جاءتني ابنتي ليلى وأنا في الحمّام، كانت حينها في الرابعة والنصف من عمرها. وقفت أمامي والتقت عينانا في فسألتني دون مقدمات: ماما كم عمرك؟ أجبت: أربعة وثلاثون عاماً. وكم هذا؟ أشرت لها بيديّ وأصابعي المفرودة، هذه ثلاث عشرات، عشرة وعشرة وعشرة، ومعهم أربعة. وكم يكون هذا؟ أفكر للحظة ثم أقول هذا يعني: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، وهكذا حتى وصلت إلى أربعة وثلاثين، توقفتُ وقلتُ: هذا عمري. قالت ليلى، مصغيةً طوال الوقت بانتباه واهتمام: "أنت قديمة جداً يا ماما، مثل الديناصورات". قالتها وتركتني جالسةً وحدي في الحمام مع قِدمي وعراقتي وابتسامة عريضة تغمر وجهي.
بعد يوم طويل حافل بالطبخ والتنظيف ونشر الغسيل ومحاولات السيطرة على فوضى الألعاب المتناثرة، أستلقي في السرير وأمسك كتاباً في محاولة لتطبيق ما أسمعه هنا وهناك من نصائح للسيدات مثل "لا تنسي الاهتمام بذاتك. امنحي نفسك الراحة والدلال ولا تذوبي في خدمة عائلتك وأطفالك". تمر دقائق قليلة ثم يُفتح الباب فجأة، تهجم طفلتيّ وفي لحظات تصبحان فوقي على السرير. "أنت مختبئة هنا إذن، لقد بحثنا عنك طويلاً أيتها الشقية!". "نعم أنا متعبة وأردت أن أرتاح وأقرأ قليلاً". تبدآن بدغدغتي. أضحك مجبرةً بفعل الدغدغة ثم أبدأ بمحاولة إبعادهما عني صارخةً: "لم أعد أستطيع التنفس. اتركاني بسلام. لقد كنت أريد أن أستريح قليلاً فحسب". تتوقفان، ثم تقول الصغيرة "كنا نريد أن نقول لك أننّا نريد أن نتزوجك هل أنت موافقة؟“. أضحك دون دغدغة، أضحك بفرحٍ غامر.
الأمومة كريمة تمنح قلوب الأمهات زاداً من الأعياد الصغيرة يكفي مشقة المهمة ويزيد
تسألني ليلى: كيف اخترتم اسمي يا أمي؟ أتجهز لسرد أحب قصة على قلبي. "كان ياما كان، كان وديان وستيفان ينتظران ولادة طفلتهما. وكانا يبحثان عن اسم جميل يمكن أن يُنطق بالعربية والألمانية دون أن يتغير لفظه أو أن يكون صعباً، وكذلك يجب أن يكون ذا معنى جميل. فكرا وفكرا وجربا لفظ أسماءٍ كثيرة. وبينما كانا في رحلة إلى مدينة بعيدة، التقيا بأصدقاء سألوهم عن اسم المولودة القادمة، قالا إنهما لا يزالان يبحثان ويفكران. قالت إحدى الصديقات: "جميل أن نسمي طفلنا اسماً كنا نحبه عندما كنا صغاراً“. تذكرت وديان أنها عندما كانت صغيرة، كان في صفها بنت جميلة اسمها ليلى، تذكرت أن هذا الاسم أعجبها جداً، بل أنها كانت تتمنى لو كان اسمها ليلى. ثم أخبرت ستيفان عن هذا وسألته إن كان يجد اسم ليلى جميلاً. فأجاب بالإيجاب. وهكذا قرر وديان وستيفان أن يسميا طفلتهما ليلى. قرأت وديان أكثر عن الاسم فوجدت أنه قديم جداً وأصله يعود إلى "ليليث"؛ جنية الليل والريح المتمردة والقوية عند البابليين. زاد حبها للاسم بعد معرفة تاريخه. ثم ولدت ليلى وأصبح الاسم أجمل لأن طفلة رائعة حملته وزادته سحراً. ثم صارت أمها تغني لها: "لأجلك يطلع القمر، خجولاً كله خفر، وكم يحلو له السّفر، مدى عينيك يا ليلى“. تغني ويغمرها نور العينين؛ أجمل عينين رأتهما في حياتها. توتة توتة خلصت الحدوتة ونعست البنوتة. تحب ليلى حكاية اختيار اسمها كثيراً وتطلب مني أن أحكيها لها من حينٍ لآخر، وغالباً ما تقول بعد الحكاية إنها أيضاً تجد اسمها جميلاً وإننا أحسنا الاختيار.
