بعد انفجار الاقتتال الأهلي وظهور التنظيمات المسلحة المتعددة في سوريا، تقلّصت سلطة الدولة المركزية، وصارت سوريا تشهد سنوياً ميلاد مئات الأطفال من دون وثائق تثبت نسبهم، وهو وضع يجد فيه الخبراء عادة مأزقاً أمنياً ربما يهدد المنطقة بأكملها.
في تقرير جديد كشف المركز السوري لحقوق الإنسان أنه وثق في عام 2020 قرابة 70 حادثة عثور على أطفال مجهولي النسب في مدينة إدلب والمناطق الريفية المحيطة بها.
ولا يعد هذا التقرير هو الأول من نوعه، إذ وثقت عدة دراسات خلال السنوات الماضية أن آلاف الأطفال المجهولي النسب ليسوا في مناطق المعارضة أو المتشددين الأجانب الذين جاءوا للقتال بأسماء مغايرة، ولكن كذلك في المدن الخاضعة للنظام السوري، الذي سمح لعناصره باغتصاب النساء.
70 طفلاً مجهولي النسب
ذكر المرصد في تقريره المنشور في 21 شباط/فبراير أن أطفالاً مولودين حديثاً، بعضهم في عمر ساعات أو أيام، يتركون بشكل متزايد على جوانب الطرق، أو أمام المساجد والمستشفيات ووكالات المساعدات الإنسانية ومقارّ المنظمات أو حتى منازل المدنيين.
وتحدث ناشط من مدينة سراقب بريف إدلب الجنوبي ويعيش الآن في شمال إدلب عن هذه الظاهرة، قائلاً: "منذ أكثر من عامين، تعهدت توثيق الحالات المتعلقة بهذه الظاهرة التي تصاعدت بشكل كبير في شمال سوريا، حيث بلغ عدد المواليد المجهولي النسب عام 2020 حوالى 50، بمتوسط ثلاث إلى أربع حالات كل شهر".
باحثون يرجعون الظاهرة إلى الزواج من مقاتلين أجانب مجهولي الهوية، أو موت الأبوين، أو تغيير أسماء الجهاديين بكنيات إسلامية.
وأضاف: "في عام 2021 لم تختف هذه الظاهرة، إذ عُثر على طفلين في كانون الثاني/ يناير، أحدهما على جانب الطريق في حي القصور في مدينة إدلب في 19 من الشهر ذاته، فيما عُثر على طفل آخر على جانب الطريق في مدينة أريحا في 12 منه".
وفي دراسة نشرها باحثون في "مركز حرمون للدراسات المعاصرة"، نقلوا تسجيل 1826 طفلاً من مجهولي النسب في إدلب وريفها وريف حماة الشمالي والغربي في عام 2019.
وفي ريفي حلب الشمالي والشرقي الخاضعين لقوات درع الفرات الموالية لتركيا، تم توثيق وجود ألف طفل غير مثبت، وعدد مماثل في الريف الغربي لحلب، وثمانية آلاف في مناطق الإدارة الذاتية الكردية.
أسباب الظاهرة
في دراسة نشرها باحثون في "مركز حرمون للدراسات المعاصرة"، أرجعوا وجود الأطفال المجهولي النسب إلى "الزواج من مقاتلين أجانب مجهولي الهوية، أو الزواج من مقاتلين محليين قُتلوا لاحقاً وتعذر تسجيل وقائع زواجهم بسبب فقدان الوثائق، أو موت الأبوين كليهما، أو تغيير أسماء الجهاديين بكنيات إسلامية".
ومن الأسباب أيضاً التي أدت إلى وجود هذه الظاهرة هو انتشار ظاهرة الاغتصاب والعمل بالجنس التجاري خلال الحرب، إذ ذكرت الدراسة ذاتها أن الأمم المتحدة قدرت وجود 25 ألف امرأة عملن في تقديم الخدمات الجنسية مقابل أجر، خاصةً في العاصمة دمشق.
في مدينة جرمانا الملاصقة لدمشق وحدها، جرى توثيق وجود 200 بيت دعارة، كما تم توثيق سماح جهاز مخابرات النظام السوري للمليشيات التابعة له ولإيران وحزب الله بإبرام عقود زواج غير مسجلة لدى الدولة، في مكاتب "زواج المتعة"، مما يعني عدم وجود عقد رسمي يسمح للأمهات بتسجيل أبنائهن.
رؤية القانون
وصف قانون الأحوال الشخصية السوري الطفل المجهول النسب بـ"اللقيط" وهو "مولود حي نبذه أهله خوفاً من الفقر أو تهمة الزنا". وبحسب القانون "يعد مجهول النسب كل وليد أو طفل لم يتم السابعة من عمره يعثر عليه ولم يثبت نسبه، أو لم يعرف والداه، أو ضل الطريق ولا يملك القدرة على الإرشاد عن ذويه لصغر سنه، أو لضعف عقله أو لأنه أصم أبكم".
في 2018 وافق مجلس الشعب السوري بالأكثرية على مشروع قانون جديد يمنح الجنسية العربية السورية لكافة مجهولي النسب. ونقلت وكالة الأنباء الرسمية أنه تمت الموافقة على المادة (20) من القانون، والتي تنص على أنه "يعد مجهول النسب عربياً سورياً ما لم يثبت خلاف ذلك".
كان هناك جدل بين مؤيد لأسباب أنسانية، ومعارض للقانون لأن هؤلاء الأطفال في نظره أولاد "دواعش وجهاد نكاح"، لكن انتهى الأمر بالموافقة بأكثرية المجلس الذين اعتبروا أن من الأفضل لأمن الدولة أن يمنح مجهولي النسب الجنسية السورية، لأنهم في حال بقائهم "مكتومي القيد" سيتحولون إلى سلاح ضدها.
تقرير يتهم الاستخبارات السورية بإنشاء مكاتب "زواج المتعة" لتسهيل زواج الميلشيات التابعة لها. وأطفال "زوجات المتعة" بقوا مجهولي النسب.
وتضمنت المادة 14 أن "مجهول النسب يبقى في دار الرعاية حتى يتم الثامنة عشرة من العمر، ويصبح قادراً على الاعتماد على نفسه وكسب عيشه، ويجوز لإدارة الدار بعد موافقة المديرية التابعة لها تمديد استضافته بعد إتمامه الثامنة عشرة من عمره لمدة سنة قابلة للتجديد، على ألا تتجاوز مدة التمديد سبع سنوات".
يذكر أنه في مناطق الشمال السوري والمخيمات حيث تسيطر المعارضة، لا توجد مقارّ للحكومة السورية يمكن من خلالها إثبات نسب الأطفال.
مخاطر أمنية
وقال الباحث السوري مالك حافظ إن الخطورة الأمنية تكمن في نشوء جيل غير مسجل قانونياً ومجهول النسب، في ظل وجود واستمرار القوى الإرهابية في الشمال السوري على وجه الخصوص، ما يجعل هذه القوى تسعى لجذبه منذ الصغر بسبب عدم وجود الراعي، فتمثل بيئة حاضنة له، وهذا ما يعني تقوية ذراع الإرهاب، وهناك احتمال انتقاله إلى المحيط في المنطقة.
وأضاف مالك لرصيف22: "ما يثير المخاوف أن جهود التحالف الدولي لم تستطع وقف النشاطات الإرهابية في الوقت الذي بات فيه عناصر التنظيمات معروفين؛ فما بالكم بمن هم مجهولو النسب، وبمن هم محتجزون في مخيمات الشمال الشرقي من سوريا".
وتابع الباحث السوري: "نحن أمام موجة خطيرة من تجديد الإرهاب في ظل عدم التفات المجتمع الدولي للمخاطر الأمنية الكبيرة التي تسببت بها الحرب في سوريا. واستمرار هذه الظاهرة دون إيجاد حلول جديّة يعني أنها تتسع وتأخذ بعدها الأمني الخطير، حينما يظهر جيل جديد تربى على أفكار أصولية متطرفة، يتجذر في المنطقة ويصبح اجتثاثه صعباً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...