بعد إنهاء المرحلة الثانوية، يغادر الطالب في الداخل الفلسطيني، الذي عاش حياته في أحضان قريته الفلسطينية في الجليل أو المثلث أو النقب، أحضان قريته إلى المدن الكبيرة في دولة الاحتلال. أهم مدينتين يقصدهما الطلاب بغرض الدراسة العليا هما تل أبيب وحيفا, على عكس ما كان يحدث قديماً حيث كانت الوجهة الأولى للطلاب هي القدس، كونها حافظت، أكثر من غيرها من المدن التي اختلط فيها السكان الفلسطينيون بالإسرائيليين، على مجتمع عربي يسكن داخلها ويحافظ على قوميته فيها.
يسكن اليوم في تل أبيب آلاف الطلاب والعمال الفلسطينيين. حيث يشغلون أعمالاً مختلفة في المجال الطبي والأكاديمي والمطاعم والبارات وغيرها. تل أبيب التي تجيد إظهار الوجه الناعم واللطيف والمحافظ على حقوق الأقليات والمضطهدين من مجتمعاتهم، تتكشف أمام الشاب الفلسطيني بعد انخراطه فيها، فتشكل له صدمةً أولية في كيفية التعامل وكيفية الحضور.
تحت الوجه الليبرالي والمنفتح في تل أبيب، ثمة أجندات سياسية يسارية ويمينية تحاول طمس هوية الفلسطيني القومية والجنسية والدينية؛ وذلك عبر الضغط المجتمعي الذي يمارَس بأشكال غير مباشرة على الشاب أو الشابة الفلسطينية، عبر سلبه مبادئه التي جاء يحملها إلى هذه المدينة، وقد تُلبسه شخصيةً يصير يتساءل بعدها عن نفسه وهويته، وقد يحدث العكس تماماً، أن يتمسك الفلسطيني بمبادئه ويصير متطرفاً فيها بسبب مواجهة الإسرائيلي.
الحجاب في تل أبيب
يعتبر الحجاب في مناطق كثيرة في الداخل الفلسطينيّ قيداً مجتمعياً. فكل من تتخلى عنه توصم بالخطيئة. ويحاول الناس دوماً إعادتها إلى "جادة الحق" من خلال أقوالهم المختلفة عن أهمية الحجاب للمرأة كسترة لها وعفة. على صعيد شخصي، وبسبب نشاطي الاجتماعي وفي مواقع التواصل الاجتماعي، خشيتُ لسنوات طويلة من خلع الحجاب، ليس فقط بسبب رد فعل والدي، بل بسبب رد فعل المجتمع. لم تكن لدي حصانة نفسية ذاتية تمكنني من المضي في هذه الخطوة. عشت حياتي كاملة في مجتمع منغلق، وعند مغادرتي القرية، درْست في النقب في الجنوب، حيث لا يمكن لمعظم الأشخاص هناك تقبل معلمة بدون غطاء رأس. ارتديته مرغمة سنوات طويلة، وخلعته قبل أشهر قليلة، بعد أن أتيحت لي تجربة الغربة في مدينة تل أبيب.
شعرت أخيراً بأنه بإمكاني الخروج من قوقعة تل أبيب، التي يحاول الاحتلال توصيفها على أنها الملجأ الأول للشباب الفلسطيني الهارب من ظلم العادات والتقاليد
ولكن على الرغم من سقف الحريات العالي الذي توفره المدينة، لم أشعر يوماً بأنه يمكن لها احتضاني، أو يمكنها تمثيلي أو تمثيل قناعاتي، كانت غطاء أستتر به من قريتي الصغيرة. عند عودتي للقرية، واجهت هجوماً لاذعاً من الأقارب والأصدقاء، حتى أن البعض منهم قاطعني. لكني شعرت أخيراً بأنه بإمكاني الخروج من قوقعة تل أبيب، التي يحاول الاحتلال توصيفها على أنها الملجأ الأول للشباب الفلسطيني الهارب من ظلم العادات والتقاليد.
على العكس من ذلك تقول لمى (اسم مستعار): لقد شكلت المدينة ضغطاً اجتماعياً علي، لم أستطع الحفاظ على الحجاب في ظل الضغط المجتمعي الممارس، ثمة أعمالٌ لم أستطع الحصول عليها بسبب الحجاب، وثمة مجموعات طلابية رفضت إقامة علاقات متينة معي بسبب الحجاب، في البداية عندما خلعته، اعتقدت أنه من الممكن الآن أن أختلط في هذه المدينة، لكن مع الوقت اكتشفت بأني ما خلعته إلا بسبب رفض المدينة لي كمسلمة فلسطينية"
تقول سهام من قرى الجليل (اسم مستعار): "ارتديتُ الحجاب في عمر صغير نسبياً، بسبب العادات والتقاليد السائدة في القرية. لم يكن لدي خيارٌ آخر. يُنظر إلى الفتيات غير المحجبات على أنهن غير محترمات وغير محتشمات. واجهت والدي في المرحلة الثانوية، كنت أنظر للحجاب على أنه يمثل أي شيء غير قناعاتي الشخصية. لكني اضطررت إلى ارتدائه كي لا يحرمني والدي من إتمام دراستي". وتكمل قائلة: "حين بدأت الدراسة في جامعة حيفا، كنت أستقل الحافلة إلى هناك، فأخلع الحجاب في المحطة المركزية في حيفا. لا يعرفني فيها أحد. ابتعدت عن مواقع التواصل كي أحافظ على حريتي المزعومة في المدينة. لكني لسنوات طويلة عشت داخل هوية مزدوجة. لم تمكنني من الظهور بوجه واحد". تقول سهام عن رد فعل العائلة حين قررت خلع الحجاب: "لقد قال لي والدي: أنا بريء منك ليوم الدين. لقد نصب نفسه مسؤولاً عن حياتي. رغم كوني بالغة وراشدة ومتعلمة ومستقلة مادياً اليوم، إلا أنه يرفض الحديث إلي أو الاتصال بي، رغم مرور العديد من السنوات على هذه الحادثة".
أما شذى من قرى المثلث (اسم مستعار) فتقول: "لقد اخترت الدراسة في تل أبيب كونها قريبة نسبياً من قريتي، فضلت البقاء قرب العائلة التي لم تمنحني يوماً إجابات على أسئلتي. كنت فتاة فضولية، تبحث وراء المسلمات، وتحاول دوماً إيجاد أجوبة منطقية. أمي تهربت دوماً من إجابتي على الأسئلة المتعلقة بالله والدين. بعد أن سكنت وحدي في سكن الطلاب، وبعد قراءاتي المختلفة في الفلسفة والدين توصلت إلى قراري في خلع الحجاب". وتضيف قائلة: "لم يتقبلني والدي أبداً. حتى اليوم، يرفض الحديث معي. يقول إني وضعت رأسه في الطين، ويصر على البقاء تحت كنف العادات والتقاليد. بُعدي عن عائلتي وعن مجتمعي، وعدم وجود أصدقاء عرب في حياتي، جعلني أسلك طريقاً صعبة. اليوم أنا في علاقة مع يهودي، لكني أدرك أن هذه العلاقة خاطئة، وأني بذلك أخون مجتمعي وشعبي. وصلت إلى هذا المكان بسبب الضياع ورفض المجتمع المستمر لي".
وتكمل قائلة: "تل أبيب؟ لم تكن يوماً مكاناً حاضناً، هي بالضبط ما يريدنا الاحتلال أن نظنه، بأنها المدينة الحلم؛ المكان الذي نستطيع الهرب إليه من العائلة. لكنها على العكس تماماً، تؤكد لنا ثانيةً أهمية التمسك بعقائدنا وقضيتنا. ما حدث لي لم يكن سببه الحياة في تل أبيب، بل ظلم المجتمع"
ارتديتُ الحجاب في عمر صغير نسبياً، بسبب العادات والتقاليد السائدة في القرية. لم يكن لدي خيارٌ آخر. يُنظر إلى الفتيات غير المحجبات على أنهن غير محترمات
المثليّة في مدينة الغسيل الوردي
تحاول إسرائيل، بما صار يُعرف بالغسيل الوردي، توفير دعم للمثليين في البلاد عرباً ويهوداً وحتى لأهالي الضفة الغربية، عن طريق مؤسسات إسرائيلية وصهيونية في تل أبيب، ومن خلال مسيرة الفخر العالمية التي تنظمها تل أبيب سنوياً في شهر حزيران، وتصدير صورة للعالم على أنها الملجأ الدافئ والمناسب للشباب والشابات الهاربين من مجتمعاتهم غير المتقبلة لهم. لكن ما يدور خلف الكواليس مختلف تماماً.
تقول الناشطة سوار من قرى الجليل (اسم مستعار): "غادرتُ القرية حين كنت في التاسعة عشر، صغيرة ولا أدري حقاً ما هي ميولي الجنسية. قررت الهرب إلى تل أبيب كي لا يضايقني الناس أكثر بأسئلة حول ما إذا كان لدي حبيب. جئت في البداية وسكنت في رمات أفيف، المكان الذي يُصدّر نفسه لنا على أنه المكان الأمثل لكل الهاربين من مجتمعاتهم. لم أستطع احتمال الزيف في هذا المكان، يهود يساريين يدّعون اللطف، وحين يكتشفون من لكنتك أنك عربي يبتعدون فوراً. لم أكن أتضايق من هذا الأمر، فقد حرصت دوماً على تعريف نفسي كفلسطينية، كان يهمني تعريفي القومي أكثر من تعريفي الجنسي".
وتضيف سوار قائلة: "تطوعت عدداً لا بأس به من السنوات في جمعية السوار لدعم المعنفين والمعنفات على خلفية ميولهم الجنسية أو النساء المعنفات في البيوت. كنا نستقبل حالات تلقّت مساعدة من مؤسسات إسرائيلية، هذه المؤسسات كانت تقدم في البداية الدعم لهؤلاء الشباب، ثم تتركهم يواجهون مصيرهم. واحدة من أصعب الحالات التي مرت علي، كانت لشاب من الضفة الغربية، أغرته هذه المؤسسة بتلقي الدعم منها بسبب تعرضه للتعنيف في بلده. جاءوا به إلى تل أبيب، وأعطوه تصريحاً مزوراً، لا يستطيع من خلاله استئجار بيت أو البحث عن عمل. فانتهى به المطاف في الشارع، نائماً على شاطئ البحر أو في زوايا يافا هرباً من شرطة الاحتلال حتى لا تقبض عليه وتعيده إلى الضفة، حيث سيتم التعامل معه على كونه عميل أو خائن".
"شاركت مرة واحدة في مسيرة الفخر المُدعية، وليس من منطلق ثقة بما يدعونه أمام العالم. تصرف إسرائيل ملايين الشواقل على هذه المسيرة. تجهز لها الإعلانات في كل عواصم العالم، فمن غير الممكن ألا يسمع بها أحد. تزامن المسيرة آنذاك مع الحرب على غزة. قمنا أنا وصديقتي بتوزيع المناشير على المشاركين حول ما تقوم به إسرائيل من قتل وقصف وتشريد للأطفال والأمهات ولأهالي القطاع بما يترافق مع ادعائها دعم المثليين في تل أبيب. لا أنسى الوجوه في ذلك اليوم، كان السياح مصدومين من أن هذه البلاد، بلاد "الحرية"، بإمكانها فعل ذلك"، تقول سوار.
