"مئة وخمسون ألفاً مشوا في جنازة معروف سعد"؛ عنوان قد يعني لكثيرين من الناصريين والقوميين وغيرهم. وقد يعني بشكل خاص لأهالي صيدا، كون سعد كان ابن المنطقة قبل أن يكون نائباً عنها. لست من أولئك أو هؤلاء، لكنني بكيت بكيت بحرقة عندما وقعت عيناي على الجملة وسط ازدحام السيارات! ينظر إليّ نضال بعينيه الحزينتين-أجمل عينين- كلما غافلتُه دقائق لأنصرف لنوبات البكاء القاهرة، وأقول له بصوت متقطع: "صعبة الكسرة يا نضال"، يكاد يغمى عليّ.
لقد كان عددنا يقارب المليون، هكذا بثت قنوات الأخبار المحلية والفضائية. مليوناً كنا في هذه البقعة المنفية، مليوناً أضاءت أعيننا في قلب العتمة! مليون نحن الآن، أضحينا مساجين هذا الجسد المتعب وضحايا الأوهام، ضحايا الانتفاضة والحقوق والمطالب المعيشية، ضحايا الأحلام الشعبية، ضحايا أغنية مارسيل خليفة: "ونحن نحب، نحب الحياة، متى استطعنا إليها سبيلا". أسترجع الوجوه في الساحات، الأصوات، لم يعد باستطاعتي تحمل التناقضات. أغمض عيني وأتساءل في كل مرة أرى فيها وجوهاً دون ملامح في أحلامي فاستفيق وجسدي مضجع على الأرض، هل يكون اضطراب ما بعد الصدمة؟
ولكن أية صدمة؟ حلم الثورة المصلوب والمسلوب؟ انفجار بيروت الذي جعلني في كل مرة أسير على الطرقات أتحسس أجزاء جسدي؟ أضع السبابة على الوسطة افركهما ببعضهما البعض، أتاكد أني لا زلت على قيد الحياة.
الابتعاد عن بيروت وعن رائحة الحزن والموت هو الحل. ولكن أين تكمن مدينة أفلاطون الفاضلة؟
وعند أي صوت مفاجئ، تنفجر عيني قبل أية عبوات ناسفة أو مادة نيترات الأمونيوم. لقد باتت لدينا فوبيا مجتمعية منها. وبتّ أدور في حلقة مفرغة حاملة ذاكرة من قش، أمام كل نكسة تتناثر رزمة منها. عندما بدأت بتناول الحبة الزهرية، لم يخبرني أحد أنني سوف أدخل ركوداً طويلاً وأن المشاعر جميعها تصبح سواسية، وأن البكاء لا يلاحظ إلا عند دخوله عرضياً في الفم وأن اللاوعي ينفتح على مصراعيه لينتج أفلاماً مرعبة كل ليلة. ولم يخبروني بأن النوم يصبح زائراً ثقيلاً في النهار وزوجاً متسللاً في الليل لا يعود إلا في ساعات الفجر الأولى لستر خياناته العميقة. لم أعد بحاجة للمسكنات والإبر المخدرة لأعراضي النفس-جسدية. بات الخدر يطال كل مساحة مني أولها افكاري، وآخرها مشاعري المستنزفة.
أجول في شارع "بليس"، أتناول أكبر كوب من المثلجات علّني أسترجع شعوري بلذة طفولية، بعبث يوقظني من خدري؛ طفل يسير بين الأنام له عظمتي دجاجة عوضاً عن يدي طفل تلعبان مع الغيم. وحده من أعاد الي لذة الشعور، لذة سادية بألم ينخر الرأس. من قال إن الحنين حنينٌ للذكريات المريحة فقط؟ فكرت لبرهة بأن الابتعاد عن بيروت وعن رائحة الحزن والموت هو الحل. ولكن أين تكمن مدينة أفلاطون الفاضلة؟ حيث لا بكاء يعلو على صوت الضحك، ولا أعين جائعة تبحث عن أعين أكبر منها لتلتهمها رغيفا رطباً، ولا شفاه ترتجف من البرد، ولا عجوز يمسح جبهته بالأرض لأن ظهره انحنى أكثر مما يجب، ولا مكان لصدمات متتالية تجعل من الكائن البشري صخرة تتجرد من إنسانيتها، تكتفي بالتحديق فقط. ينفجر قلبه.
قرأت ثلاثة مقالات عن ذكرى الثورة السورية، فيلمين وثائقيين ومقابلة تلفزيونية، لم أشعر بالأسى، لم أغطي عيني، كلانا يا سوريا خراب
كيف نعلم ما هو الموت استباقاً؟ أن أصعد إلى الباص وأفقد كل ديناميكية سابقة، أكتفي بالصمت، أرى العجوز تقع أرضاً. لا أستطيع الحراك. أن أخرج يدي من جيبي كان عملاً ثقيلاً. أشيح بنظري، تعبت من الرؤية، من الانتقال إلى الفعل، حتى إذا انزلقت قدمي من على متن الباص الكبير لن أتمسك بالباب، لن أتمسك بالراكب الأمامي، لن أصرخ، لن أقاوم ببساطة. لن أنتحر ولكني لا أمانع الموت. أيكون هذا انتحاراً؟ أم موتا استباقياً؟ أشغل عشرات الأغاني في طريقي إلى الشارع، المكان المفتوح أمامي في زمن الإغلاق والانغلاق. لا اسمع أي كلمة منها، ولا لحنا يخترق جدار الصمت داخلي. بدأت أقرأ أسمائها، هنا مجموعة لشيرين، لم تحرك داخلي الإحساس بحضن الحبيب. وهنا أغنية لبيغ سام، لم أشعر بالأسئلة الملحة أو بالخوف. هنا أغنية للـ"بو" عن ثورة ما، ما هي الثورة؟ انطفاء الأعين وبتر للأطراف والأحلام والآمال. لم أشعر أنني أريد أن "انيج" النخب والخطب، "إسرائيل"، "المعالي" "البيك" و"الاستيذ"، أفقد كل عدائية ممكنة أو غضب عارم. أفقد الرؤية؛ لا أميز الحروف والناس والظروف، ولا أميز الباص من غرفتي. داخل كلاهما أنهمر تشريناً حزيناً دون أن ألحظ. كيف لا وكمية "الديانكسيت" تفيض في دمي. لا أعرف الأسباب ولا النتائج، أعلم أنني أتنفس وأفقد كل رغبة بالرحيل وبالبقاء.
قرأت ثلاثة مقالات عن ذكرى الثورة السورية، فيلمين وثائقيين ومقابلة تلفزيونية، لم أشعر بالأسى، لم أغطي عيني، كلانا يا سوريا خراب. إلا أن واحداً قد سبق الآخر بعشر سنوات ونكس أعلامه استباقاً. وبيروت هنا لا تقصف، لا تهتك، لا تعنف، بيروت ساكنة تعيش على المهدئات، تنطفئ، لا تقاوم، تنتظر غرقها الثامن على نار هادئة دون عجل، كما يشرب درويش قهوته. كل من فيها تاجر فيها، وباتت قضية ممولة وجرحاً دامياً يسقي عطش المتأرجحين على حبال الحياة. وبين كل خطوة موت كثير واحتمالات أكثر.
بيروت ساكنة تعيش على المهدئات، تنطفئ، لا تقاوم، تنتظر غرقها الثامن على نار هادئة دون عجل
أعود إلى صيدا، تراودني في كل مرة جملة لغسان كنفاني يقول فيها "عندما وصلنا صيدا العصر كنا لاجئين". يتحرك شيء دفين داخلي، سنة وأنا أنكر فلسطين، أنكر القضايا وتنكرني هي، أنكر التعب ويتعرف عليّ هنا، أنكر البكاء على الأطلال والبيوت والأطفال، فيشق السيلان طريقه إلى عيني. أزيل عبء الكوفية عن كاهلي، ولكنني كلما وصلت صيدا شعرت بالحنين لأرض البرتقال الحزين. فلسطين تنكرني وأنا أعود إليها طفلاً صغيراً ضاع في حقول المستوطنات وتقاذفته خيبات الأنظمة العربية!
في فيلم "the secret life of bees"، لا أتذكر إلا مشهداً واحداً لشخصية ثانوية، عندما تخطو"May" خطوة نحو البحيرة حاملةً أثقال العالم صرة من حجر، لتضعها على صدرها وتتجه نحو قدرها المحتم، تترك رسالة تقول فيها إنها حملت العالم بداخلها أكثر مما يجب وحان الوقت لأن تستلقي قليلاً. وأنا أريد الاستلقاء ولكن "الديانكسيت" يفيض في دمي كما تفيض بيروت ذاكرة ووجعاً، إلا أني لا رغبة لي بأن أسرق من دودة القز خيطاً لأبني سماء لي.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ أسبوعSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.