شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
مريم التي أبت الرحيل إلا مع العاصفة... جدّتي النسويّة وقرطها الذهبي

مريم التي أبت الرحيل إلا مع العاصفة... جدّتي النسويّة وقرطها الذهبي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 8 مارس 202104:29 م

يأخذني أحمد نحو الصّخور، يربط الحبل حول خصري، ويؤكّد لي أنني بأمان وأنا أصدّقه. منذ كنت في 13 من عمري حتّى اللحظة أنا أصدّقه. واليوم يطلب منّي أن أتسلّق الجبل وأن أثق بالحبل.

أرى الأجساد معلّقة في الهواء، وأخاف كثيرًا، ليس الخوف الذي ألفته بل نوع جديد مرتبط بفكرة الموت. وأتذكّر أنه عليّ الرحيل بعد ساعة لتفريغ مقابلات المقال المقبل والذي سيتناول فكرة الموت وحضورها أكثر من الحياة بحد ذاتها، في لبنان. وبالتالي تفاعلنا معه كموضوع من يومياتنا. أتناسى كل ما يدور في رأسي وأقرّر التسلّق. أصل إلى نقطة الوسط وأستسلم على صخرة صغيرة ناتئة وجدتها، جسدي لم يخذلني لكن عقلي فعل، وجعلني أصدّق أن النهاية تنتظرني في الأعلى أو في الأسفل، وهناك على الجبل ولمدة لا تتجاوز الـ 30 ثانية حضرت كل الأشهر السابقة، وكل ما حملته معها من خسارات شخصية وعامة، وخسارتي الأكبر، جدّتي "مريومة". طلبت من أحمد التوقّف عن الكلام، وخطر لي أن أبقى هناك حيث وجدت خلاصي باللاخطر، لكن القلق تضاعف. أَتْكَأْتُ على صخرة، محاولة ألّا أبكي، ووضعت يدي على القرط الذهبي، كل ما تبقّى لي من جدّتي، ثم نزلت.
حين سألت جدّتي (النسوية) مريومة يومًا: من أذكى الرجال أو النسوان؟ قالت: "أني"
والآن أفهم، حين أُجبرت على الخروج من المألوف وفقدت السيطرة، أدركت للمرة الأولى منذ 17 كانون الثاني/يناير أنني خسرت الرحم الأخيرة في حياتي. وأنني من خلال الموت العام الذي يسيطر على حياتنا جميعًا أحاول أن أفهم الموت الخاص الذي حلّ عليّ، والذي يحلّ يوميًا على العديد، ولا يتم التعبير عنه كما كان سيحصل في الأيام العادية، لأن الإنهيار الشامل أخذ منّا هذا الحق. بإمكان الموت الجماعي أن ينتظر، يُصادف أن اليوم هو يوم المرأة العالمي، ولي واجب يجب أن أنفذه تجاه هذه الجدّة وكل الجدّات.
لصديقي "معروف" جدّة يتحوّل إلى طفل صغير كلّما تحدّث عن ذكرياته معها، ولكل أصدقائي رأي شبه موحّد حول الجدّات، هؤلاء النساء خضن حياة نسوية بأفعالهنّ دون أن يدركن ذلك، وأنجزنّ أكثر منّا بكثير. ولديهن قدرة عالية على التحكّم بيومياتنا بأسلوب محبّب وعاطفي، وبحكايات تأخذ الكثير من الوقت لنفهمها.
تحكي لي "مريم ناصر" عن نفسها كامرأة، دون أن تعي معنى أفعالها، حين سألتها يومًا: من أذكى الرجال أو النسوان؟ قالت: "أني".  تشرح لي كيف كانت تقطف الدخان في الصباح الباكر، تقصد العين يوميًا لملء الجرّة، تحمل المؤونة على ظهرها من بلدة إلى أخرى لتطعم أطفالها، وكيف أنها كانت تلعب على السطح حين أخبروها أنها ستتزوّج، وتنتقل من قريتها الجنوبية إلى البقاع الغربي، لتعيش مع جدّي حسين، الذي تقول إنها تحبّه: "لو ما بحبّه خلّفت منّه كل هالولاد؟"، وحين قرّرت التوقّفت عن حبّه انتقلت للعيش في منزل آخر بعيدًا عنه، وعلى الرغم من ذلك بقيت تحكي عنه كشريك لها في الحياة والعائلة.