عند مجيء الطالب الفلسطيني إلى تل أبيب، تأخذه المدينة بالحريات المزعومة، ثم ما يلبث أن يكتشف قشرة كبيرة، تختبئ تحتها إسرائيل القامعة والعنصرية والمحتلة
إسكات الهوية الفلسطينية في جامعة تل أبيب
من ناحية أخرى، تظن إسرائيل أنها، ومن خلال دمج الطلاب الفلسطينيين في جامعاتها، وفي تل أبيب بالذات، ستتمكن من تغيير انتماء هؤلاء الطلاب من خلال فتح المجال أمامهم للانخراط في المجتمع الإسرائيلي. يقول طارق طه؛ المُركز السابق لجفرا الطلابية في جامعة تل أبيب: "ثمة أنماط اجتماعية يسارية في هذه المدينة تخلق حالة صدام بين الطالب الفلسطيني والمدينة. عند مجيء الطالب الفلسطيني إلى تل أبيب، تأخذه المدينة بالحريات المزعومة، ثم ما يلبث أن يكتشف قشرة كبيرة، تختبئ تحتها إسرائيل القامعة والعنصرية والمحتلة".
ويضيف طارق: "عند دخولي جامعة تل أبيب، تم استدعائي "لمحادثة" مع الأمن. ما يختبئ تحت هذه المحادثة هو الشاباك الإسرائيلي، هذه المقابلة أو الدردشة كانت من أجل كسر الصوت الوطني والقومي الذي اعتدت على رفعه سابقاً في القرية. لم تستطع أجندة الجامعة ومحاولاتها إخماد هويتنا من خلال إسكاتنا. خلال دراستي في جامعة تل أبيب، استدعيت في مرتين للجان الطاعة، في المرة الأولى بسبب تواجد محاضر مصري في الجامعة، رفضنا تواجده كحركات طلابية وطنية واعتبرناه تطبيعاً مع الاحتلال، فقمنا بطرده من الجامعة. وفي المرة الثانية اُستدعيت إلى لجنة الطاعة بسبب توزيع منشورات سياسية تدعو إلى التظاهر ضد الحرب على غزة".
"تدعي جامعة تل أبيب بأنها المساحة الأهم في الحريات الدينية وممارسة الشعائر. هذه الجامعة نفسها قامت بإغلاق مصلى الطلاب المسلمين ثلاث مرات. في المرة الأخيرة تم إغلاق المصلى لأشهر طويلة، وناضل الطلاب بشكل جماعي من أجل الحصول على هذا الحق. في المقابل، يملك الطلاب اليهود كنيساً كبيراً يتوسط الجامعة، هذا التمييز الديني يحاول دوماً سلب الفلسطينيين من قوميتهم وقضاياهم"، يقول طارق.
ويقول الطالب جمال مصطفى، الذي اعتُقل في إحدى المظاهرات: "لقد قامت شرطة الاحتلال باستخدام وضعي كطالب وتهديدي من أجل ترك العمل السّياسي، بادعاء أن عملي السياسي سوف يؤثر على وضعي التعليمي في الدولة كوني طالب في جامعة تل أبيب" ويضيف: "الاعتقال في المظاهرة لم يكن موجهاً تجاهي بالذات، بل الهدف الأساسي منخ هو تخويف الطلاب وردعهم عن العمل السياسي. والدليل على ذلك هو أنه بعد اعتقالي تركوا الطلاب لوحدهم في المظاهرة".
رغم كل محاولات إسرائيل تجميل المدينة، ومحاولة وضعها في المركز؛ كمدافعة عن الحريات، وكمكان يستطيع فيه المرء ممارسة حياته بحرية. إلا أن هذا القناع يتكشف ما إن ينخرط العربي الفلسطيني فيها. بإمكان تل أبيب أن تكون معقلاً للحريات للإسرائيليين فحسب، لكنها تقمع بيد ناعمة كل فلسطيني يحاول رفع صوته في هذه المدينة، وتحاول بكل أجندتها سلبه معتقداته وانتماءاته. وعلى الرغم من ذلك، فإن الشباب الفلسطيني في معظمه، يرفض ببسالة الانجرار خلف القشرة الواهية التي تظهرها المدينة، بل على العكس، تصير المدينة سبباً في انتماءه الأكبر لبلاده.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...