ربما لم تكن الحكومات في الشرق الأوسط متساهلة مع بعضها البعض أبداً، ولطالما كانت هذه المنطقة الشاسعة في حالة حرب، ولكن كان هناك العديد من التبادلات الثقافية بين هذه البلدان. ويعود سبب هذه التبادلات لطبيعة ثقافية مشتركة ومصير متشابه أحياناً، وهذه العناصر المشتركة والمتشابهة هي أساس الحلول المشتركة والمتشابهة.
ومن بين مثقفي هذه البلدان والمثقفين الإيرانيين، ربما يكون الدكتور علي شريعتي هو الأشهر. ارتبطت طفولة شريعتي باحتلال إيران خلال الحرب العالمية الثانية، وهي الحرب التي لحقت أضرارها الكبرى بالشرق الأوسط.
في الثمانينيات، تُرجمت كتب شريعتي في مجال الاجتماع والبحوث والمفاهيم الإسلامية إلى اللغتين التركية والعربية، وقبل حوالي أربع سنوات تُرجم كتابه الشهير "الصحراء" إلى اللغة العربية على يد حسن الصراف. لكن ما الذي يجعل فكر شريعتي جذّاباً لهذه الدرجة بالنسبة للعالم العربي، الشرق الأوسط والدول الإسلامية، بينما هناك الكثير من المفكرين الإسلاميين الكبار، ممن نشؤوا في البلدان العربية، لاسيما مصر والمغرب؟ قد تكون هناك عدة أسباب لذلك، ولكن في هذا المقال نريد أن نتطرّق لسببين رئيسين.
النقد من الداخل والاتصال بالخارج
كانت النزاعات الدينية مصدر الكثير من الصراعات، ليس في الشرق الأوسط فقط، بل أيضاً في البلدان الأوروبية والأمريكية الغنية. الحروب الدينية في أوروبا لها تاريخ طويل، وشارك المسلمون منذ سنوات فيها، ولا زالوا يشاركون. وبغضّ النظر عن طبيعة هذه الصراعات، في كثير من الحالات، كانت الخلافات الدينية في العالم الإسلامي وسيلة لتحقيق الأهداف الإمبريالية للأقوياء.
رؤية شريعتي للأساطير الشيعية رؤية نقدية، وليست تقديسية كما تعوّد علماء الشيعة
لطالما بحث مفكرو العالم الإسلامي عن حلول للحدّ من هذه التوترات والصراعات، وبالطبع في كثير من الحالات فشلت هذه الحلول، ولكن بخصوص شريعتي (إلى جانب أشخاص مثل سيد جمال الدين الأفغاني) يمكن القول إنه واحد من المثقفين الذين من الممكن أن تكون لأفكارهم إمكانيات عديدة في حلّ هذه الصراعات.
على الرغم من أن شريعتي مفكر شيعي، إلا أنه يتمتع بشعبية كبيرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وسبب هذه الشعبية هو رؤيته الخاصة للدين، فمنهجه له عدة جوانب؛ أولها أن رؤية شريعتي للأساطير الشيعية رؤية نقدية، وليست تقديسية، كما تعوّد علماء الشيعة.
أعاد شريعتي تعريف المفاهيم الشيعية على نطاق واسع، وقام بإزالة الهالة القدسية عن الأساطير الدينية، وعرضها لعامة الشعب على هيئة ملموسة وحقيقية. خروج هذه الشخصيات والأساطير من الفضاء القدسي كان جذاباً للسنّة، الذين يشكلون الجزء الأكبر من الشرق الأوسط. حوّل شريعتي الإمام الأول للشيعة، من شخصية فوق بشرية وإلهية إلى إنسان في أعلى المراتب، وأزال الكثير من الخرافات من مفاهيم الشيعة.
النقطة الأخرى التي لابدّ من الإشارة إليها في رؤية شريعتي للدين، هي أنه بدأ في إزالة الحُجُب عن وجه الدين على مرّ التاريخ. كانت فكرة شريعتي في هذا الاتجاه هي العودة إلى القرآن، وقد درَس وعالج شريعتي العديد من آيات القرآن من هذا المنظور؛ فمن أصل 114 سورة في القرآن، تحدث شريعتي عن 94 سورة، وفق ما ذُكر في كتاب "استخدام الآيات القرآنية في فكرِ شريعتي"، لمؤلفه الإيراني أمير رضائي. العودة إلى القرآن بهذه الطريقة ومن هذا المنظور كانت جانباً آخر من فكر شريعتي الذي جذب القرّاء والباحثين من أهل السنّة في العالم العربي.
في الصراع الديني في المنطقة، ينتقد شريعتي طرفي الصراع، دون الانحياز إلى طرف واحد، ما جعل منه مفكراً وناقداً محايداً طالما افتقده العالم الإسلامي، ففي التطرّق للقضايا، يُمحور فكره حول القرآن والإنسان، ويسعى للتركيز على الحرية والعدالة. هذه النظرة للدين كانت هامة وجذابة لمثقفي وشعوب الدول الإسلامية في ساحة حلّ القضايا الشائكة.
شريعتي وحاجة المنطقة لفكرة تحررية
أثارت الثورة الروسية عام 1917 حركةً وشغفاً في العالم، وكان هذا الشغف أكثر وضوحاً في الطبقات الاجتماعية والبلدان الفقيرة. ما أعدّه ماركس والماركسيون كان مبهجاً وثورياً، لكنه كان غير قابل للاستيعاب والفهم لدى شعوب البلدان الفقيرة، والتي كانت منخرطة في الإيمان الديني ومتشبّثة بالدين لسنوات عديدة.
في الصراع الديني في المنطقة ينتقد شريعتي طرفي الصراع، دون الانحياز لطرف واحد، ما جعل منه مفكراً وناقداً محايداً طالما افتقده العالم الإسلامي
كان لليسار في البداية نظرة معادية للدين، على الرغم من أنه أصبح مجبراً في ما بعد على التصالح معه. في البداية كان العمال المتديّنون في باكو، الذين هرب الكثير منهم من إيران إلى أذربيجان، يشكلون مانعاً أمام الإضرابات العمالية، حيث كانت التعاليم الدينية تمنعهم من مقاومة أصحاب العمل، لكن بمرور الوقت، رأى الاشتراكيون الديمقراطيون في أذربيجان والقادة السوفييت الحلَّ في التأقلم مع الدين، فتمّ تشكيل حزب "هِمَّت" هناك، وهو حزب ديني واشتراكي. ومنذ ذلك الحين، بدأ المتدينون بالمشاركة في الإضرابات العمالية بجدية أكبر.
الجزء الرئيسي من دخول الأفكار اليسارية إلى إيران كان من خلال حزب "همت" اليساري الديني، وفق ما ذكر محمد علي أحمدي في كتابه "الخطاب اليساري في إيران"، الصادر عام 2017 في طهران. في الحقيقة، الفكر اليساري دخل إلى الشرق الأوسط والدول الإسلامية بنوع من النظرة الدينية. ولكن ما هي اشتراكية شريعتي التي كانت جذابة للمجتمعات الإسلامية؟
نظرة خاصة للاشتراكية
اشتراكية شريعتي هي نوع من الاشتراكية الممزوجة بالليبرالية والإنسانية. وهي اشتراكية لها يدٌ في الروحانية (الدين) ويدٌ أخرى في حرية الإنسان. يعتقد شريعتي أنه لا يمكن التخفيف من المعاناة الإنسانية دون الاستعانة بهذين العنصرين.
ووفقاً لفكر شريعتي، فإن التوحيد والأخلاق والروحانية لن تتحقق دون حلّ التناقضات الطبقية للمجتمع، ولن تقضي الاشتراكية على المعاناة الإنسانية بدون الأخلاق والروحانية حتى إذا نجحت في حلّ التناقضات الطبقية.
يعتبر راشد الغنوشي نفسَه متأثراً بشريعتي
يقول شريعتي إن الإنسان متعدّد الأوجه، والاشتراكية ستُحسن بعده المادي، لكنه يحتاج أيضاً إلى الحرية والقيم الروحية. وقد جمع ووحّد كل هذه الخطابات في ثلاثيته الشهيرة "الروحانية، المساواة والحرية".
يختلف تعريف شريعتي للروحانية أيضاً عن النظرة التقليدية؛ فالروحانية لديه هي مظهر من مظاهر الطبيعة البشرية لمعرفة واكتشاف "الغيب"، و"الغيب" هو كلّ ما هو أبعد من رؤية الإنسان المعاصر، وفهمه واكتشافه يتطلّب بذل جهد علمي.
من ناحية أخرى، ينتقد شريعتي وجهة النظر الداعمة للحكومة في الدول الاشتراكية، ويشير في ذلك إلى رسالة برودون لماركس، فيقول إنه بهذه الآراء لا ينبغي أن تحُلَّ الحكومةُ محلَّ الأنبياء وتقدسها. ويعتقد شريعتي بأن ذلك حدث في البلدان الاشتراكية، حتى أكثر مما توقعه برودون. وفي الحقيقة، يقدم شريعتي سرداً إنسانياً وصوفياً للاشتراكية، من خلال انتقاده لبعض جوانبها.
جرأة شريعتي في انتقاد الدين والاشتراكية والسياسات الاستعمارية في آن واحد هي سبب شعبيته بين شعوب المنطقة، وبهذا النهج النقدي/الانتقادي، كان بديلاً جيداً للاشتراكية في البلدان الإسلامية، كما أنه بات بديلاً جيداً للثورة والنضال ضدّ الاستعمار، وبديلاً هامّاً للإسلاموية المعتادة.
ربما أثّر وانتُقد شريعتي أكثر من أي مثقف إيراني آخر في العالم الإسلامي، وتأثّر به الكثير من المفكرين في العالم العربي. ويعتبر راشد الغنوشي في مقدمة كتاب "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" نفسه متأثراً بشريعتي، وسرّ هذا التأثير هو تعريف شريعتي المحلي والمتقدم للدين والاشتراكية، وينبغي اليوم إعادة قراءة أفكار شريعتي بشكل نقدي، لأن نهجه القومي والعادل والليبرالي والصوفي قد يكون قبساً يضيء الطريق للشعوب والمثقفين في البلدان الإسلامية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت