مع تخطي الدولار الأمريكي حاجز الـ5800 ليرة لبنانية ، نستطيع الآن أن نقول إن الوقت الذي كان الدولار فيه يساوي 1500 ليرة لبنانية قد ولَّى ولن يعود. المشهد في المدينة يتغير بسرعة، فمع انهيار الوتد أو الربط على سعر 1500 ليرة لكل دولار والبالغ من العمر 23 عامًا، بدأت المتاجر والمطاعم والفنادق في الإغلاق جميعًا. كان لإغلاق الأماكن الخاصة التي تحمل قيمةً عاطفيةً مثل دار المصور وكعك أبو عرب تأثيره المؤلم بشكل خاص. الأسعار أيضًا تواصل الارتفاع، فالذهاب إلى المتاجر واكتشاف أن كل شيء أكثر تكلفةً هما أمر خانق ليس من الناحية المادية فحسب بل من الناحية النفسية كذلك. إن فهمنا الكامل لقيمة الأشياء وما تستحقه لم يعد أمرًا ثابتًا بعد الآن. في بلد مثل لبنان، حيث كان ربط الليرة بالدولار منذ سنوات يمنحنا قوة شرائية ضخمة مع إمكان الوصول إلى العديد من المنتجات الأجنبية، فإن هذا التحول المفاجئ ستكون له عواقبه التي يصعب التكهن بها.
"حتى أن أحلامي جرى تشكيلها بواسطة الدولار"
بالنسبة إلي وإلى جيلي، الذي لم يعرف لبنان إلا في ظروف السعة، هذه ليست مجرد أزمةٍ اقتصاديةٍ بل تحولٍ كليٍ للواقع الذي نشأنا عليه. يكشف انهيار العملة أن ما اعتبرته عاديًا هو في الواقع مجرد وهم تم تصميمه اقتصاديًا. في ضوء هذا التحول، اتضح لي أن نشأتي في بيروت كانت في الواقع مرحلة متميزة ونادرة، مرحلة تنتهي الآن بعدما انتهى هذا الربط، إذ أصبحت بنيتها الفريدة والمصنعة واضحةً أكثر من أي وقت مضى.
أيام نشأتي في بيروت في أوائل القرن الحادي والعشرين، بدا اقتصاد لبنان مستقرًا ومتعولمًا. لم تكن الشوارع نابضة بالحياة قط قدر مراكز التسوق، الأماكن التي قضيت فيها جزءًا كبيرًا من طفولتي. غالبية المطاعم والمتاجر والأفلام كانت أجنبية. كان المركز التجاري مكانًا زاخرًا ومزدهرًا بالحياة مثل السوق القديمة. اعتقدت خطأً أن المشي في قاعات المركز التجاري يوازي المشي في شوارع المدينة، لكنهما بالطبع ليستا الأمر عينه على الإطلاق. فالمركز التجاري نفسه مفهوم أجنبي، مكان معزول ماديًا وثقافيًا عن الشوارع وعن المجتمع كله.
بالنسبة إلي وإلى جيلي، الذي لم يعرف لبنان إلا في ظروف السعة، هذه ليست مجرد أزمةٍ اقتصاديةٍ بل تحولٍ كليٍ للواقع الذي نشأنا عليه. يكشف انهيار العملة أن ما اعتبرته عاديًا هو في الواقع مجرد وهم تم تصميمه اقتصادياً
كل أفراح طفولتي تم استيرادها. الرسوم المتحركة التي شاهدتها كانت كلها أمريكية، والبرامج الإذاعية التي استمعت إليها دائمًا في الطريق إلى المدرسة، والبرامج الصباحية على راديو One أو NRJ، هذه كلها ذات نسق أمريكي مميز، ومذيعون يتحدثون الإنجليزية. هذا التقارب لجميع الأشياء التي صدرها الأمريكيون إلى سنوات مراهقتي، والتي احتلت مساحات واسعة في بيروت في أماكن مثل Chili's، TGI Fridays، وأبرزها بالطبع Roadsters. لم يكن لدى هذه المطاعم قوائم طعام أميركية فحسب، بل كانت مزينة بشعار "أمريكانا" بدءًا من لافتات الطرق على الحائط إلى الشارات الأنيقة على أزياء النُدُل. قضيت معظم أعياد الميلاد إبان مراهقتي في أماكن كتلك، وكانت معظم تجاربي المبكرة في احتساء المشروبات الكحولية في إحدى ليالي "Bob's Diner" (العشوائية جدًا) لتناول الجعة وأجنحة الدجاج.
جاهزية المنتجات والثقافة الأمريكية وتوافرهما أتاحا لي سهولة الارتباط بالأشخاص الذين كنت أشاهدهم على شاشة التلفاز. لقد استهلكت تلك الثقافة تمامًا حتى أنني أردت أن أصبح جزءًا منها. لبعض الوقت، شعرت بأنني مشروع مواطن أمريكي في المستقبل. وهذا يذهلني كمثالٍ مبكرٍ على التدخل في اقتصادنا الدولاري، بل على صنم الهجرة الذي جرى تصديره ضمنًا إليّ خلال تربيتي. فعلى الرغم من كونه وطني، كان لبنان دائمًا مكانًا عابرًا بالنسبة إليّ، كان جليًا منذ البداية أنني أعدّ العدة للمغادرة، كما هو الحال مع العديد من الأطفال اللبنانيين. لم يكن اختيار مجتمع جديد أمرًا صعبًا، فقد كان حولي في كل شيء، إذ ولّدت تصوراتي الإيجابية عن المجتمع الأمريكي رغبةً بذهني المراهق في أن أكون ضمن ثقافته. باختصار، لقد خلب لبِّي بأناس مثل Pop Tarts وJohnny Bravo.
