أكاد أقطع الشك باليقين، بشأن عدم الجدوى من المحاولات المتكررة للناشطات الكورديات هنا وهناك. أعوام من النضال سعياً في التغيير، كانت خسائرهن فيها كبيرة. فقد أبدع التاريخ في تهميش الأدوار التي مارستها النساء لكونهنَّ نساء، في سعيهن نحو تغير الأفكار الذكورية الأبوية السائدة، التي تغض الطرف قصداً عن نضالات الكورديات، معتبرين إياهن ليس سوى ربات في منازلهم، لا أعلم إن كان ذلك حسداً أم ضيقة عين؟
أما مناسبة هذه الشكوى والتذمر هو أنني وقبل أيام دُعيت كناشطة نسوية إلى جلسة حوارية، في "منصة فيينا للحوار المدني"؛ منصة تديرها مجموعة من النشطاء الكورد، بهدف تعزيز النشاطات الفكرية والثقافة الكوردية، عبر جلساتها الإلكترونية عبر الزووم أسوة بالآخرين كما فُرض في زمن الكورونا. وكانت الدعوة وجهت لي بسبب تعليق كتبته امتعاضاً على صورة تم نشرها على صفحتهم، والخالية تماماً من أي ظل لوجه نسائي، والزاخرة بوجوه كثيرة لرجال. ليس لأن الكورديات يخجلن من التقاط الصور ونشرها في الفضاء الإلكتروني، ولا لأن الكورديات لا يرغبن أو يعجزن عن ممارسة أي نشاط، ولكن لعدم إشراكهم للمرأة في تلك الجلسة الحوارية.
بعيداً عن استدرار العطف من أي جهة، فإنه ليس من السهل علينا التخلص من حجم الضرر النفسي الذي لحق بنا كمهاجرات، منفيات، هاربات من الموت والحرب والعنف
أما الحجة، كما اعتدنا سماعها، "بصراحة كنا نرغب في مشاركة النساء ولكن لم يسعفنا الحظ بواحدة". أما الأمر الآخر، والذي لاقى استحساناً عند بعض الناشطات، هي الجلسة بحد ذاتها واعتبرتها خطوة إيجابية، بعد أن تم الاتفاق على موضوع الحوار: "التحديات أمام المرأة الكوردية في المهجر بعد 2011". ولأننا كنساء لم ننعم بحياة دون تحديات في أي مكان في هذا العالم، كان لنا نصيب كاف منها في مهجرنا، أصغرها التحديات النفسية والاجتماعية والقانونية.
بعيداً عن استدرار العطف من أي جهة، فإنه ليس من السهل علينا التخلص من حجم الضرر النفسي الذي لحق بنا كمهاجرات، منفيات، هاربات من الموت والحرب والعنف. ليس من السهل التخلص من تلك الذكريات الجميلة قبل التعيسة، ولا من تلك المشاهد المليئة بالأوجاع والحرمان حتى من أبسط أساسيات الحياة. وليس من السهل أيضاً أن نلقي عن كاهلنا عبء العادات والتقاليد الاجتماعية التي خنقتنا ونحن على قيد الحياة، لتلاحقنا كظلنا حتى في هذه البلاد، ليصبح التحدي معها صعباً للغاية.
والحق يُقال؛ نحن نتحسر على حضارة الغرب، وأمام مقولة "النساء نساء والرجال رجال" هكذا صنعتنا مجتمعاتنا في أنماطنا الجندرية التي نسعى جاهدات إلى تغييرها. أما القوانين فتلك مسألة أخرى، لا أعلم بالضبط ما هي مشكلتنا نحن الكورد مع القوانين هنا؟
لم يعد للذكر حظ الإثنتين تماشياً مع القوانين الجديدة هنا. فالأمر محسوم بالقانون المدني، وقد وافقوا عليه مكرهين وحسموا ذلك، حين قرروا اللجوء
بالنسبة للكثير من النساء، كانت هذه الحضارة بمثابة الصدمة. لكن جرعة من هذه الصدمة كانت ذات نسبة عالية، أعلى من المتوقع. إذ ليس بالأمر السهل أن تجد النساء أخيراً القوانين المنصفة لها لتلجأ إليها حين الحاجة، فيتم التعامل معها على إنها إنسان متكافئ مع الرجل وهذا ما لم نعتد عليه في بلادنا. أما الصدمة الكبرى فكانت في ردود أفعال الشركاء الرجال، وعدم قدرتهم على استيعاب هذه القوانين التي تتعامل معهم بندية وعلى قدر من المساواة مع النساء في كل شيء، ما يعني: "متلها متلك".
شعور لا يحسد عليه الرجل؛ سُحب البساط من تحت أقدامه، ولم تعد "الرجال قوامون على النساء" حجة كافية، ولا يجوز لهم تطبيق الآية القرآنية "واللاَّتي تخافون نشوذهنَّ فعِظوهنّ، واهجروهنَّ في المضاجع واضربوهنَّ" (آية 34) من سورة النساء. ولم يعد للذكر حظ الإثنتين تماشياً مع القوانين الجديدة هنا. فالأمر محسوم بالقانون المدني، وقد وافقوا عليه مكرهين وحسموا ذلك، حين قرروا اللجوء.
وكي أكون صريحة، لم أصطدم بآراء بعض الرجال الكورد إزاء هذه القضايا النسوية، ولم أضع يوماً سقفاً عالياً لتوقعاتي عن ذهنية ذكورية متجذرة قد لا ترى إلا بأن النساء الكورديات نلن كل حقوقهن على صينية من فضة، وكأن حياتهن أصبحت ربيعاً جميلاً. حتى أولئك الذين يدعون بأنهم نسوييون أو قد يكونون كذلك بالفعل، وربما انتهجوه بسلوكياتهم في الحياة، ولكن تراهم لا يجرؤون على المجاهرة بآرائهم في العلن، وإن فعلوا تكون بمستويات خجولة.
هذا لم يمنع من أن نسمع رأياً صادماً، ودون مبالغة، مثيراً للضحك، أومجلباً للامتعاض والدهشة. فمثلاً، يقول أحد المشاركين في الجلسة، وكأنه يشير إلى أننا ينبغي أن نكون ممتنات لهم: "إن الرجال هم من اخترعوا للنساء حبوباً لمنع الحمل، وفوطاً نسائية لتخفف عنهم أعباء الدورة الشهرية"، إن أغلب الاختراعات، حتى الغسالة الأوتوماتيكية، اخترعها الرجال لراحة النساء. يا للهول. أليس هذا مبرراً للصراخ؟ أم لا جدوى حتى من النحيب؟ أليس غريباً أمر هؤلاء الرجال؟ أي أدمغة يحملون في تلك الجماجم؟ وأي تصورات للنساء بحوزتهم؟ ليأتي لنا أحدهم، بشاكلة مثقف وناشط بعد كل هذه الثورات والتضحيات التي حدثت، بهذا المثال العجيب.
إن الرجال هم من اخترعوا للنساء حبوباً لمنع الحمل، وفوطاً نسائية لتخفف عنهم أعباء الدورة الشهرية"، إن أغلب الاختراعات، حتى الغسالة الأوتوماتيكية، اخترعها الرجال لراحة النساء. يا للهول
حتى السلاح الذي كان حكراً على الرجال بحكم العادات، ورفضته النساء بحكم طبيعتهنَّ الأكثر ميلاً للسلم، حملته الكورديات مكرهات، وشاركن بحمله مع الرجل جنباً إلى جنب، دفاعاً عن أنفسهن وأعراضهن وأرضهن، وردعاً للخطر الذي أحاط بهن. يبدو أن كلَّ الكتب والدراسات التي قرأوها، وكل تلك الضجة الإعلامية لكسر الكورديات للصور النمطية لم تجد نفعاً، ولا حتى التغريبة الكوردية الممتدة منذ مئات السنين في أصقاع الدنيا كانت كافية لتغيير العقول الذكورية العصية على الانفتاح. فيأتي أحدهم ليتحفنا برأيه "فيخبرنا بأننا كنساء كورديات كنا نعيش كأميرات حقيقيات، قبل أن نخرج للعمل خارج منازلنا". كأننا لسنا من كنا ننهض مع شروق الشمس لننجز كماً هائلاً من المهام والأعمال المنزلية وخاصة الريفية، ونعتنتي بالأطفال وأمور الأسرة، أو ننطلق للعمل خارج المنزل أو للمدارس سعياً للعلم، أوننشط في مجالات مختلفة لنحسن من حياتنا.
لنعترف بأننا، كنساء كورديات، لا زلنا نضاعف جهودنا، ونتكبد آلاف الخيبات والخسائر، ونحمل حقائب الخذلان فوق ظهورنا، ونجتر كل تلك المآسي التي حلت بنا، محاولات أن ننأى بأنفسنا عن الأذى والعيش في أمان، وأن نحمي أولادنا وبناتنا من تقاليد تثقل كاهلنا جميعاً. هل يجب أن نبتلع تلك الصدمة، وننعم بهذه الحقوق والقوانين التي تنصفنا وتقف إلى جانبنا في بلداننا الجديدة؟ لا لأننا نساء، بل لأنها قوانين تحفظ حقوق الإنسان؛ الرجل والمرأة على حد سواء. قوانين لا تروق للكثيرين والكثيرات. أم نحيد بأنفسنا جانباً؟ صدمة الحضارة لنا كنساء تختلف تماماً عن صدمة الرجال. يبدو أنها أثقل وأكبر من أن تستوعبها عقولهم الزاخرة بالذكورية المتأصلة، على الرغم من أنهم الأكثر استمتاعاً بهذه المزايا، بشكل بديهي، لكونهم رجالاً.
"كيف تتساوى معه النساء في كل شيء؟ كل شيء يعني كل شيء" وأحيانا "حبة" زيادة عنه. الحب والارتباط، الحرية، العمل والأجر، الزواج والطلاق، الجنسية والأطفال..إلخ. فبدلاً من خلق نوع من التوازن، يحدث العكس غالباً، ومن هنا تماماً يتولد هذا الصراع ذائع الصيت، في الأوساط هنا وهناك. وأقصد قصص التمرد ورفض المفروض كنساء. إنها صدمة الحضارة يا أعزائي، وابتلاع الصدمة أو تقبلها بروح رياضية هو التحدي الأكبر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.