قائلة إنها "لا تزال تدعم بعض القيم البريطانية".
بعد ذلك ببضعة شهور، طلبت الشرطة البريطانية من كل المؤسات الإعلامية التي أجرت مقابلات معها تسليم أي مواد غير منشورة قد تكون بحوزتها عنها من أجل التحضير لمقاضاة محتملة لها.
فتاة بلا جنسية
مباشرة بعد أول مقابلة لشميمة، أعلنت وزارة الداخلية البريطانية أن أمراً صدر بتجريدها من جنسيتها البريطانية.
العائق الأكبر أمام الحكومة البريطانية كان قضائياً بالأساس، فهي لا تستطيع قانونياً حرمانها من جنسيتها لأن ذلك سيؤدي إلى تركها بلا جنسية. لذلك، سارعت لندن للإعلان أن شميمة بإمكانها الحصول على الجنسية البنغالية ولن تصبح بلا جنسية.
وردت بنغلاديش بالقول إن بيغوم لا تحمل جنسيتها ولن يُسمح لها بدخول البلاد، بل وكرر وزير الخارجية البنغالي موقف بلاده بشأن شميمة، مؤكداً أنه إذا وطأت قدماها أراضي بنغلاديش ستواجه عقوبة الإعدام.
وأجرت "بي بي سي" مقابلة مع زوجها الداعشي ياغو ريديك، وقال إنه يرغب في العودة إلى هولندا مع بيغوم. لكن أمستردام بدورها أكدت أنها لا تخطط للمساعدة في إعادته أو في لم شمل أسرته.
وسرعان ما انتقد أفراد أسرة بيغوم قرارات الداخلية البريطانية، وسعوا لوقف القرار بالطرق القانونية، بيد أن صهرها محمد الرحمن حثّ الجميع على دعم قرار الحكومة.
أما والدها أحمد علي فقال: "لو أن شميمة اعترفت على الأقل بارتكابها خطأ، لكنتُ شعرتُ بالأسف عليها وسيشعر الآخرون أيضاً بالأسف".
وبعدما زعم محامي شميمة أنها وابنها نُقلا من مخيم الهول إلى مخيم آخر بعد تلقيها تهديدات بالقتل، اشتد الضغط على لندن، لكن وزير الأمن، بين والاس، رد بحسم قائلاً: "لن نعرّض حياة البريطانيين للخطر بالذهاب والبحث عن إرهابيين أو إرهابيين سابقين في دولة فاشلة".
وتوالت الأيام ليُفيد متحدثون باسم قوات سوريا الديمقراطية بأن نجل شميمة، جرّاح، الذي كانت ولادته دافعاً وراء رغبة الأم في العودة، توفي بسبب التهاب رئوي كما سُجّل في الشهادة الطبية.
وأنحت وزيرة الداخلية في الظل، ديان أبوت، ومحامي حقوق الإنسان، كلايف ستافورد سميث، باللائمة على قرار الحكومة في وفاة ابن شميمة الصغير.
لكن متحدثاً باسم الحكومة قال إن "شميمة كانت تعلم علم اليقين، عندما اتّخذت قرارها بالانضمام إلى داعش، أنها ذاهبة إلى بلد لا سفارة فيه ولا مساعدة قنصلية، وهذه القرارات كانت لها عواقبها الوخيمة".
معضلات حقيقية
وُلِدت معضلات حقيقية في رحم النقاش حول تجريد شميمة من جنسيتها البريطانية ومصادرة حقها في العودة إلى بريطانيا. تعددت التفسيرات القانونية ووجهات النظر الإنسانية حول ذلك، إذ أن تجريد البريطانيين الذين لا يمتلكون جنسية أخرى من جنسيتهم البريطانية يُعَدّ أمراً مخالفاً للقانون الوطني البريطاني والقانون الدولي.
وُلدت بيغوم بريطانية لأن القانون ينص على ذلك، ما دام والدها كانت لديه إقامة دائمة وكان وضعه القانوني سليماً، بما سمح لابنته بالحصول على الجنسية بمجرد ولادتها.
لذلك، وفي عز هذا الجدل، حصلت بيغوم على إرشادات من وكالة المساعدة القانونية للدفاع عن حقها في استرجاع جنسيتها الضائعة، وهو ما وصفه وزير الداخلية آنذاك، جيرمي هانت، بأنه "غير مريح البتة"، مضيفاً أن بريطانيا "في النهاية بلد يؤمن بأن الأشخاص ذوي الإمكانيات المحدودة يجب أن يحصلوا على حقهم من موارد الدولة إذا كانوا يريدون الطعن في القرارات التي اتخذتها الدولة بشأنهم".
جهاديون بريطانيون "تائبون"
تبدو قصة شميمة كشجرة تخفي غابة أكبر وهي أزمة الجهاديين "التائبين" التي دفعت الحكومة للتفكير في اللجوء إلى قانون قديم عمره 650 عاماً يتعلق بالخيانة العظمى، وقد تعاد صياغته مجدداً ليسهل على المدّعين العامين محاكمة هؤلاء.
وأعرب كثيرون من نواب البرلمان عن قلقهم بشأن جدوى القوانين الحالية إذ أنه لم يُحاكم سوى 40 جهادياً من أصل 360 عادوا إلى بريطانيا حتى الآن.
وصرح رئيس اللجنة المختارة لإعادة تفعيل القانون الخاص بالخيانة العظمى جوليان لويس قائلاً: "القوانين الحالية فشلت في التعامل مع أولئك الذين يختارون التعامل مع أعداء دولتهم".
وشميمة واحدة من بين مجموعة من البريطانيين الجهاديين قوامها خمسون فرداً من النساء والأطفال في المخيم الذي يضم حوالي 800 أسرة في المجموع.
وثمة مخاوف من أن يتحول الأطفال هناك إلى جيل جديد من الجهاديين إذا تُركوا.
ويقول مشرفون على مخيمات اللجوء في سوريا إن "على بريطانيا استعادة مواطنيها الذين سافروا إلى سوريا، ففي الغرب تتوفر كل الإمكانيات لمحاكمتهم في ظل القوانين كما أن لديهم السجون".
ورغم حالة الغضب العارمة في أوساط البريطانيين من شميمة بيغوم، إلا أن بعض الأصوات تطالب بإعادتها، ومنها صوت النحات الشهير السير أنيش كابور الذي يقول: "إذا غُرّر بأربع فتيات للذهاب إلى سوريا للانضمام إلى داعش، فإن بريطانيا من واجبها مساعدتهن وإعادتهن إلى منازلهم الآمنة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...