لم يكن هناك أحاديث محرّمة عند جدّتي مريومة، بدءً من الجنس، وصولًا إلى العلاقات العاطفية ورأيها بالجميع. كانت واضحة، تحبّ من تحب.تكره من تكره، وتسمّي الأمور بأسمائها في السر والعلن. تسخر من طريقة مطاردة الرجال للنساء
بحسب ما فهمته منها، هي لم تتوقّف عن حبّه، لكن حين خسرت ابنها عبّاس قبل أكثر من 50 عامًا توقّفت عن حب الحياة نفسها.
 قبل حوالى العام وفي منزلها الذي رفضت أن تنتقل منه للعيش مع أولادها، لأنها تفضّل الحفاظ على مساحتها وخصوصيتها، أخبرتني أنها لا تخاف الموت، لأنه سيجمعها بابنها. ودون أن تدرك شاركتني جزءًا من تاريخ صحتها النفسية، فهي بعد موته "دشرت" في الوديان باحثة عنه، وشعرت أن حياتها يجب أن تنتهي. في الأسبوع الأخير من حياتها عادت لتحكي عن الوديان، عن ابنها عبّاس، وعن بكرها، عمّي عادل الذي فقدته قبل موتها بـشهر ونصف، وصار هو رغبتها الإضافية والأساسية للرحيل عن هذا الكوكب.
بإمكاني أن أكتب كل هذا من منزلي الخاص في بيروت، لأن جدّتي، التي كانت بكل ما تمثّله، أكثر امرأة نسوية صادفتها في حياتي، واجهت في العام 2002 الجميع، وأعطت قراراها بضرورة تنفيذ رغبة فتيات العائلة بالانتقال والعيش وحدهن في بيروت بهدف إكمال تعليمهن، ولأنني حين حصلت على وظيفتي الأولى في مكتبة الاتحاد في صيدا، فتحت لي منزلها لأقطن فيه، بعد أن لاقى قراري معارضة بحجّة أنني غير محتاجة للعمل. وبالتالي جزء كبير من الحرية الاجتماعية والاقتصادية التي حظيت بها، كان بدعم من جدّتي التي شقّت لي الطريق بأفعالها وبأسلوب عفوي يتعارض في الكثير من الأحيان مع الأفكار التي كانت تتفوّه بها. ولهذا السبب جدّتي كانت نسوية بالأفعال وليس بالشعارات، وهذا هو الأهم.
في السنوات الخمس الأخيرة بنيت صداقة متينة مع جدّتي مريم، وقضيت ساعات بجانبها على الكنبة ليس لرفع العتب بل لأتعلّم منها، إذ كنت قد فهمت أن لهذه المرأة الكثير من القصص التي ستساعدني في الحياة. لم يكن هناك أحاديث محرّمة عندها، بدءاً من الجنس وصولًا إلى العلاقات العاطفية ورأيها بالجميع. كانت واضحة، تحبّ من تحب. تكره من تكره، وتسمّي الأمور بأسمائها في السر والعلن. تسخر من طريقة مطاردة الرجال للنساء. تشرح لي كيفية التصرّف بذكاء، واحتراف فن اللامبالاة في المواقف الصعبة. تسألني: "مين بيعجبك أكتر هيدا الرجال او هيدا؟" وتحاول بجديّة فائقة أن تفهم الأسباب. تحمل مرآتها الزهرية قبل كل صورة سألتقطها، تضع يدها على بشرتها، ترتّب منديلها، وتؤكّد أنها جميلة. في هذه اللحظات تحديدًا كنت أشعر بالخجل، فهذه المرأة التسعينية تجاهر بفخرها وبجمالها وبوجهها في الوقت الذي أنا، حفيدتها، قد أقلق لأيام لأن وزني زاد كيلوغرامًا واحدًا.  
بالقرب من سريرها، تضع حقيبة الأدوية، كريم يديها، عطراً خفيفاً وزنبقة صغيرة كنت قد جلبتها لها. تسألني عن أسباب انخفاض وزني، تلقي اللوم على "هواء بيروت"، وتحاول إرجاع جسدي القديم عبر إطعامي كل ساعة. تطلب مني أن أصبغ شعرها الأبيض، وأن أقلّم أظافرها. وتتدلّع في كل مقطع فيديو أسجّله لها، لتعود وتشاهده عشرات المرات. في حال لم يعجبها، نعيد التصوير، وأعلم أنني نجحت بالتقاط الفيديو المناسب، حين تعبّر عن رضاها برؤية نفسها وسماع صوتها، من خلال ابتسامة صغيرة تفلت منها وترديدها: "اسمالله عليي".
