غنيمة كبرى لصناع الدراما المصرية والعربية، وقصة ساخنة لم تزل تحتفظ بلهيبها حتى بعد مرور نحو عقدين على رحيل صاحبها، عينان متوهجتان بالذكاء، والجرأة، والحيوية، وقلب كقلب الأسد على استعداد دائم لدفع ثمن التجاهل، وتسديد فاتورة استقلاليته وحداثته ومساحة رؤيته الحرة على مستوى العمل الصحافي أو على المستوى الأدبي.
تلك المعادلة هي التي كفلت للكاتب المصري الكبير فتحي غانم مكاناً لا تغيب عنه الشمس، في معادلة الصحافة والأدب والدراما، رغم أن الكثيرين حاولوا إبعاده خارج المشهد، لكنه نجح في أن يكون على موعد مع مرحلة هامة في تاريخ مصر، اشتبك معها بعنف، فجاء مع هذا الاشتباك كنز من إبداعاته، التي تبدو مغرية جداً لصناع الدراما العربية في عصر المنصات الرقمية.
نستعيد في هذا المقال مشاهد مغامرة غانم في فترة فارقة في تاريخ مصر، وأبرز إبداعاته التي تحولت للدراما السينمائية والتلفزيونية، واشتباكاته في عالم السياسة، تزامناً مع الذكرى الـ 97 لميلاده، التي توافق اليوم 24 أذار/ مارس.
"أديب حرفته الصحافة"
ليست إبداعاته فقط، لكن سيرة فتحي غانم نفسها لا يوجد ما هو أكثر إغراءً منها للتحول الدرامي، ابن الأسرة البسيطة الذي ولد في القاهرة 24 أذار/ مارس 1924 وذهب لدراسة الحقوق في جامعة فؤاد الأول (القاهرة) قبل أن يغير مساره إلى بلاط صاحبة الجلالة في الأربعينيات من القرن الماضي، وفي الصحافة قدم صورة نموذجية للمثقف النوعي، الذي استطاع الإفادة من مهنته "الصحافة" في تقديم مشروع أدبي حداثي، متعدد الوجوه.
رجل انطوائي لا يهوى الظهور كثيراً، قليل الاختلاط بالبشر، رغم كل شهرته ونجاحاته لم تتخطَّ دائرة أصدقائه المقربين عدد أصابع اليد الواحدة، أبرزهم محمود أمين العالم، وأحمد حمروش، وصلاح حافظ، وآدم حنين.
قدم فتحي غانم قراءة للشخصية المصرية بتطلعاتها الجديدة وأحلامها والضغوط النفسية التي دخل بها المواطن المصري لعالم ما بعد 1952
الجدية ظللت الإطار العام لمشهد غانم، ابن وحيد وأربع شقيقات، الأب يرحل مبكراً، ويترك أرملته، ومعها الولد الوحيد في مواجهة الطوفان، لكن الولد كان مقاتلاً صلباً للغاية، لا يقبل التهاون، وقد استلهم الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس ملامح من حياة فتحي غانم من خلال روايته "لا تطفئ الشمس"، كما ذكرت زوجة غانم الدكتورة زبيدة عطا.
حتى عند الزواج، كانت عقلية فتحي غانم تفرض نفسها على المشهد، صاحب الآراء الجدلية، عندما يحب كان يرى بعقله أيضاً، زوجته الدكتورة زبيدة عطا، تحدثت في أحد حواراتها الصحافية عن قصة لقائهما الأول: "أستطيع أن أقول إننى دخلت قلبه من اهتمامات عقله، فاللقاء الأول بيننا حدث على ضفاف النهر فى دولة العراق، خلال أحد المؤتمرات الأدبية هناك، وقتها جمعنا التعارف، ثم سرعان ما تطورت العلاقة إلى صداقة، تبادلنا بعدها اللقاءات وتجاذبنا أطراف الحديث فى مناسبات شتى، ومواقف مختلفة، لأصاب من بعد ذلك بهوى متابعة مقالاته، والاستمتاع بتحليلاته فى القضايا الفكرية والمواقف السياسية، التى تُثار وتشتعل فى الداخل هنا أو الخارج هناك".
"البيت وروز اليوسف"
امرأتان لعبتا دوراً محورياً في حياة فتحي غانم، الأولى والدته التي كان تأثيرها جارفاً على شخصيته وتركيبته، وهما اللتان وضعتهما الحياة في مهب الريح بعد رحيل الوالد، لذلك كانت شريكة المغامرة صاحبة تأثير كبير على حياة غانم، وإليها يرجع الفضل لرسوخ دور المرأة في المجتمع والحياة، داخل قلب الكاتب الكبير، لذلك خرجت مؤلفاته لتقدم دفاعاً حقيقياً عن المرأة، وتأثيراتها الاجتماعية والحياتية في المجتمع المصري والعربي.