في الواقع، حاولت الهجرة إلى الولايات المتحدة عن طريق التعليم. بحكم نشأتي في نظام تعليم أمريكي في بيروت وغوصي في الثقافة الأمريكية، شعرت بالارتياح لفكرة العيش هناك. خالجني شعور بقدرٍ كافٍ من التربية والتهذيب في كل ما هو أمريكي. لكن أمريكا التي رأيتها على التلفاز لم تكن هي أمريكا الحقيقية. الأشخاص الذين قابلتهم لم يكونوا ودودين مثلما ظهروا على Friends، ومن المؤكد أنهم لم يكونوا مضحكين كما كانوا في Seinfeld أو متنوعين كما بدوا في Community. لم يكن طعامهم مثيرًا كما توقعته ولكنه كان فاسدًا (وفيه الكثير من السكر كذلك)، وسياساتهم لم تكن ليبرالية وتقدمية كما تصورت أن يكون أوباما.
لفهم مدى تأثير هذا الذوبان الاقتصادي، قد يكون مفيدًا أن ترى كيف تغيرت مدينتنا أثناء التطور الاقتصادي الذي سبقه. محلّة الحمرا مثال واضح يعكس هذا التحول. باستثناء الأماكن القليلة المرموقة، فالحمرا حاليًا - في معظمها - لا طعم لها بشكلٍ أو بآخر. صف طويل من المقاهي والمطاعم الأمريكية وفروع ماركات الملابس المتشابهة جدًا مع بعض المواقع السياحية على طول الطريق. في المُجمل، لم أعرف سوى نوعين من الحمرا: الأولى ذات طابع رومانسي زخر سابقًا بالرفاهية والثقافة في الوقت نفسه، والأخرى الأميركية السِلَعية التي نمتلك الآن.
"على الرغم من كونه وطني، كان لبنان دائماً مكانًا عابراً بالنسبة إليّ، كان جلياً منذ البداية أنني أعدّ العدة للمغادرة، كما هو الحال مع العديد من الأطفال اللبنانيين." الجيل الشاب اللبناني يواجه فكرة التطلع شرقاَ بريبة واحباط مفهومين.
في الآونة الأخيرة فقط، تعرفت على حمرا ثالثة، واحدة بين الاثنتين السابقتين. تلك التي لا يزال لديها بعض المقاهي والمطاعم القديمة، الأماكن التي تشبه مجتمعنا أكثر من تلك المستوردة، أماكن مثل Modca وHorseshoe، وكلها كانت محاور للحياة الفكرية والثقافية في رأس بيروت. مقارنةً بمطاعم الحمرا اليوم، كانت أسعار هذه الأماكن أكثر معقولية، وكانت أجواؤها أكثر ارتباطًا وروادها أكثر تنوعًا. كانت أماكن يلتقي فيها الصحافيون والمثقفون، وتتم قراءة الصحف ومناقشة السياسة بصوتٍ عالٍ. كما كانت العلاقات بين الرواد والموظفين في تلك الأماكن مألوفة أكثر من العلاقة الخادعة السائدة في المطاعم الأمريكية التي حلت محلها. عكست هذه الأماكن المجتمع والثقافة البيروتييْن بطريقة تبدو مستحيلة في أماكن مثل Roadsters أو Starbucks.
لطالما بدت بيروت، كمدينة، تمر بمرحلة انتقالية مستمرة. كلما فكرت في الأمر أكثر أدركت أن لا وجود لبيروت الأصلية التي أتحدث عنها، تلك المدينة ذات الميزات الفريدة والمتأصلة التي أفسدها التأثير الأجنبي. عوضًا عن ذلك، وبسبب كونها دائمًا مدينة رئيسية، فقد انتقلت من شكل إلى آخر من أشكال التغريب. لم تكن بيروت التي عاقرتها خلال نشأتي مدينة غربية مستحدثة، بل كانت مجرد إصدار آخر من غربيتها المستمرة.
كان فهمي لما كنت عليه، ولمن انتميت وأين أردت أن أكون، ليس منفصلًا عن هذا الربط. إدراكي أن رغبتي في أن أصبح أمريكيًا لم تكن رغبة طبيعية فطرية جعلني أعرف أنني كنت أعيش محض أسطورة، حتى أن أحلامي جرى تشكيلها بواسطة الدولار. استغرق الأمر سنوات لأراجع الكثير مما اعتقدته في ذلك الوقت. لم أعد أرغب في الهجرة إلى الولايات المتحدة، وبالتأكيد لا أؤمن الآن بفوقية ثقافتها. لا يمكن لأي شخص أن يتأكد مما قد يجلبه الغد. الأمر المؤكد هو أن واقع جيلي سيصبح شيئًا من الماضي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...