ينطلق البائع في الشوارع منادياً بصفارته، فيلتفّ الأطفال حوله والكبار أيضاً، ليحصلوا على حلواهم المفضلة، "غزل البنات"، بالنكهة التي يرغبون بها، وقد تكون ضمن كيس صغير ملون، أو على عصا طويلة تحتضن الحلوى القطنية.
معنى الكلمة وأسماؤها المختلفة
معنى كلمة "غزل البنات" مرتبط بطريقة إعدادها، فالحلوى بسيطة في صنعها، وتعتمد بشكل أساسي على السكّر، ومن خلال آلة تضم إناء معدنياً، يتمّ غزله بطريقة معينة، فيتحول مع الوقت إلى قوام شبه شفاف، يلتف حول بعضه وطعمه حلو.
الدكتور مصطفى جاد، عميد المعهد العالي للفنون الشعبية والباحث في التراث، قال في حديث لرصيف22: "غزل البنات متعلق بشكل مباشر بصفارة البائع وأغنياته الموسيقية الجاذبة التي تجعل الكبار والصغار يسرعون إليه، ثم ينجذبون إلى الحلوى التي تغير شكلها بتطور العصر".
الباحث في التراث أشار أيضاً إلى أن بساطة البائع وخفّة ظله كانا بمثابة أمرين متعارف عليهما دائماً، حيث يتواجد في الأماكن الشعبية والموالد، فيلتفّ المشترون حوله ويحقق مراده، كما يقوم ببعض الحركات، عندما يقف بآلته في الشارع ويصنع غزل البنات أمام المارة.
ويُطلق على هذه الحلوى أسماء مختلفة، ففي مصر والشام هي "غزل البنات"، بينما في الخليج يطلق عليها "لحية بابا" أو "لحية الشايب" وأيضاً "لحية جدو"، بينما في السودان تسمى "حلاوة قطن". ويخبرنا الدكتور مصطفى جاد بأن هذه الحلوى يطلق عليها في المغرب اسم "الصوفة"، وفي أستراليا يطلق عليها "غزل الجنية".
أما الباحث والصحفي العراقي عادل حسوني العرداوي، فيتحدث لرصيف22 عن اسم هذه الحلوى في العراق والأردن، وهو "شعر البنات"، وذلك لأنها تشبه خصلات شعر رؤوس البنات، أي شعر رقيق، وهي تصنع من السكر وزيت السمسم.
الأصل التاريخي للحلوى
هناك عدد من الروايات المختلفة التي تتحدّث عن أصل غزل البنات، وترجح أغلبها أنها جاءت من أوروبا.
الدكتور مصطفى جاد أوضح بأن هناك مصادر تقول إن أصل غزل البنات أوروبي، حيث بدأت من إيطاليا، لرجل كان يخلط السكّر بالماء الخفيف، فتكونت الخيوط بعدها، ومن ثم جمعت ليُطلق عليها هذا الاسم. وفي أواخر القرن التاسع عشر، بدأت هذه الحلوى بالانتشار في العديد من بلدان العالم، باختلاف مسمياتها وطرق صنعها.
الباحث في التراث الشعبي السوري، محيي الدين قرنفلة، قال لرصيف22 إن الحلوى لها أصول تركية، وإن الغزلة في سوريا تشبه الشعر الناعم المنفوش، وتصدّر للعديد من الدول، ولها وضع مميز، إذ ترتبط بالكثير من ذكريات الطفولة. مشيراً إلى أن الكثير من السوريين يصطحبونها معهم إلى أصدقائهم في دول الاغتراب، بناء على طلبهم، إذ يشتاقون للطعم الذي تذوقوه عندما كانوا أطفالاً.
بدأت حلوى غزل البنات من إيطاليا، لرجل كان يخلط السكّر بالماء الخفيف، فتكونت الخيوط بعدها، ومن ثم جمعت ليُطلق عليها هذا الاسم. وفي أواخر القرن التاسع عشر، بدأت هذه الحلوى بالانتشار في العديد من بلدان العالم، باختلاف مسمياتها وطرق صنعها
طرق بيع بسيطة
بساطة حلوى غزل البنات ترتبط أيضاً ببساطة بيعها، ويعود الفضل في اختراع آلة غزل البنات لطبيب الأسنان البريطاني ويليام موريسون، والحلواني جون وارتون، عام 1897، وكان اسمها "خيط الجنية"، وكانت وقتها مرتبطة بالأغنياء فقط، وذلك بسبب ارتفاع سعر السكّر، إلى أن تطورت بمرور الوقت وأصبحت حلوى شعبية إلى حدّ كبير.
الباحث مصطفى جاد قال إن حلوى غزل البنات ترتبط في أذهاننا بالرجل الذي يلفّ في الشوارع بآلته البسيطة وينفخ في صفارته لنتجمع حوله ونشتري منه، وكان يسير على دراجة أو عربة يجرها أمامه، ويعمل عادة في الموالد، والآن أصبح يعمل في المتنزهات المختلفة، ومع الوقت أصبحت هناك أكشاك ومحلات مختلفة للبيع.
وقال الباحث العرداوي: "شعر البنات يباع في الأسواق الشعبية، ومن قبل الباعة الجوّالين في الحواري والأزقة، بأسعار رخيصة جداً، وعادة ما ينادون على بضاعتهم من هذه الحلوى بمستهلات غنائية منغمة وجميلة بأصواتهم: 'يا زلابية وشعر بنات، لوين أولي ووين أبات'، وسرعان ما يسمع الأطفال صوت البائع، ويهرعون إليه للحصول على حصتهم لقاء مبالغ زهيدة".
وعن ذكريات الطفولة في الثمانينيات مع هذه الحلوى، يتحدث المترجم اليمني بسام جوهر، لرصيف22: "كانت تُصنع من مواد هي بالأصل نكهات اصطناعية وسكر، وتوضع داخل آلة تحتوي على شيء شبيه بالعصا البارزة في المنتصف، تتحرّك وتغزل المادة، فتتكوّن خيوط ثم تكبر وتصير على شكل كرة، يتحكّم الصانع في حجمها".
شعر البنات يباع في الأسواق الشعبية، ومن قبل الباعة الجوّالين في الحواري والأزقة، بأسعار رخيصة جداً، وعادة ما ينادون على بضاعتهم من هذه الحلوى بمستهلات غنائية منغمة وجميلة بأصواتهم: 'يا زلابية وشعر بنات، لوين أولي ووين أبات'
وأضاف جوهر: "كانت توجد بداية في المدن، ثم لاقت رواجاً واسعاً في القرى اليمنية بشكل خاص، وانتشرت واشتهرت، ولم تختلف طريقة بيعها سوى بالطريقة التي يروّج لها صانعوها، أي أننا كنا نذهب للمحلات التي تبيعها، والآن أصبح لدى صانع الحلوى موزعون في الحدائق والأماكن العامة وخارج أسوار المدارس".
وبالنسبة للباحث في التراث، مصطفى شريف، ترتبط حلوى غزل البنات في ذهنه بمنطقة شبرا الخيمة التي نشأ فيها، حيث كانت صفارة البائع ما يلفت نظره كطفل صغير يجري ويشتري ما يريده بثمن بسيط، "ثم بدأت الحلوى بعد ذلك تصنع أمام أعيننا، من خلال ماكينات البائعين الموجودة في الشوارع، وكانت لها ألوان مبهجة ونكهات مختلفة"، كما يقول في حديثه لرصيف22.
ويضيف شريف بأن هذه الحلوى بدأت أولاً في الأرياف، ثم انتقلت للمدن، وكانت تكثر في الأعياد والموالد الشعبية التي تشهد تجمع الناس.
غزل البنات والتراث الفني
بساطة حلوى غزل البنات باتت ملهمة أيضاً لعدد من الشعراء. يقول العرداوي إن هناك في العراق نوعاً من الشعر الشعبي أو الزجل يطلق عليه تسمية "الدارمي" أو "غزل البنات"، لكونه من السهل الممتنع. وهو شعر رقيق، البيت الواحد منه مكون من صدر وعجز فقط، يعتمد الاختصار وتكثيف المعاني ووضوح الهدف، ويعد العمود الفقري للغناء الشعبي العراقي.
وفي عام 1949، أنتج الفيلم المصري "غزل البنات"، وتم اختياره كواحد من أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، وهو من سيناريو وإخراج أنور وجدي، وبطولة كل من نجيب الريحاني، ليلى مراد، سليمان نجيب، يوسف وهبي، محمد عبد الوهاب، زينات صدقي وفردوس محمد، وقدمت خلاله أغنية "عاشق الروح" لمحمد عبد الوهاب، وأدى خلالها نجيب الريحاني مشهداً تمثيلياً متميزاً.
وبحسب حديث الناقدة فايزة هنداوي، لرصيف22، لا توجد معلومة مؤكدة عن سبب تسمية الفيلم، لكنه يحوي في تفاصيله غزلاً قامت به ليلى مراد مع "الأستاذ حمام"، أي الفنان نجيب الريحاني، فالاسم يتناسب مع المحتوى. وفي هذا الشأن قال الباحث أيمن عثمان، في لقاء مع رصيف22: "اختيار اسم الفيلم له مدلول خاص، ويدلّ في مجمله على أن حلوى غزل البنات كانت موجودة قبل ذلك بوقت طويل، وأن القائمين على الفيلم أجادوا اختيار اسمه، مع الطريقة والشخصية التي ظهرت بها ليلى مراد".
تطور الحلوى في العصر الحديث
مع تطور العصر لم يعد الباعة يجمعون غزل البنات على العيدان الصغيرة، بل باتوا يعبئونها في أكياس نايلون صغيرة، ليتحول الغزل إلى مادة سكرية مكبوسة بدلاً من أن تكون منفوشة. وأصبح بالإمكان صنع غزل البنات في المنزل باستخدام آلة مخصصة لذلك، وبالتالي بات من المتاح الحصول عليها بطريقة إلكترونية دون التعب الذي كان يشعر به صانعها.
ومع الوقت، تطورت الآلات التي تستخدم لإنتاج غزل البنات، فيقول الباحث مصطفى جاد إن هناك بعض الماكينات التي تستخدم لصنعه آلياً وليس يدوياً، كما كان من قبل، وأصبح يستخدم بعض الألوان الصناعية التي تضاف إلى السكر، ليتحول لون الحلوى إلى الزهري والأصفر وغيرها من الألوان التي تجذب الأطفال.
التقى رصيف22 مع بائع غزل البنات عبد الرحمن، والذي قال إنه أصبح مؤخراً يقوم بصناعة الماكينات التي ازداد الطلب عليها في السنوات الأخيرة.
يعمل عبد الرحمن في بيع غزل البنات منذ 10 سنوات، حيث بدأ الأمر من خلال عربة صغيرة في منطقة عين شمس، ويقول: "حلوى غزل البنات لها زبائنها من الكبار والصغار، وعندما كننا ننزل إلى الريف كانوا يسمون الحلوى هناك 'لولا'، ولذلك كنا ننادي لنبيعها باسم لولا، ويلتفّ الجمهور حولنا".
البائع قال إنه كان يستخدم آلته الخاصة ليصنع غزل البنات قبل بيعه مباشرة، حتى يثق المشتري بطريقة صنعه، وكان يغطي الإناء الذي يضع فيه السكر للحفاظ على نظافته.
أما عن صناعة الماكينات، فيشير عبد الرحمن إلى أنه بدأ بذلك منذ فترة قريبة، واكتسب خبرة مع الوقت، والماكينات عادة لا تكون غالية الثمن، وهي سهلة الاستخدام، وعبارة عن حلة معدنية كبيرة، ويتم فيها استخدام محرك مياه، ويتم تصنيعها ضمن ورش خاصة.
وشرح عبد الرحمن طريقة صنع غزل البنات، وقال إن الأمر يقتصر على السكر فقط، شرط أن يكون بكميات كبيرة، ويتم وضع ألوان صناعية، كنكهة الفراولة التي يفضلها الأطفال، ثم يتم تسخين السكر جيداً، وبعدها تبدأ الخيوط في الظهور وتكون متعددة الألوان، فتجمع وتوضع في أكياس نايلون أو على العصي الخشبية، وتباع للزبائن الذين يحبونها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...