ترسم طفلتي الصغيرة، ألمى، على ورقة بيضاء دائرتين بالاستعانة بكأس مقلوبة، تحت الدائرتين خط منحنٍ ممتد بكرم، ابتسامة سخية من الأذن إلى الأذن كما يقال. بين الدائرتين خط صغير ينتهي بانحناء صغير كناية عن الأنف. تلون الدائرتين بكل الألوان الزاهية؛ أصفر، أحمر، أخضر، أزرق، زهري، ذهبي. تنتهي صغيرتي من الرسم وترفع الورقة بفرح وتنظر إليّ وتقول: هاتان عيناك يا ماما، عيناك بلون قوس قزح. لم أحلم يوماً بهدية أجمل. وهل هناك ما هو أجمل؟
في عيد الأم، أعتقد أنه ليس على العالم إلا أن يتيح للأمهات ظروفاً تمكنّهن من عيش أعيادهن الصغيرة بسلامٍ وأمان
بعد أن كبرت طفلتانا قليلاً، صرنا نخصص بعض المساءات لنشاهد معاً كنزنا من الصور العائلية، والذي في غالبيته يوثق لحظات حياتنا مع طفلتينا. يقول زوجي معلقاً على صورة لنا في الطائرة: في هذه الصورة كانت رائحة القيء في ملابسي، فبعد مغادرتنا الفندق في الصّباح الباكر، كنت تجلسين يا ليلى في حضني، ويبدو أن حركة السيارة التي كانت تقودنا إلى المطار أزعجت معدتك الصغيرة، فأفرغت ما فيها على ثيابي وعلى كرسي السيارة الذي كنا نجلس عليه أنا وأنت. اعتذرنا لسائق السيارة ودفعنا له زيادةً عن الأجرة التي طلبها كي نغطي تكلفة تنظيف السيارة. تنظر ليلى إلى أبيها بعينين يملؤهما الحنان والإعجاب بهذا الرجل البطل الذي يتحمل كل شيء لأجلها، حتى رائحة القيء المقززة. تعقص وجنتيه بيديها الصغيرتين وتضم رأسه إلى صدرها الصغير ثم تنظر إليّ وتقول "انظري، إنه ألطف وأجمل رجل في العالم".
قبل الإنجاب كانت مهاراتي في الطبخ متواضعة جداً، والآن وبعد تسع سنوات من العمل على تطوير هذه المهارات، باستشارة القريبات والصديقات و شراء العديد من كتب الطبخ ومشاهدة ساعات وساعات من تحضير الوصفات من كل آفاق الأرض على اليوتيوب، صرت أتلقى من طفلتيّ تعليقات مثل: "هذا أطيب طعام على الإطلاق"، "أنت أفضل طاهية طعام في العالم يا ماما"، "يجب أن تفتحي مطعماً، ستصبحين غنية لأن كثيرين سيحبون طعامك". اسمع الإطراء ويذوب قلبي بين كلماتهما كقطعة سكر.
في عيد الأم، أتذكر هذه اللحظات السحرية التي منحتني إياها الأمومة. أفكّر بكل الأمهات اللواتي تسرق منهن ظروفهن الصعبة متعة هذه الأعياد الصغيرة. أغمض عينيّ وأحلم، لو أن هذا الكوكب يغمض عينيه، يأخذ نفساً عميقاً، يعدّ للعشرة، ويمنح الأمهات السلام والأمان ليعشن أعيادهن الصغيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي