شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عيادة نوال السعداوي والمفتاح الأوّل لفكّ القيود

عيادة نوال السعداوي والمفتاح الأوّل لفكّ القيود

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 22 مارس 202106:59 م

كانت نوال السعداوي مدخلي الأوّل إلى عالم النساء وأجسادهن، وبالتالي بطريقة ما، كانت مدخلي الأول إلى نفسي.

في العام 2008، حين صادفت كتابها "المرأة والجنس" والذي تذكر فيه حكايات النساء اللواتي كن يقصدن عيادتها الطبيّة، تغيّرت كل مفاهيمي للمجتمع، للحياة ولنفسي، كإنسانة ولدت بجنس امرأة.

يبدأ الكتاب بفتاة جاءتها مع رجل يتبيّن لاحقاً أنه زوجها، لإجراء فحص عذرية، إذ إنها لم تنزف بعد علاقتهما الجنسية، وذلك لأنها غشائها مطّاطي، لن يفضَّ إلا بعد أن تُنجب، والرجل في ذلك الوقت مثلما يفعل الرجال في وقتنا هذا، أخذ زوجته إلى العيادة ليتأكّد من أنها "شريفة".

في قصّة أخرى وصلتنا من الأرياف المصرية وعلقت بذهني لسنوات طويلة، تقصد امرأة حبلت خارج إطار الزواج عيادة الطبيبة نوال، طالبة منها أن تجهض الطفل كيلا تتعرّض للعار أو حتى للقتل، حين حاولت نوال أن تجري العملية صرخت الفتاة قائلة لها إنها لا تزال عذراء، وبالتالي عليها أن تشق رحمها وتستأصل الجنين.

حينها كتبت نوال بما معناه، أن الزوج المستقبلي الذي ستكون معه هذه المرأة، لن يكترث للجرح الظاهر أسفل بطنها، بل للدماء التي ستنزفها من بين رجليها في ليلة زواجهما. وهكذا بنظره، سيتأكد أن زوجته لم تمارس علاقات جنسية في حياتها، ولن يعرف أنها في أحد الأيام كانت حاملاً من رجل آخر.

حين أنهيت في مراهقتي قراءة هذا الكتاب تحديداً، شعرت أن أحدهم صفعني، وفهمت للمرة الأولى أن قصص النساء في صلبها موحّدة في مختلف أرجاء مجتمعاتنا، ومحكومة بمبدأ الشرف، وأن أفكاري ليست لي وحدي، بل هي قلق أتشاركه مع نساء مصريات لن أصادفهن في حياتي، لكنّي سأرى نفسي من خلالهنّ، لأن امرأة تدعى نوال السعداوي قررت أن تكتبهن، تشرحهن، وتزيل بأسلوبها العبء الذي نحمله كنساء، لتلقيه على المجتمع، بأسلوب علمي، منطقي، مبني على فكرها وعلى الدراسات.

في الكتاب نفسه تكتب السعداوي: "إن المقاييس الأخلاقية التي يضعها المجتمع لابد أن تسري على جميع أفراده، بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو الطبقة الاجتماعية. والمجتمع الذي يؤمن بالعفّة في الجنس كقيمة أخلاقية، لا بد أن تسري هذه القيمة على جميع أفراد المجتمع. أما أن تسري على جنس دون الجنس الآخر، أو على طبقة دون الطبقة الأخرى، فهذا يدل على أن هذه العفّة ليست قيمة أخلاقية وإنما هي قانون فرضه النظام الاجتماعي القائم".

هذه المرأة التي سُجنت، هُدّدت بالقتل، طُردت من عملها، وأباح دمها الشيوخ في الجوامع لأنها فاسقة وكافرة. لم تخف يوماً من إكمال نضالها الخاص الذي تحوّل إلى نضال عام، حين وصلنا بكتبها ومحاضراتها

إذا أردنا أن نحكي بواقعية، فإن هذه الأفكار والقصص العلمية التي نقلتها نوال في ذلك الوقت، شكّلت فعلاً ثورياً، ووضعت واحداً من أحجار الأساس ضمن الحركة النسوية العربية. فهذه المرأة التي سُجنت، هُدّدت بالقتل، طُردت من عملها، وأباح دمها الشيوخ في الجوامع لأنها فاسقة وكافرة. لم تخف يوماً من إكمال نضالها الخاص الذي تحوّل إلى نضال عام، حين وصلنا بكتبها ومحاضراتها. والتي من خلالها، ودون أن تدري، جعلتني أسمعها تقول لي ولكل فتاة عربية تعيش في مجتمع ذكوري: "أنت لست وحدك، جسدك ليس حراماً، بإمكانك أن تكوني نفسك، لا تخضعي".

في العام 2009، كنت جالسة على السرير في منزل جدتي، متجنّبة الفأرة التي كانت تعبث في أرجاء المنزل، حين قرّرت أن ألهي نفسي عن الخوف عبر اللجوء إلى ثلاثية نوال السعداوي "أوراقي... حياتي"، وهي سيرتها الذاتية التي توثّق فيها كل مراحل حياتها. حينها اكتشفت أنه من حق المرأة أن تجهض، حتى لو كانت متزوّجة، فالأمومة ليست فعلاً مفروضاً في حال لم تكن المرأة جاهزة بعد لهذه المرحلة من حياتها، واكتشفت أيضاً أن المتزوجين، وعلى الرغم من الارتباط، قد يميلون لأشخاص غير شركائهم، وهذا ما حدث مع نوال في إحدى سفراتها، التي عادت منها لتخبر زوجها أن أحد الرجال سحرها خلال أمسية، وأنها لو لم تكن متزوجة منه لكانت وقعت في حبّه، فما كان من زوجها سوى أن ضحك.

وفهمت معنى الأعمال الرعائية، النظام الأبوي وتفاصيل أخرى كثيرة نسيتها، لكنّها شكّلتني، وبقيت مشاعر القوة التي أمدّتني بها تقودني في مراحل متنوعة. توقّفت عن قراءة نوال قبل سنوات، لكنني دائماً أعود إلى كتاباتها، لأستعيد الأسس والواقع كما هو، من وجهة نظر نساء.

"علّمتني أن الخطأ ينبع من المجتمع وليس منّي. أحببتها أيضاً لأنني حين كنت خائفة ولا أفهم مدار الحياة حولي، كانت حقيقتها وجرأتها مصدر قوّتي. وكانت أول امرأة نسوية أمسكتُ بكلماتها مدافعة عن نفسي بها بالنقاشات والأحاديث، ولأنني حين لم أملك صوتاً كانت هي صوتي"

في الجامعة اللبنانية، كلية الإعلام والتوثيق، سألني المدير عن الكتاب الذي أقرؤه، حين عرف أنه رواية "زينة" لنوال السعداوي، ابتسم وقال لي: "إنها متطرّفة جدّاً"، اكتفيت بالرد بأنني أحبّها. اليوم، وبعد مرور سنوات، صار لدي إجابة: فُرض على نوال أن تكون متطرّفة من أجل أن تواجه مجتمعاً متطرّفاً، وهذا التطرّف الذي كانت تعرّف به ليس سوى النتيجة الطبيعية للبيئة والزمن الذي عايشته، وهو الأسلوب الوحيد الذي كان سينفع كي تكون قادرة على صنع فارق.

فالخطاب المعتدل حتى في زمننا هذا لا يهزّ أركان المنظومة، وبالتالي الختان يواجه بالتطرّف، التعنيف يواجه بالتطرّف، الاغتصاب يواجه بالتطرّف، العذرية تواجه بالتطرّف. وهذا ما قامت به نوال، المرأة، الطبيبة والكاتبة، والتي حين كبرت، تحدّثت عن صدمتها التي لازمتها بسبب تعرضها للختان في طفولتها، وعن الأعراف الاجتماعية والمحرّمات الجنسية بأكملها، دون أن تكترث باسمها أو "بصيتها"، متحدية مجتمعاً بأكمله، لتقول إن الختان جريمة، وإن المرأة إنسانة حرّة ولا تخضع لسلطة الرجل.

أحببت نوال السعداوي، وحتّى حين اختلفت معها لاحقاً لأسباب سياسية وفكرية وتمنّعت عن حضور محاضرتها في بيروت، بقيت أحبّها، ذلك لأنها أعطتني المفتاح الأول لأفكّ قيودي الكثيرة. نظّمت بأسلوب منطقي كل تخبطاتي الداخلية كفتاة، وعلّمتني أن الخطأ ينبع من المجتمع وليس منّي. أحببتها أيضاً لأنني حين كنت خائفة ولا أفهم مدار الحياة حولي، كانت حقيقتها وجرأتها مصدر قوّتي. كانت أول امرأة نسوية أمسكتُ بكلماتها مدافعة عن نفسي بها بالنقاشات والأحاديث، ولأنني حين لم أملك صوتاً كانت هي صوتي.

رحلت نوال السعداوي عن عالمنا يوم أمس، والآن بعد حوالي الـ 13 عاماً على قراءتي لها للمرة الأولى، كوّنت صوتي الخاص الذي يتعارض في الكثير من الأحيان مع صوت نوال، لكن في يوم من الأيام، وحين كنت في الـ 17 من عمري، كانت هي أوّل كاتبة علمتني أن أغضب، أن أقول حقيقتي وأطالب بحقوقي، ودفعتني في نقطة البداية كي أشقّ مساري.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image