المرأة الثانية هي السيدة روز اليوسف، التي تلقفت الموهبة الكبيرة بذكائها المعتاد، كان غانم قد تم تعيينه في وزارة التعليم بعد تخرجه من كلية الحقوق، ومعه الكاتب أحمد بهاء الدين، وكتب غانم وقتها رواية "الجبل"، التي حققت نجاحاً مدوياً فور صدورها، ليقرر بعدها صاحب "الرجل الذي فقد ظله" أن يتجه إلى بلاط صاحبة الجلالة، وهناك استقبلته روز اليوسف بالحب والدعم، لتفتح الطرق من جديد في وجه الشاب الجسور المندفع.
"معارك فتحي غانم"
ما يميز مشروع فتحي غانم أنه كان صاحب معارك حقيقية، لم يكن من المهمومين بالفرقعة أو الاشتباكات العديمة الجدوى، يقول الناقد غالي شكري في مقدمة حواره مع فتحي غانم الذي أجراه عام 1970، ونشر في كتاب "مذكرات ثقافة تحتضر": "كان له وجهان، أحدهما لتلك الشخصية الهادئة، التي تلوح لي كثيراً فى أسلوبه وتعبيراته وموضوعاته التي تكاد في همسها أن تصل إلى حدود المونولوغ الداخلي، فلم أره يوماً في معركة حادة من معارك الفكر أو الأدب أو السياسة، حتى خلافاته مع الآخرين يكسوها هذا الهدوء الشفاف، ولا تصل إلى مستوى "الحوار" إلا في القليل النادر، فمعظم صراعاته – إن وجدت – من طرف واحد، لا يشتبك إلا مع كل ما هو عام ومُجرد، اشتباكات أقرب ما تكون إلى لغة الاحتجاج المهذب، والتحفظ الوقور، وهي لغة تحيطه بسياج قوي سميك يحول بينه وبين التلاحُم المباشر أو الاحتدام العنيف".
في حديث غالي شكري مفاتيح واضحة لشخصية غانم، لذلك لا نتعجب من أن اشتباكاته وآراءه هي التي بقيت في ذاكرة الدائرة الثقافية المصرية قبل أن تبقى حكاياته المثيرة واشتباكاته مع جمال عبد الناصر، ومن بعده أنور السادات، لذلك خرج غانم من معاركه منتصراً، فعندما غضب عبد الناصر من القصة الخبرية التي تناول من خلالها محاولة اغتيال ناصر في المنشية، أقنع عبد الناصر الجميع بعدها أن ما فعله فتحي غانم كان مفيداً له وليس لصاحب محاولة الاغتيال.
صاحب السرديات الجديدة
صنعت أعمال غانم حالة من الجدل داخل الوسط الثقافي، بعد نجاحها في أن تكون شاهدة على مصر في تحوّلاتها المتسارعة والكبرى خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ولم يكن هدف غانم مجرد عملية لتوثيق التاريخ الاجتماعي لمصر، لكنه قدم قراءة للشخصية المصرية بتطلعاتها الجديدة وأحلامها والضغوط النفسية التي دخل بها المواطن المصري لعالم ما بعد 1952.
عاش غانم حياته انطوائياً، ولعبت والدته دوراً كبيراً في تشكيل شخصيته، وعندما تخرج من كلية الحقوق، وحققت روايته الأولى نجاحاً، تبنته السيدة روز اليوسف في عالم الصحافة، مما أثر على أفكاره في الدفاع عن المرأة المصرية، وتجسيدها روائياً
يقول الشاعر المصري زين العابدين فؤاد لرصيف22: "كان غانم تجربة استثنائية لكاتب مجدد، نجده في روايته "الرجل الذي فقد ظله" متأثراً بالأمريكي ويليام فوكنر في روايته "الصخب والعنف"، كذلك كان جريئاً في طرحه السياسي، مثلما جاءت تجربته في رواية "الأفيال"، ورغم أنه لم يكن قائد تيار بالمعنى المفهوم على المستوى السياسي، إلا أنه كاتب مهم جداً نجح في صياغة تياره الخاص من خلال مشروعه مع الكتابة، رغم أن العمل الصحافي أخذ الكثير من تركيزه وموهبته".
أنصفت الشاشات تجربة غانم الأدبية، سواء وهو يرصد أحوال الصحافة في «الرجل الذي فقد ظلّه»، ونموذج الصحافي الانتهازي المتسلق، أو في "الجبل" و"زينب والعرش" وغيرها من إبداعاته التي تحولت للسينما والتلفزيون.
الناقد السينمائي المصري رامي المتولي قال لرصيف22: "حداثة فتحي غانم هي التي سهلت الطريق له على المستوى الدرامي، كما أنه كان مغرقاً في المصرية، ولكن بشكل مختلف عما كان يفعله نجيب محفوظ، كما أن البعد السياسي في إبداعاته كان محبباً لدى الكثيرين لاختلافه ولتنوع نظرته التي رصدت الحداثة في حياة المصريين، وهو ما يجعل إبداعاته هدفاً لصناع الدراما والسينما".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...