الجدّات يقفن على باب الموت منذ طفولتنا، فنكون قد تحضّرنا لرحيلهن قبل مجيئه. كانت جدّتي الرحم الأقدم الذي ألفته على هذه الأرض. أنا امتداد لها وهي آخر امرأة جئت منها
جدّتي، التي لا تعرف شكل اسمها على الورقة، ولم تقرأ كتابًا واحدًا في حياتها، كانت بطريقة فطرية فخورة بأنوثتها، ونقلت لي هذا الأمر، من خلال تعليقات صغيرة على ملابسي، شعري ولون الفستان الذي أرتديه. تكره الفستان الأحمر، وتحبّ الأزرق، لأن الأخير لونها المفضّل، تسألني عن برجي، وتفرح أنها من مواليد شهر آب/ أغسطس، وبالتالي برجها الأسد أفضل من برجي العذراء. تروي إنجازاتها الكبيرة كأنها لم تكن شيئًا، فحين تم القبض على جدّي وعمّي من قبل "جيش لحد"، وتم الزجّ بهما في سجون اسرائيل، كانت هي من حرّرتهما عبر ذهابها للجهات المعنية ووقوفها أمام القاضي، وحين مُنع أبي من العمل في مراهقته لأن والده يفضّل بقاء أولاده بجانبه ومساعدتهم له في الأرض، كانت هي من هرّبته في الليل إلى زحلة، وأرسلت له في اليوم التالي فرشة للنوم والقليل من الملابس والطعام. وحين اكتفى جدّي بالزراعة، جعلته مختارًا للقرية، وخلال فترة الحرب أرسلت أولادها إلى البلاد البعيدة لكي يعملوا. ولم تخفِ في صباها الحبل المعلّق فوق رأسها على الحائط بل وثقت به، وشدّت بيديها عليه طوال فترة المخاض، إلى أن أنجبت طفلها الذي لفّته بقماشة زرقاء، ومن ثمّ قطعت الحبل السري بينها وبينه بسكّين كان قد حضّرته، وهكذا أنجبت أطفالها التسعة وحدها.
مع كل قصّة، كنت أرى مدى صلابتها، ذكاءها ونسويتها. لم تتعامل مع نفسها كامرأة، لكنّها تحدّت العوائق التي فرضت عليها لأنها امرأة دون أن تقف عندها أو تعيرها اهتمام. كان لها أخطاؤها الكثيرة، لكنها دائمًا أعادت مراجعة تاريخها الشخصي وغيّرت أساليبها. لم تسألني يومًا عن الزواج، ولم تطلب منّي أن أضع الحجاب، لكنها طلبت منّي أن أواجه حقيقتي، وأن أرى الواقع كما هو كي أتمكّن من التعامل معه، والمضي قدمًا. وهذا ما فعلته هي.
لم تسألني يومًا عن الزواج، ولم تطلب منّي أن أضع الحجاب، لكنها طلبت منّي أن أواجه حقيقتي، وأن أرى الواقع كما هو كي أتمكّن من التعامل معه، والمضي قدمًا
الجدّات يقفن على باب الموت منذ طفولتنا، فنكون قد تحضّرنا لرحيلهن قبل مجيئه. كانت جدّتي لي الرحم الأقدم على هذه الأرض. أنا امتداد لها وهي آخر امرأة جئت منها. ليلة الـ 17 كانون الثاني/يناير كان لي حديث أخير معها، أخبرتها فيه أنني سأزورها يوم غد، أو بعد انتهاء العاصفة. في الصباح، جاءت العاصفة ورحلت جدّتي. ابتسمت في سرّي لأن هذه المرأة أبت أن تغادر قبل حلول العاصفة التي تأخر قدومها كثيرًا هذا العام، لتؤكّد لي أن ذهابها عن الحياة مثل مجيئها، لن يكون يومًا عاديًا.
حين فتحنا حقيبة موتها التي كانت قد حضّرتها قبل عقود، وجدنا كفنها الأبيض الذي ابتاعته من العراق، والعطور التي تريدها أن تفوح في قبرها، والقرآن، وأقراص الصلاة. تركت لي أقراطها الذهبية، وبرهنت لي مجدّدًا أنها امرأة استثنائية بأفعالها، في حياتها كما في موتها. ملتصقة بواقعها ومحرّكة له بموجب قراراتها الفردية، فوق كل ما هو جندري واجتماعي، محصلّة حقّها بأن تكون نفسها.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard